تقديم يحظى موضوع الصحة اليوم، بأهمية قصوى في مختلف المجتمعات البشرية وفي سياساتها الصحية. فالصحة هي حالة اكتمال السلامة جسدياً وعقلياً، ونفسيا، لا مجرد انعدام المرض أو العجز كما عرفته منظمة الصحة العالمية. فالصحة رافد من الروافد الاساسية للنهوض بواقع المجتمع وتقدمه، فالوضع الصحي للمجتمع هو المقياس الاساسي لتقدمه رفقة التعليم والعلم والاقتصاد، ولقد صخرت جهود الدول لتقوم باستراتيجيات و برامج وخطط وطنية للنهوض بالوضع الصحي وتطوير مستوى الخدمات الصحية، وتمتين البنية التحتية الصحية. ان النسق الصحي لا ينظر اليه من رؤية أحادية الجانب، بل ينظر اليه من منظور بنيوي، أي كنسق متداخل مع مكونات ومناحي الحياة الأخرى، كالشروط والظروف الاجتماعية والعوامل الاقتصادية والمستوى التعليمي والذهني للأفراد، اضافة الى العامل السياسي كمدى وجود عدالة صحية وغياب الفوارق الاجتماعية في الصحة، وبقدر ما يعتقد أن وضع الحلول لجملة من الامراض والمشاكل الصحية يأتي نتيجة تحسين جودة الخدمات الصحية للمؤسسات والمراكز الصحية، فالمسألة لا تبدو كذلك، وذلك بسبب ان موضوع الصحة يبقى مرتبط ومتشابك مع حيثيات وتجليات أخرى، مثل ضعف الثقافة الصحية والثقافة الوقائية، وتكيف الانسان مع المجال ومدى إدراكه للمشاكل والأمراض. في سياق المجتمع المغربي، يمكن تحليل العديد من الظواهر المرتبطة بالحقل الصحي، وهي تلك الممارسات المرتبطة بالأشخاص وبأوضاع المؤسسات الصحية، لكن في هذه المقاربة سيتم تسليط الضوء على جانب مهم داخل الحقل السوسيوصحي وهو المرتبط بتمثل مرض السرطان وعلاقته بالوصم الاجتماعي والمعرفة الصحية والوعي الصحي لدى المرأة المغربية، ومن هنا يكمن التساؤل عن: ما مدى ارتباط الصحة بالنوع الاجتماعي، وبالضبط مدى تفاعل المرأة المغربية مع المرض وبالخصوص الامراض المزمنة، كيف تتمثل ذاتها كمريضة؟ ما هو احساسها؟ كيف تتفاعل مع المرض؟ وكيف تعبر عن حالتها المرضية؟ وكيف يتداخل المرض المزمن والوصم الاجتماعي ؟ هل من بدائل لتحسين علاقة المرأة بالصحة؟ المقاربة السوسيولوجية للصحة لقد اهتمت السوسيولوجيا بموضوع الصحة كحقل للممارسة الانسانية، وكمزيج من الانساق الذهنية والتعاملات وردود الفعل. وركزت الدراسات والمقاربات السوسيولوجية بالدرس والتحليل على أهمية البرامج والسياسات الصحية في النهوض بالوضع الصحي داخل المجتمع. هذا بالاضافة الى أن السوسيولوجيا كتخصص علمي تدرس الصحة مع استحضار حقول أخرى كالسياسة والاقتصاد والتعليم. فبتالي ان من بين الظواهر التي تدرسها سوسيولوجيا الصحة هي مسألة الانصاف الصحي والوعي الصحي والسببية الصحية، والمحددات الاجتماعية للصحة، وعلاقة المجال بالصحة ثم موضوع علاقة المرأة بالصحة والوصم. ان محاولة فهم موضوع الصحة من المنظور السوسيولوجي يقتضي ربط موضوع الصحة بتوفر ارادة سياسية قوية، أي وجود برامج وتجارب طبية وصحية، يلي ذلك الملائمة بين التحديات السياسية وآلية الحكامة الصحية والاهتمام بالمشاكل المباشرة وتحقيق النجاعة وجودة الخدمات الصحية التي تتبلور عبر أداء المؤسسات الصحية. وفي سياق التساؤل سوسيولوجياً عن الوضع الصحي في سياق المجتمع المغربي، فإن مؤشرات الصحة في المجتمع المغربي، تجعل قطاع الصحة أولى بالعناية والإصلاح، وتبين هذه المؤشرات أن ثلثي من السكان المغرب لا يستفيدون من نظام التغطية الصحية وأن 57 في المئة من التكاليف تتحملها الأسر، وأنه ما زالت معدلات وفيات الامهات والأطفال مرتفعة بفارق كبير مع باقي الدول، وأن الاحصائيات الرسمية تؤكد أن 120 من الأمهات يقضين نحبهن أثناء الولادة من أصل مئة ألف ولادة حية، بينما ينخفض هذا المعدل في فرنسا. والدراسات تشير الى أن نسبة وفاة الاطفال تفوق 20 وفاة في كل ألف ولادة حية في المغرب. فهذه النسب الغير الصحية قد يمكن تفسيرها بسبب ضعف الخدمات الطبية ونقص الاستثمار وقلة الموارد البشرية وغياب الوعي الصحي وتفاقم جملة من المشاكل الاجتماعية. ويمكن الانفتاح أيضا على مسألة الاعلام وعلاقته بالصحة، متسائلين عن مدى قيام الدولة بتقديم وبناء معرفة صحية عبر الاعلام لتحسيس وتعليم الافراد أهمية الحفاظ على الصحة النفسية والاجتماعية، والتركيز على آليات التعامل مع المرضى كيف ما كان نوع مرضهم دون تأسيس النظرة الوصمية القدحية والدونية. هذا ما يجعل القول أن موضوع الصحة تتفاعل فيه عوامل وعلاقات سببية تفرض ذاتها من حيث تحليلها. فالصحة والاستفادة من الخدمات الصحية لا يقتصر على وجود وتوفر هذه المؤسسات الصحية والموارد والطاقم الطبي، بل يتجاوزه الى ما هو ثقافي، أي درجة وعي أفراد المجتمع وإقباله على الخدمة الصحية. ومن خلال هذه القراءة، سيتم التركيز على موضوع صحي هام، وهو علاقة المرأة بالصحة وتمثلاتها الاجتماعية حول مرض السرطان، وتفاعلها مع المرض، مع استحضار المحددات الاجتماعية والعوامل الثقافية والتعليمية التي تساهم في سلوك صحي أو مرضي للمرأة، في تعاملها واحساسها بالمرض. وبقدر ما مثله موضوع المرأة من أهمية جوهرية في الدراسات السوسيوصحية، فّإنه يمكن توسيع مجال التحليل أكثر للتساؤل عن علاقة المرأة بالصحة والوصم وتمثل المرض المزمن كالسرطان على وجه التحديد. المرأة من منظور سوسيولوجيا النوع الاجتماعي ان المرأة ذات تستحق كل الاهتمام والتقدير، ودورها يكتسي أهمية بارزة في النهوض بالمجتمع، فكثير من الدراسات التنموية حاولت التركيز على دور المرأة في بناء المجتمع، فقد اعتبرت هذه الدراسات أن تكوين المرأة وتعليمها قد يفضي بالمجتمع الى تحقيق وجهة ايجابية، لكن بقدر ما خلصت هذه الدراسات الى نتائج منطقية ومعقولة، فقد تقاطعت أفكار أخرى مع هذه الدراسات، وذلك أن الرهان على المرأة وتكوينها لا يخلو من تفكير برغماتي (نفعي) يتأسس على النظر الى المرأة كوسيلة لتحقيق غايات تنموية. أو اعتبارها وعاءا فارغا من دون فعالية. ان بناء الفرد هو الاساس لتحقيق التنمية الصحية، لكن ملاحظة وضع المرأة في سياق المجتمع المغربي، يطرح العديد من التحديات والصعوبات المعرفية، فوضع المرأة المغربية يتأسس على وجود بنية اجتماعية تحدد سلفا أدوارا خاصة للنساء وأدوار خاصة محددة للرجال، وهذا ما تحدث عنه عالم الاجتماع الفرنسي "بيير بورديو" في كتابه "الهيمنة الذكورية"، والذي يعتبر أن هناك عنفا رمزيا يمارس على المرأة في مقدمتها أنها تنظر لنفسها نظرة دونية وتقلل من شأنها، هذا ما يؤثرها على وعيها الذاتي بمختلف المجالات كالصحة والسياسة والدين، وأكثر من ذلك ان النظر الى المرأة من زاوية الجسد، يمكن اعتبارها بتعبير الباحثة السوسيولوجية المغربية "فاطمة المرنيسي"، أن جسد المرأة يصبح رمزيا في ملك الرجل الذي يمارس نوعا من الهيمنة عليها دون وعي منها وباعتراف من المجتمع الذي يكرس ذلك. تعتبر الباحثة المغربية "فاطمة المرنيسي" والتي تتحدث عن فكرة الجنسانية، أن المنظومة المجتمعية للمجتمع المغربي تنبني على اعطاء الجدارة للرجال في الدرجة الاولى، وهذا ما يتجلى على وجه تحديد في سلطة الرجل داخل الاسرة، يلي ذلك في الدرجة الثانية، سلطة الابن الاكبر ثم الجدة نظرا لحمايتها وخبرتها وغياب غوايتها الانثوية، يلي ذلك في النهاية موقع المرأة المهيمن عليها في أسفل المنظومة الاجتماعية. هذا الامر يفرض على نحو مباشر ممارسات تقوم بها المرأة قد تكون قاصرة يغيب فيها الوعي الذاتي الحقيقي وذلك بحكم الثقافة السائدة في المجتمع. فالعلاقات والأدوار الاجتماعية مبنية على التقسيم الجنسي للعمل بين الرجل والمرأة، تحدد سلفا وظائف معينة لكل منهما. وفي كتابها "الجسد الانثوي وهوية الجندر" تبين الباحثة المغربية "خلود السباعي" أن وضع المرأة في سياق المجتمع المغربي يطرح اشكالات متداخلة في مقدمتها استمرارية نفس المنطق المحدود في النظر الى المرأة من الناحية الجسدية، و أنها تضطلع بأدوار تحد من حقها وقدراتها. هذا ما يجعل بنية الهيمنة الذكورية تستمر دون اعطاء أهمية اللازمة للمرأة، هذا ما يفضي الى جعل المرأة لا تدرك ذاتها جيدا ليغيب على اثر ذلك وعيها الحقيقي وتراجع مستوى ثقافتها بمواضيع الحياة المختلفة. المرأة والصحة وبروز الوصم الاجتماعي رغم تقدم المجتمعات البشرية، فما زالت علاقة المرأة والصحة ملتبسة ومعقدة تطرح تحديات كثيرة، فهناك تقصير في حق المرأة وبالخصوص في المراحل الاولى من عمرها، فالعديد من تقارير منظمة الصحة العالمية اضافة الى دراسات صحية، أكدت أن الوضع الصحي للمرأة ما زال متأزما تشوبه أشكالا ناقصة، كالحديث عن غياب الوعي الصحي للمرأة وعدم استفادتها من الخدمات الصحية وضعف معرفتها بالأمراض المزمنة كالسرطان وذلك بحكم تفاقم العديد من العوامل كالعامل الثقافي والذهني والمادي الذي يتأسس في وجود تحدي المال في التكلف بمصاريف المرض. تعيش المرأة المغربية وفقا لثقافة مجتمعية تقليدية، قد يسود فيها منطق الصدفة والمعرفة العادية المضطربة وتقل فيها الثقافة العلمية المبنية على الفهم الجيد لأشكال ومظاهر الحياة، ولا يخلو الحديث عن المرأة في السياق المجتمع المغربي عن وجود عائق يعترض أكثر حياة النساء، وهو غياب أو هبوط مستوى الوعي الصحي ووجود ثقافة صحية أو ثقافة وقائية ضعيفة، وذلك نظرا لتفاعل العديد من المعطيات والعوامل، في مقدمتها انتشار ثقافة المجتمع حول المرض وتمثلاته للشخص المريض وخصوصا اذا ما كان يعاني من الامراض المزمنة كالسرطان والسيدا، يلي ذلك انتشار النظرة الوصمية تجاه المرأة، على وجه التحديد وبالخصوص اذا ما كانت تعاني من مرض السرطان، هذا الوصم الاجتماعي الذي يعمل على تأزم الوضع النفسي للمرأة المريضة. فالمرض يصبح بالتعبير المتداول في الشارع "شوهة" و"نقص" و"أزمة"، وهذا ما يؤسس ردود فعل جديدة مبنية أحيانا على الابتزاز والنقص الذاتي والوصم الهدام. ان تحليل حالة المرأة المريضة بالسرطان على وجه التحديد، ينفتح على أوضاع متداخلة، في مقدمتها بروز مشكل الاسرة وبالضبط العلاقة مع الزوج ومحاولة اقناعه بالمرض من طرف المرأة، حيث قد يفضي هذا الوضع الى ممارسة العنف الرمزي والجسدي أحيانا على المرأة من حيث لا تدري. اضافة الى مشكل آخر هو عدم قدرتها على البوح والإفصاح عن المرض، مما يجعلها تتموقع داخل بنية مغلقة يصير الخروج منها أصعب بسبب ثقل المحيط الاجتماعي وانتشار التقافة العامية. فالحالة المرضية لهذه المرأة تصبح كحالة احباط وأزمة نفسية، تدخل فيها المرأة في عوالم التفكير عن المآل والحل، حيث تستحضر في ذهنيتها نظرة الناس، واستحضار الهاجس المادي (مصاريف العلاج)، وكيفية مجابهتها للوصم النفسي والاجتماعي في نفس الوقت. ان تفكير المرأة المصابة بمرض السرطان في وضعيتها النفسية، يزيدها تأزما، وذلك بفعل تعمق احساسها الذاتي أنها ناقصة ولم تعد منتجة وفاعلة، بل تتمثل نفسها كجسد منهك ومعطل لا وظيفة له، جسد تم التخلص منه دون أي اعتبار. وهذا ما يجعل المرأة تحس بالدونية وتصور نفسها بأبعش الصور. وعلى العكس من ذلك، ان افتراض وضعية أخرى للمرأة، بحيث أنها لو كانت تحمل ثقافة صحية، ووعيا وقدرة على التعبير، فإنها تستطيع التغلب على هذه العوائق الاجتماعية والثقافية والمادية. وفي هذا السياق يتحدث الطبيب النفسي "آرثر كلاينمان" حول مسألة الصحة والوصم، معتبرا أن الامراض المزمنة تفضي داخل المجتمع الى نشوء وصم اجتماعي تجاه المرضى المصابين بمرض السرطان أو الامراض العقلية، هذا الوصم الذي يؤثر بشكل قوي على الوضعية الاخلاقية والمكانة الاجتماعية لشخصية المريض والذي يحس على ذلك بأزمة وضعف نفسي. هذا بالاضافة الى أعمال الانثروبولوجي "غوفمان" والذي يبرز تأثيرات الوصم الاجتماعي الممارسة رمزيا على شخصية المريض داخل المجتمع. ومن هذا المنطلق يمكن القول أن امرأة لها أحقية في العلاج والاستفادة من الخدمات الصحية والتعبير بكل حرية عن أوضاعها، مع تغيير تلك التمثلات الوصمية المحاطة بها. بحثا عن البدائل... ليس من اليسير تقديم جملة من البدائل والمحاولات الاجرائية للنهوض بعلاقة المرأة بالصحة على نحو اعتباطي، لكون ان الحلول تفرض بالضرورة تجاوبا عمليا وناجعا، دون أن يعمل على الحفاظ على نفس الوضع بآليات ضعيفة وغير مكتملة. لعل من أبرز البدائل التي يمكن تسجيلها هو الانكباب على بناء مشروع الفرد المسؤول والواعي، منذ النشأة وترسيخ ثقافة وقائية وصحية. وتحسين المعارف في مجال صحة الفتيات والنساء، وتوفير جملة من خدمات الرعاية الصحية من الميلاد الى مرحلة الشيخوخة واتخاذ اجراءات سياسية ناجعة في قطاعات أخرى لتفعيل وضع الصحة. يلي ذلك أيضا ادماج الجمعيات التنموية في صلب الاهتمام بالوعي الصحي لدى المرأة والأسرة، عبر قيامها بورشات تعليمية وتحسيسية، والقيام بحملات توعية ناجعة قائمة على التتبع والاستمرارية، وخلق خلايا للاستماع الصحي وجعل المرأة تعبر عن أوضاعها. ونهج المقاربة التشاركية كمبدأ أساسي لتشخيص علاقة المرأة بالصحة. وبلورة برامج اعلامية مستمرة تركز على صحة المرأة وحفاظها على ذاتها وتنمية ثقافتها الوقائية والصحية. خاتمة ان الحديث عن صحة المرأة اليوم، بات نقاشا ملزما من طرف جميع المجتمعات، من حيث انها تسخر جهودها عبر وضع تجارب وخطط واستراتيجيات الصحة، لتفادي جملة من المخاطر الذاتية والموضوعية التي قد تواجه تقدم المجتمع. ولهذا فالاهتمام بالوضع الصحي للمرأة يبقى رهان أساسي للمجتمع المغربي وكرافعة للتنمية البشرية وجعل المرأة في قمة أي مشروع تنموي، فكلما تبلورت مشاريع وخدمات موجهة للمرأة لتمكينها وتأهيلها فإن الامر سيفرز لا محالة نتائج اجرائية معقولة وناجعة. ومن هنا فتغيير بنية تفكير الافراد وتنمية ثقافتهم الصحية تصبح عاملا أساسيا في تجاوز كل العوائق المرضية، وبقدر ما يصبح التفكير في الصحة هاجسا مجتمعيا، فإنه يجعل من صعوبة الحسم مع الوضع الصحي في سياق المجتمع المغربي أمر ممكنا وليس مستحيلا، من حيث أهمية تقويم ومتابعة الاصلاحات والقرارات الصحية وتطوير البحث العلمي لمعرفة التحديات، وتحقيق التعاون والمساواة في الصحة بتعبير السوسيولوجي المغربي "المختار الهراس". وليس موضوع المرأة والصحة والتمثلات الاجتماعية حول الامراض المزمنة كالسرطان، هو احدى تجلي من تجليات الواقع الصحي بالمجتمع والذي يحتاج الى نجاعة بقدر ما يحتاج الى كثرة المؤسسات الصحية. -أستاذ باحث في مجال علم الاجتماع والفلسفة