نظافة سيرتهم من "الفساد" ومن خصائص هؤلاء المصابيح الهداة الذين تجود بها أيام الله متى شاء وفق حكمته البالغة نظافة سيرهم من ألوان الفساد التي تنخر في مجتمعاتهم، وهذا هو مؤهلهم الذاتي للتغيير والإصلاح، هذا بالإضافة إلى سلامة صدورهم من نوازع الاستعلاء على خلق الله عز وجل، وهذا ما لخصناه في نقاء الصفحة، وسلامة الطوية. لا يحتاج المسلم لكثير تذكير بشيم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم العالية التي كانت مضرب الأمثال حتى من قبل أقطاب الجاهلية كأبي جهل وأعداء الإسلام كاليهود، أخس خلق الله مروءة ورجولة (...)، فبعد محاولة جماعية فاشلة لقتله صلى الله عليه وسلم من قبل صناديد قريش، "فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قضى صلاته مر بهم وهم جلوس في ظل الكعبة، فقال: يا معشر قريش، أما والذي نفسي بيده، ما أرسلت إليكم إلا بالذبح وأشار بيده إلى حلقه، فقال له أبو جهل: يا محمد، ما كنت جهولا...".1 هذه القولة الجهادية التي قيلت لألد أعدا الله الذين واصلوا جهد الليل بالنهار لمحاربة الدعوة الناشئة، والذين صدقت فيهم على كل حال نبوءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يتخذها بعض المخذولين شعارا ليُسيئوا كثيرا دون أن يحسنوا ولو قليلا إلى دين من أعلنها مدوية: " يا أيها الناس، إنما أنا رحمة مهداة". تصديقا لإعلان ربه جل وعلا: " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين".2 "يا محمد، ما كنت جهولا" شهادة من العدو هي ابلغ منه حين تصدر من الصديق، وبمثلها شهد بنو قريظة السفهاء3 ، بعد ان أسقط في أيديهم وكانوا من قبل يسبون الذات الشريفة بما لا يليق بجنابه المكرم صلى الله عليه وسلم. وكذلك كانت المرشحة لرفقته في مرحلة تأسيس الدعوة الربانية الجديدة أمنا خديجة، السيدة الشريفة العفيفة، كانت تسمى الطاهرة، وكانت تسمى أيضا سيدة قريش في الجاهلية والإسلام. ولئن كانت السيدة الطاهرة ممن نلن بطهرهن وصدقهن مبلغ الكمال فإن الله تعالى قد أودع في ذريتها بقية من العفيفات الطاهرات بنات وارثات للصدق والطهر والعفاف! وهكذا كانت سير كل "الرجال" الذين تركوا آثارا نيرة جددت دين الأمة عبر تاريخها! وما كان الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله بدعا من هذا الموكب النوراني هو والشريفة التي تشرفت بصحبته في رحلة هذه الحياة، بل سارا باستقامة على هدى من سبق من الهداة المهديين. قال رحمه الله: "جاء الاستقلال فكنت من الرعيل الأول من الموظفين المغاربة الذين تسلموا مقاليد الأمور من الإدارة الفرنسية. وعندئذ تعلمت بالتجربة والمعايشة كيف استفحلت أمراض الحزبية والوصولية والمحسوبية والرشوة بعد الاستقلال استفحالا عظيما، لتصير بذوراً لما نحن فيه الآن من الويلات. جربت أول الاستقلال أن أكون الموظف المستقيم. فكانوا يقولون يومئذ هذا عمر بن الخطاب جاءنا بالعدل، لأنني غيرت عادة الرشوة التي نشأوا عليها. حفظني الله عز وجل طيلة حياتي إلى الآن، وأسأله المزيد من الحفظ أن أقبل شيئا من هذه المنكرات، بل إنني لا أذكر إلا مرة واحدة جاءني رجل بدجاج وقال لي: خذ هذه الهدية. فعنفته تعنيفاً شديداً، وأغناني عن تعنيف الآخرين ما كان يعرف عني –بحمد الله عز وجل- من الجدية والصرامة بل من الخشونة في حكم بعض الناس".4 ومن تتبع محاولات استدراج الإمام رحمه الله إلى مستنقع "المؤاكلة الحسنة، والمشاربة الجميلة"،3 يقف على مدى يقين الإمام رحمه الله بموعود الله وتوفيقه لمن وفى بما عاهد الله عليه، زيادة على وضوح المنهاج النبوي الذي أعلنها مدوية منذ أربعة عشر قرنا: "والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته"5. انحياز كامل للقضية الإلهية، قضية بلاغ دعوة الله إلى خلقه واضحة كما جاءت من عند الله، بدون تعديلات بشرية لتوافق أغراض المستكبرين "الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا!". وهذان سلاحان لا طاقة لمخلوق بمن تسلح بهما، الانحياز الكامل للقضية الإلهية، واليقين الكامل في نصر الله تعالى لمن نصره! قال الإمام رحمه الله: "قال الله تعالى: "وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ".6 ما قال: مع الشاطرين. قال عز من قائل: "وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيز".7 ما وعد بالنصر من يعتمد على حيلته وينسى أنها قضية الله لا قضيته. إنما وعد من يبذل كل الجهد في التدبير، وإعداد القوة، والإقدام على التنفيذ، ويدخل من باب التضرع إلى الله العزيز، يسأله المدد والقوة والنصر. تنسينا أنفسنا الأمارة بالسوء أن التوفيق من الله عز وجل، وأن هدايته وإلهامه ونصره هي زادنا الأول والأخير. في حق الأنبياء والرسل كل هذه المعاني وهب وقدم صدق سبقت لهم بالحسنى. وفي حقنا اجتهاد وجهاد في ذات الله. وقدم الصدق والسابقة بالحسنى هي على كل حال الموئل والمعاد".8 الهوامش: 1- المستدرك على الصحيحين: أبو عبد الله الحاكم النيسابوري. 2- سورة الأنبياء، الآية: 107 3- دلائل النبوة لأبي نعيم الأصبهاني -ت 430ه - ج:1، ص: 208. ط: دار النفائس، بيروت 4- حوار مسموع نشر أخيرا على موقع الإمام رحمه الله. 5- خلاصة البرنامج الذي اقترحه، بل أملاه معاوية بن أبي سفيان على الأمة ممثلة في وجهاء أهل المدينة بعد تمكنه من الأمر بمخالسة الأمة بالسيف كما قال. 6- سورة العنكبوت، الآية: 69 7- سورة الحج، الآية: 40 8- الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله: المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا، ص: 459- ط الثانية.