للمرة الثانية استرعى انتباهي مقال على موقع هسبرس لنفس الكاتب يتحامل على علماء المغرب ،وقد رد عليه أحدهم فيما يخص مقال سابق. والمقال الأخير بعنوان : " علماء المغرب من الرسالية إلى الوظيفية " عبارة عن طعن في مصداقية علم علماء المغرب الذين لا يعدون في نظر كاتب المقال علماء سوء وسلطان ووظيفة . والمطلع على المقال يجد نفسه أمام فرضيتن إما أن صاحب المقال يجعل علماء المغرب مطية لتمرير نقد لا يمكن تمريره إلا عبر مطية أو كبش فداء ، وإما أنه يستهدف الإسلام بطريقة ملتوية ضمنية لأن خلفيته الفكرية والإيديولوجية والحزبية تقتضي ذلك . فالكتابة عن الإسلام بغرض انتقاده من خلال الكتابة عما له علاقة بالإسلام ليست جديدة في بلادنا نظرا لطبيعة التدين عندنا إذ لا يمكن أن يجرأ أحد على المس بالعقيدة في مجتمع محافظ في مشاعره وإن بدا عكس ذلك في أحواله المعيشية لهذا لا يستطيع المتملصون من الدين المجاهرة بذلك كما هو الشأن في البلاد التي لا يتردد فيها المناهضون للدين بالمجاهرة بمناصبته العداء . فكل من انتقد الدين في بلادنا لحد الآن سواء كان من الذين أطلقوا على أنفسهم اسم مفكرين تنويريين أو من المتعاطين للفكر المتواضع إنما ركب ما له علاقة بالدين من صحابة ومفسرين ومحدثين وعلماء لانتقاده تنكبا للمس بمشاعر الأمة التي يتأكد من أنها مع الدين . وهذا المنهج في انتقاد الدين يوحي بوجود الدين خارج الواقع وهي مغالطة إنما تسربت إلى المجتمعات الإسلامية من خلال محاكاة طريقة التعامل مع الدين في بلاد الغرب. فإذا كان الغرب قد قزم الدين عندما رفع شعار " ما لله لله وما لقيصر لقيصر" فإن مقولته لا يمكن القول بصحتها في المجتمعات الإسلامية التي ترفع شعار (( لله الأمر من قبل ومن بعد )) . وإذا ما تحدث أحد عن وجود سلطة القيصر إلى جانب سلطة الله عز وجل في المجتمعات الإسلامية فهو واهم أو متوهم، والواقع أن المقولة الغربية وجدت من يروج لها ويوهم نفسه وغيره بأنها واقع ، وما هي بواقع إن هم إلا يظنون. ولا يمكن أن تستقيم مقولة العلمنة في بلاد الإسلام فحتى تركيا التي فرض مؤسسها عبر الآلة العسكرية علمنة البلاد لم يفلح في علمنة الأمة فبالأحرى أن يعلمنها غيره. فمظاهر العلمنة عندنا زائفة بامتياز إذ يجانب الصواب من يعتقد بصحتها ذلك أن الإنسان المغربي المتغرب شكلا في هيئته وهندامه ومظاهر عيشه المفروضة عليه بسبب الاحتكاك بدول الشمال الغازية سياسيا وثقافيا أصيل العقيدة في أعماقه وشديد التعلق بها ، وهو يداري الثقافة الغربية من أجل البقاء ومنع الذوبان في حضارة وثقافة الغرب . فالغرب اشترط شروطا وخط خطوطه الحمراء أمام صناع القرار في المجتمعات الإسلامية فاضطرهم ذلك إلى مداهنته اتقاء لشره ، فليس قرار خيار الحداثة بالمفهوم الغربي قرارا حقيقيا بل هو قرار اضطراري. فعندما ينفجر مركز التجارة العامي وبرج الحضارة الغربية ويصرح رئيسها وقد عقد العزم على الانتقام لكرامة الغرب المجروحة قائلا : " من ليس معنا فهو ضدنا " فهل يعني هذا أكثر من فرض قرار على كل الأنظمة الضعيفة في العالم رغم أنفها ؟ وهل يعني هذا سوى انخراط هذه الأنظمة في حلف معه مرغمة لا بطلة ؟ لقد حاولت الأنظمة الضعيفة التابعة أن تكيف المعية مع بوش ومقولته على طريقتها ولكنها طريقة المضطر الواضح الاضطرار لا طريقة المقتنع المتشبع بالقناعة . فالناس عندنا يعيشون على طريق الغرب الغالب المهيمن والمهدد ولكنهم في أعماقهم يرددون : " نستغفر الله العظيم " وهو ما عبر عنه القرآن بقوله تعالى : (( إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان )) وأعتقد أن قلوب المغاربة مطمئنة بالإيمان ولكنه مكرهة لتلتحف بمظاهر الحضارة الغربية مدارة للغرب ليس غير . فالناس عموما في المغرب صوامون قوامون يصومون الإثنين والخميس وكل يوم منصوص على صيامه ، ويقومون الليل بأقل ما يسمى قياما ويخافون الله عز وجل وإن بدت عندنا الصائمات بلا لباس إسلامي ، أو بلباس هجين بسبب اللباس الغربي المفروض فرضا واختلاطه باللباس الإسلامي . لقد نجح الغرب في فرض منع المرأة المسلمة المغربية من لباسها الشرعي فوق أراضيه مع التسويق لذلك في بلاد الإسلام ولكنه لم يستطع أن يمنعها من صيام الإثنين والخميس ولا من الصلاة ، ولا من التوكل على الله عز وجل والخوف منه والاعتماد عليه ورجاء رحمته وعفوه وصفحه . أما مظاهر العربدة المستجلبة من الغرب إلى بلاد الإسلام في إطار مداهنته فهي مظاهر خاصة بشواذ لا يقاس عليهم ذلك أنه ليس كل المغاربة يرتادون الخمارات ودور القمار والفساد وكل أماكن المعصية. وليس من المنطقي أن يصير المغرب بلدا حداثيا لمجرد أن حفنة من الشواذ والشواذ هنا بمعنى الخارجين عن القاعدة العامة للمغاربة لا بمعنى الشواذ جنسيا يسايرون الثقافة الغربية المفروضة فرضا على صناع القرار بموجب قوانين الديون والقروض وجدولتها والاستثمارات وهلم جرا مما يحسب على الإكراهات لا على الخيارات. من هذا الطرح ومن هذا المنطلق أريد لمن يعالج موضوع علماء المغرب أن ينطلق لا من فرضيات لا تصح ليصل إلى نتائج غير صحيحة . فعلماء المغرب ليسوا كمما صورهم صاحب مقال هسبريس علماء سلطان ووظيفة بل علماء ككل علماء المسلمين في كل عصر ومصر. فكما يداهن أصحاب القرار الغرب في التظاهر بالأخذ بحضارته وثقافته يداهن العلماء أصحاب القرار، وهم في أعماقهم على وعي تام بمسؤولياتهم ، فهم يقومون بواجبهم الديني بما تسمح به الظروف دون أن يجزم أحد بأنهم يحاولون علمنة الدين . فما ثبت أن أحدا منهم أحل حراما أو حرم حلالا . فهم في وعظهم وإرشادهم يقدمون الإسلام كما كان صافيا غير مشوب بشائبة . وعرضهم للدين كما جاء هو في الحقيقة أكبر طريقة لتسفيه الخيار الحداثي الغربي المفروض من طرف الغرب الغالب والمهيمن بقوت الضغط والتهديد . فالآمر الناس بالمحافظة على الصلاة من تحصيل الحاصل القول بأنه ينهاهم عن الفحشاء والمنكر من معاقرة للخمر وممارسة للفاحشة وفعل كل منكر. ولا يمكن أن نطالب علماء المغرب بالوقوف عند بوابات الخمارات ودور الفساد والقمار بعصيهم وأسلحتهم لمنع شواذ الأمة من ارتيادها ليكونوا علماء الأمة لا علماء السلطان والوظيفة . وحتى السلطة التي تحرس الخمارات ودور الفساد والقمار إنما هي مكرهة لا بطلة وإلا تحرك الغرب المهيمن ليحدد للبلاد مرتبة مقلقة في سلم التصنيف السنوي ضمن لائحة الإرهاب والتطرف والديكتاتورية وكل لقب من ألقاب السباب الغربي الذي تخشاه الأنظمة الضعيفة في عالم قانون الغاب . فقد يقف حارس الأمن يحرس الخمارة ولسانه يلهج بالاستغفار وهو صائم ، وقد يغتنم الفرصة لأداء صلاته في ركن من الأركان خفية حتى لا يثير حوله الشكوك من طرف شواذ الأمة التي لا يقاس عليها .فالعلماء يشفقون على أصحاب القرار أكثر مما يخشونهم لأنهم لا يخشون إلا الله عز وجل ، وهم أرأف بهم وبالأمة ، وهم على وعي تام بما قد يترتب عن المجاهرة بالتمرد على الحضارة الغربية في مثل هذه الظروف التي تمر بها الأمة . والعلماء لا يمكن أن يتهوروا فيواجهوا حضارة غربية غاصبة بمنعها وهي حضارة بإمكانها الضغط لاستئصالهم. ألم يطالب الغرب برأس العالم اليمني عبد المجيد الزنداني ؟ ألم يسوق الغرب ومع إسرائيل للتهم ضد العالم الشيخ يوسف القرضاوي بمساندة ما يعتبرونه إرهابا ؟ فعلماء الأمة سواء في المغرب أو المشرق لا يرون في تجربة بعض علماء السلف ما يفيد مثل ما هو حال تجربة الإمام بن حنبل وغيره ممن شملهم الامتحان لمواجهتهم ما لا فائدة من مواجهته في ظروف معينة .فالذين يطالبون العلماء بمواجهة المشروع الحضاري الغربي بعنف يقابل عنفه إنما يريدون تقديم هؤلاء العلماء قرابين لحرمان الأمة من قيادتها الدينية والروحية التي تتعهدها في ظروف جد استثنائية بالرعاية اللازمة . ومن هنا قد يخامرنا الشك في فرضية من ينتقد العلماء أيفعل ذلك غيرة على الدين أم نكاية فيه ؟ فمن أهداف المشروع الحضاري الغربي استئصال القيادات الدينية والروحية التي يمثلها علماء الأمة لينفرد هذا المشروع بالأمة ويحولها إلى ما يرغب فيه خصوصا وأن تجربته في تركيا باءت بالفشل لأن حسابه أخطأ في تقدير عمق تغلل الدين الإسلامي في نفوس الشعوب الإسلامية. لقد ماطل الغرب في انضمام تركيا إليه لأنه لم يكن متأكدا أبدا من صدق علمانية مشاعر الأمة التركية المسلمة ، ولو أنه كان متأكدا من ذلك لما تردد في ضمها إلى معسكره ليتخلص من شوكة الإسلام العالقة في خاصرته والتي تسبب له آلاما مبرحة منذ قرون . فالقضاء على العلماء من خلال استدارجهم للتصريح بمواجهة المشروع الحضاري الغربي لتجريمهم ومحاكمتهم هو الحيلولة دونهم ودون أمتهم . ومن الحيل المعتمدة حيلة التشكيك في مصداقيتهم ، ومحاولة إقناع الرأي العام بأنهم مجرد علماء سلطان وعلماء وظيفة. فهذه الحيلة قد تنطلي على العوام والسذج فيفقدون الثقة في علمائهم ويبحثون عن بدائل لهم عند أصحاب المشاريع المتهورة المجاهرة بالعداء للمشروع الحضاري الغربي وهي مشاريع تستهوي الأغرار المندفعين الرافضين لواقع الأمة المزري رفضا سلبيا انتحاريا. ففي التسويق للتشكيك في العلماء دعاية للتطرف الذي يركبه المشروع الحضاري الغربي للضغط على صناع القرار وفرض هذا المشروع عن طريق هذه الذريعة.إنه من صالح المشروع الحضاري الغربي أن ينشط المجاهرون بعدائه ورفضه للمزيد من الضغط لفرضه على الأنظمة. وعلماء الأمة يتعاملون بحكمة مع الواقع ومع الظرف كما يتعامل الطبيب الحكيم مع الحالات المرضية . إنهم يصونون باطن الأمة ولا يعنيهم في الظرف الحالي ظاهرها لهذا يبدون عند أصحاب التقدير الخاطىء سواء عن وعي وسبق إصرار أم عن جهل وتقصير مجرد علماء سلطان وعلماء وظيفة وهي تهمة قد تدغدغ مشاعر الشواذ الذين لا يقاس عليهم وتخدع الرعاع ولكنها لا تؤثر على باطن الأمة المتدينة في ظروف الضغوط الغربية الشرسة.