(1) ارتبط ميلاد الجماليات (الإستتيقا- L'esthétique ) بمبادرة أطلقها الفيلسوف الألماني غوتليب بومغارتنAlexander Gottlieb Baumgarten1762-1714، مع ظهور كتابه الاستتيقا Æsthetica سنة 1750، واضعا بذلك أسس تخصص فلسفي، طامح لأن يتخذ صفة العلم القائم الذات، عوضا عما كان يعرف سابقا بفلسفة الجمال أو الفن . غير أن جدة التسمية لا تعني جدة الشيء الذي تدل عليه، فقد اقترن اهتمام الفلاسفة بالجمال منذ القدم . ففي العالم القديم فرق أفلاطون مابين الجمال والفن معتبرا هذا الأخير مجرد نسخة ثالثة لجمال خالد نموذجي ينعكس في الواقع قبل أن يعكسه الفن من جديد في العمل الفني. أما أرسطو فقد حاول دراسة المظاهر العامة للنشاط الفني وخصوصا فنون الشعر، واضعا بذلك اللبنة الأولى للاستتيقا، حتى ولم تكن هده التسمية واردة بعد. في العصور الوسطى ربط رجال الدين مابين نظرية الفن والجمال ربطا لاهوتيا مشبعا بالعناصر الدينية. و في عصر النهضة ظهرت هناك علاقة جديدة ما بين الفن والواقع تمثلت في ربط الجميل بالحق Le vrais، في رؤية مثالية، انعكست بشكل معياري في نظريات القرن السابع عشر لدى الكلاسكيين الجدد الفرنسيين الذين حاولوا قراءة أفكار أرسطو على ضوء العقلانية الديكارتية، فبنو المفهوم الكلاسيكي للمحاكاة على نظرية انتقائية تقوم على كون الجميل الفني انتقاء لما هو استثنائي في الحياة، والذي ينبغي أن يكتسب بعدا كونيا في الأثر الفني، معتبرين أنه"لا يوجد جميل فني خارج الواقع والحق"(بوالو) ، لتنفتح الطريق أمام فلاسفة عصرالأنوار- هومي ، فولتير، روسو و آخرون. وكفيلسوف عاشق للعقل، توصل بومغارتن بواسطة الفكر،أن هناك نوعا خاصا من النظام و الإتقان لا يخضع بشكل كلي للإدراك العقلي. فإذا كان العقل يدرك ويفسر الموجودات تفسيرا منطقيا و مجردا، فهناك في المقابل ظواهر مبهجة مؤثرة في النفس البشرية يصعب تفسيرها، لكنها ، مع ذلك، تستحق اهتمام وتقدير الفلاسفة. فإدراك الجمال يعتمد على الأحاسيس الفردية و الذاتية التي يصعب أن نصوغ حولها أحكاما عامة ومتفق عليها، لكنها مع ذلك تستحق أن تتم دراستها في فرع أو تخصص فلسفي"علم" يهتم بدراسة الطرائق التي نرتبط بها بالواقع بواسطة الحواس على غرار ارتباطنا به منطقيا من خلال ملكة العقل. كلمة Æsthetica اليونانية التي نحث منها بومغارتن اسم التخصص الجديد تعني"الإحساس"، العلم الجديد يعني إذن علم المعرفة الحسية للوجود مقارنة مع علم المعرفة العقلية أي المنطق، وقد وصفه بومغارتن لغة تارة و مجازا تارة أخرى ب "نظرية الفنون الحرة""،"فن التفكير الجميل"،"فن المعرفة الحدسية". وبما أن كل الظواهر المدركة بواسطة الحواس لابد و أن تثير فينا شعورا بالرضا أو النفور، بالجمال أو القبح فان الشعور بلذة الجمال وضمنيا النفور من القبح، يبقى حجر الزاوية في هذا التخصص. غير أن مجال الجمال و تجلياته في الوجود و الآثار التي يخلقها الإنسان من الشساعة بما كان، الشيء الذي يستدعي التركيز، دون إغفال الجوانب الأخرى، عل الفن باعتباره المجال الإنساني المخصص لتحقيق هدا المثال ( مثال الجمال( وكغيره من الفلاسفة القدماء و المحدثين حاول بومغارتن أن يحل إشكالية صعوبة إخضاع الجميل للدراسة من خلال إقران تعريفه للجميل كإتقان ظاهري بملاحظتين أساسيتين حول الفن:الأولى- أن الفنون مادة فريد و غير عقلية؛ أما الثانية- أنها (الفنون) نوع من الإتقان البشري الموازي للإتقان العقلي، الشيء الذي يعني إمكانية إخراج جزء من جوانبها من مجال التأمل الفلسفي الميتافيزيقي إلى مجال التحليل الدقيق. ظاهر القول ،حسب بومغارتن، أن هناك إذن علمان: علم للتفكير المنطق، وعلم الإحساس أي الطريقة التي يتم الإحساس بها بالعالم و تمثيله فنيا. مساهمة بومغارتن لا تتوقف عند التسمية ولا عند التعريف، بل في الدفاع عن مجال كان يعتبر في الماضي مجالا لا يستحق عناء الفلاسفة لدرجة أن يكون علما أو تخصصا فلسفيا قائما بذاته. "علمنا، يقول بومغارتن، يمكن أن يعارضه (البعض) بأنه أدنى من وقار الفلاسفة، و أن منتوجات الحواس و الفنتازيا و الحكايات و هيجان الأحاسيس هي تحت أفق الفلسفة .الجواب: الفيلسوف إنسان من الناس . ولا يعتبر كل هذا الجزء الشاسع من المعرفة الإنسانية بعيدة عنه". ورغم ما يعترض كتاب بومغارتن من تردد وغموض (الشيء الذي ينم عن وعي عميق "بخطورة" الخطوة التي قام بها) فقد بنى تعريفه للاستتيقا على أربعة محاور. فمن حيث كونها علما يهتم بالأحاسيس فمجالها هو النفس البشرية، وبالتالي فالاستيقا علم للأحاسيس الجميلة وضمنيا القبيحة. وبما أن الأحاسيس لا يمكن أن تتم إلا من خلال الإدراك المباشر بواسطة الحواس لشيء ما، فان دلك يفرض علاقة مباشرة مع هذا الشيء في وجوده المادي (الأنطولوجي)، وبالتالي فهي أيضا علم للأشكال. غير أن أي شكل كيفما كان نوعه، لن يثير بالضرورة أحاسيس معقدة على مستوى الوجدان البشري، وبالتالي فليس كل شكل جميل، إلا إدا توفر فيه عنصر الإتقان، وبذلك فالاستتيقا، علاوة على ما سبق، علم يهتم بالأشياء المتقنة و المتفردة في الطبيعة والفن. وبما أن الإتقان يقتضي بالضرورة تفاوتا في نسبة هذا الإتقان – إذ ليست كل الآثار الفنية رائعة وكاملة - فعلم الإستيتيقا علم يهتم بالقيم أيضا. موضوع الإستتيقا إذن هو كل الظواهر الطبيعية و الثقافية(كل ما يضيفه الإنسان للطبيعة وضمنها الفن) ،كل الظواهر التي تثير فينا أحاسيس جميلة، وبشكل ضمني الأحاسيس القبيحة أيضا. نتحدث عن مجال معرفي يهتم بموضوع عام وشامل تندرج في إطاره مواضيع وسيرورات الطبيعة، المجتمع والوعي الإنساني...كل هذا يجمعه خيط ناظم واحد:هو اللذة الحسية التي يشعر بها الإنسان أثناء تملي هده الظواهر، والتي تتميز بكونها معبرة و ذات دلالة رمزية، تستعصي على التفسير العقلي. الإستتيقا ،ومهما يبدو ذلك مفارقا، هي محاولة لعقلنة اللامعقلن، من الناحية المنطقية الصرفة والذي مع ذلك، يمتلك قوانين ما كان بدونها يستطيع البشر أن يتفاعل مع الجمال إيجابا ومع القبح سلبا. ولهذا شكل كتاب بومغارتن نقطة انطلاق جدل طويل حول منهج وموضوع هدا العلم، هل يتعلق الأمر بعلم أم بتخصص discipline؟ بالجمال في الطبيعة أو الفن أو هما معا؟ -أستاذ المسرح وعلم الجمال