بعيدا عن التراشقات الإعلامية والصراع الدائر حاليا بين أكبر حزبين مغربيين (الاستقلال والأصالة والمعاصرة) والمتعلق بأسباب اندلاع أحداث مخيم أكديم إيزيك. وحتى نكون موضوعيين وغير منحازين لطرف دون الآخر، يجب علينا تشخيص الوضع بشكل دقيق حتى نتمكن من وضع اليد على مكامن الخلل في منظومتنا السياسية وتحديد عيوب مشهدنا الحزبي. فإذا كانت الدولة تمول الأحزاب المغربية من جيوب دافعي الضرائب، فهذه الأخيرة مطالبة بتأطير المواطنات والمواطنين المغاربة وبلورة مشاريع مجتمعية تقدم أجوبة حقيقية للإشكاليات والقضايا التي تلامس انشغالات جميع شرائح المجتمع المغربي. فماذا وقع بالضبط؟ فبدل أن تركز مختلف الأحزاب الوطنية جهدها في تعبئة قواعدها عبر أجهزتها التنظيمية المحلية والجهوية، وزرع الحماس في مناضليها المرتبطين قاعديا بالمواطنين في الأحياء والمدن الصغيرة والمتوسطة حتى يتمكنوا، بفضل قربهم واحتكاكهم اليومي بأولاد الشعب، من تأطيرهم وتحسيسهم بمختلف قضايا الشأن العام، فقد تم للأسف إحباط هذه القواعد الحزبية واجتثات الأطر الكفؤة، ظنا من هذه القيادات الحزبية أنها ستنافسهم على غنائمهم السياسية... فيما يتعلق بأحداث مخيم أكديم إيزيك، فإن المسؤولية ترجع بالدرجة الأولى إلى حالة الفراغ السياسي المخيف بجل مناطق المملكة، نظرا لانحصار تواجد المسؤولين الحزبيين بمكاتبهم ومجالسهم ورفقة أتباعهم ومريديهم، دون الأخذ بالاعتبار أن للأقاليم الجنوبية خصوصياتها السياسية والاجتماعية والثقافية. فكما يقول المثل المغربي "الدار إيلا كانت خاوية كيسكنوها الجنون" ، لذلك استغلت زمرة من الانفصاليين هذا الفراغ الناتج عن انقطاع نسل الاحزاب الوطنية المعتمدة فقط على تاكتيك مرحلي موصول بتجار الإنتخابات ونفوذ الأعيان المتميز بالموسمية (فقط خلال الانتخابات) دون مراعاة مصالح الفئات المجتمعية الهشة. فقام هؤلاء الإرهابيون بالانسلال وسط مجموعة من المواطنات والمواطنين الصحراويين المتضررين من أوضاع اقتصادية معينة لزرع البلبلة بينهم وتخويفهم، بل قامت بعمليات إرهابية ضد شباب عزل من الدرك والقوات العمومية ولم يستثنوا حتى سيارات الإسعاف التي لا يتم المساس بها ولو في حرب بالمدفعية الثقيلة (تغمد الله برحمته كل شهداء الواجب) وبالتالي، فالمسؤولية عن هذا الإنزلاق الخطير تتحملها جميع الأحزاب (المسماة قيد حياتها بالوطنية). وذلك بسبب توجهها التحريفي وعدم وفاء قياداتها المتعاقبة بالخط النضالي الذي طبع تاريخها إلى حدود سنة 1998. فلو تواجد المسؤولون المحليون لهذه الأحزاب بالأقاليم الصحراوية قبيل اندلاع الأزمة، عوض تواجدهم المستمر بالرباط وبأروقة المؤسسات الحكومية والتشريعية لغاية في نفس يعقوب (...) لتمكنوا، في تلاحم شامل مع احتياجات المواطنات والمواطنين الصحراويين المتضررين، من القيام بعمليات تحسيسية في مستوى تحديات الموقف و إقناع المحتجين بإثارة انتباه المسؤولين المركزيين إلى مطالبهم بأشكال نضالية أخرى ذات معالم واضحة حتى لا يتم إلباسها وتحميلها مضامين أخرى تخدم أجندة أعداء وحدتنا الترابية، وذلك بهدف تفويت الفرصة على الانفصاليين. لذا يجب الإقرار بأن الأطر الشابة هي القادرة، بالنظر لحماستها وفتوتها، على التفاعل مع الدينامية المجتمعية الناشئة و إبداع الأشكال التعبيرية المناسبة لها لتمكينها من الدفاع على مطالبها، مع الحرص على إبعادها عن الفوضية والتعبيرات العدمية كما حصل مؤخرا بإكديم إيزيك. فإذا كان للدولة حساباتها المبنية على المقاربة الأمنية والمحكومة بأجندة المحددة الآجال لتفادي الانزلاقات الخطيرة، وحتى تتمكن من استتباب الأمن بمختلف مناطق المملكة، فقد كان حريا بالقوى السياسية الوطنية المتلاشية أن ترسخ تواجد أطرها ومناضليها بمختلف فروعها المنتشرة بالبلاد، وتدعم أنشطتها عوض تقويض حركيتها مخافة ترسخ الوعي الديمقراطي لمناضليها وتمكنهم عبر أجهزتهم التمثيلية من إفراز نخب شابة قادرة على المقارعة الفكرية، وعلى استنبات مشتل للمقترحات الجادة والهادفة إلى إشاعة ثقافة وممارسة سياسية جديدة مبنية على تنافس المشاريع المجتمعية عوض التنافس على المقاعد بكل شجع وانتهازية. وبالتالي تجاوز الهاجس الانتخابوي البورصوي الذي استبد بممارسة النخبة السياسية المغربية الحالية. وعليه وجب الاعتراف أن مسؤولية الأحداث الأخيرة، قبيل حلول العصابة الزرقاوية وخفافيش الظلام، تقع بالدرجة الأولى على عاتق الأحزاب الوطنية الأربعة التي فرطت تدريجيا في مناضليها بإقصائهم ومراكمة عوامل الإحباط لديهم أو بتفويت الأجهزة التنظيمية لأعيان المنطقة وهي الاتحاد الاشتراكي، الذي لا زلت أفتخر بشرف الانتماء إلى صفوف قواعده، مع عدم التماهي مع قيادته الحالية التي فقدت هويتها وبوصلتها السياسية !! و أحزاب الاستقلال و التقدم والاشتراكية مع الإشارة إلى استكانة الحزب الاشتراكي الموحد في معارضة مريحة. هذا التوصيف القاسي لا يعفي بقية الأحزاب وخصوصا التي كانت تسمى سابقا بالإدارية، فقد كان حريا بها أن تستثمر القدرات التدبيرية لأطرها المتمركزين بالإدارات والمؤسسات العمومية لضمان الفعالية والقدرة على تنفيذ المشاريع التي تستجيب لحاجيات وتطلعات المواطنات والمواطنين المغاربة بالأقاليم الجنوبية. وذلك بهدف خلق محيط عام صحي يجعل من الرؤية الاستراتيجية، ذات الأبعاد المتكاملة في تدبير الشأن العام المحلي والمتشبعة بمفهوم الحكامة المسؤولة، نظاما متكاملا من المحاسبة والمساءلة الإدارية والسياسية للمسؤولين، لأن الحكامة الجيدة هي أحد الأعمدة الأساسية لترسيخ دولة عصرية للقانون والمؤسسات . وفي الختام، يجب التحذير من هذا الفراغ السياسي المهول الناجم عن الغياب الكلي لقواعد الأحزاب المغربية القادرة على توحيد الصفوف والطاقات للوقوف في وجه أعداء وحدتنا الترابية بالجنوب. كما يجب التحذير من انتقال العدوى إلى باقي مناطق المملكة بواسطة القوى الرجعية والظلامية التي يمكنها تفجير الوضع عبر مخططاتها وتصوراتها العدمية واستغلالها لآلام بعض الفئات الشابة التي تم تيئيسها باستغلال أوضاعهم الاجتماعية وبطالتهم. وللكلام بقية...