كلما احتفل العالم بتوديع سنة وحلول أخرى، وعلت أجراس الكنائس وشجت حناجر المغنيين من شتى بقاع العالم على خشبات المهرجانات، ودقت الكؤوس بالكؤوس، وعلت القهقهات وانتشرت الاحتفالات، وزينت الأشجار، ووزعت الهدايا، احتفالا بحصيلة انجازات... عكفنا في وطننا على تدقيق الحسابات والبحث في استكمال الملفات لإغلاق وطي آخر صفحة ألم من آلامنا المتواصلة، وختم آخر حلقة من حلقات الخيبات والفرص الضائعة، بعد عد النكبات وتوزيع الاتهامات بشأنها بين الأقطاب السياسية والتنظيمات الحزبية، وبين العلمانيين والإسلاميين والليبراليين والنيوليبراليين والاشتراكيين واللامنتمين، وبين اليمين واليسار والوسط، وبين الشعب والحكومة والنظام السياسي، ووزعنا بيننا الشتائم واللعنات، ثم يطوي النسيان خلافنا لنعود ونعلق آمالنا على مشجب الكلام المعسول. ولكم تساعد نعمة النسيان على حفظ النظام والأمن الاجتماعيين، تلك النعمة التي يكمن سرها في تعاقب الليل والنهار، فما أن يتعاقب ليل آخر يوم في السنة ونهار أول يوم في السنة الأخرى، حتى يواري الشعب والحكومة والنظام سوءاتهما، ويبدأ الحديث عن التضامن الشعبي والتضامن الحكومي، وشعارات إيديولوجية "التنمية" الجوفاء، وعلى ذات المنوال يتم تبييض الصفحات وتخليط الأوراق، لإعادة التوزيع والتركيب والتجميع والتفريق في معادلات المسرحية الرهيبة، الكل فيها يساهم ومن لا ظهر يحميه خاسر. لكن التاريخ وحده لا ينسى، ولن ينسى تلك العناوين المشتركة بين ملايين الفقراء، والفئات المسحوقة من أبناء الشعب المغربي، تلك الفئات التي لا تحتفل ولا تتذوق معنى الاحتفال، وهي تتجرع آلام البرد الشديد تكفكف دمعها وتلملم جراحها في آنفكو وأخوات آنفكو، المناطق التي كذبت عليها السلطات وزينتها للقصر، تلك المناطق التي يسير أهلها حفاة عراة إلى يومنا هذا، ويقدمها الإعلام على أنها أجمل منطقة في العالم بعد اليد السحرية التي طالتها. وتلك الفئات التي خرجت إلى مخيم اكديم إزيك بعدما تفرق دمها بين القبائل، ووزعت حقوقها بين جلموس وولد الرشيد و"الصدقة في المقربين أولى"،و لن ينسى التاريخ آلام الحسيميين الذين تعرضوا للضرب على أيدي "المخزن" في حملة مسعورة تقوض الحق حتى في الاحتجاج، وهو الذي يتذكر أحداث سيدي إيفني التي توجت باعتقال المحتجين وأحداث صفرو واللائحة طويلة... لن ينسى التاريخ وحده السياسة التفضيلية لسلالة مغربية على أخرى، وكأن خريطة الأرحام في المغرب قد قسمت إلى أرحام تنتج الوطنيين والقادة والوزراء والمندوبين السامين، وتنتج السفراء والحكماء والأطر الوزارية والإدارية وكبار الإقتصاديين...، بينما تلد بقية الأرحام الرعية التي تجبر على الصمت المدقع، وتقبع تحت النعال طوال الوقت، ويتيم ذاك السؤال المحير القابع على الصدور بلا جواب، كيف لمن قادته التعيينات إلى الواجهة أن يحدث عن الديمقراطية والمساواة والحرية وحقوق الإنسان... أو يعرف معناها وهو لم يركب صهوتها للوصول إلى المقدمة ؟ وكيف لشعب تدبر كل شؤونه بالتعيينات المغيبة لمبدأ المساواة بين مختلف شرائح المجتمع أن يؤمن بشعارات العهد الجديد. ولن يستطيع النسيان طي العناوين المشتركة للكرامة، فمن يقبل على التمحيص في مطالب المغاربة في مختلف الوقفات والاحتجاجات والمظاهرات، يجد أنها محسوبة على رؤوس الأصابع، ولا تعدو أن تكون مجرد شروط دنيا لضمان العيش الكريم، وكثيرون يشاركون في الاحتجاجات وفي المظاهرات بلا أي نزعة سياسية أو إيديولوجية، ودون أي انتماء حزبي أو إلى إحدى التنظيمات الجمعوية أو النقابية، بمطالب لا تتجاوز السكن، والعمل بما يعني فيما يعنيه العيش الكريم وفقط. ولن ينسى التاريخ عينين مغرورقتين لطفل في قبيلة تسلم رقابها كل سنة لحصار الثلوج، وطفل يؤدي تحية العلم في أعلى الجبال ولسان الحال يعلو مقامات المقال، في وطن سيظل علمه يشتد احمراره إلى ما لانهاية، بعد أن تزيد أيادي الاستبداد الناعم في تلطيخ وجهه بمزيد من إسالة الدم في مذابح الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، وفي اغتصاب العدالة وانتهاك أبسط شروط الكرامة، ويزيد احمراره خجلا من واقع اشتد فيه عضد الفساد، واعتلته اللوبيات التي اغتنت بمنافقته، وهي التي ترفع فوق الرؤوس الهراوات وتكسر العظام في كل المناسبات، وتلفق الاتهامات في المحاكمات، وتحاول الظهور بمظهر الصالحين في المحافل الدولية وأمام مختلف الأمم والهيئات ... غدا نطوي عشر سنوات جديدة من أعمارنا ومن عمر الوطن، وهي التي دخلناها بلا عدة ولا عتاد، وخرجنا منها بالخفين وحمل ثقيل من الفساد، فالأكيد أن السنوات التي يطويها الزمن، ويطوي معها نسيان المغاربة الأيام الحالكة، وتقبر الفرص الضائعة، هي ضمن دائرة "لعبة نسيان" تشتد وتشتد، ومع كل يوم جديد في سنة جديدة، يبحث المغاربة على مشجب آخر لتعلق عليه الآلام الجديدة، آلام يجترها الفقير في صمت، في ولاء تام لمقولة الشاعر "وطني وإن جار علي عزيز... وأهلي وإن ظنو في كرام "، وتستمر سياسة الزيف وتصدير الأوهام، وتستمر سياسة الفزاعات واللاعقاب واللاحساب، وتستمر مع كل عام وأنتم...خيوط تنسج خيبات الأمل...