على درب الحرية.. لاشك أن مواقع التواصل الاجتماعي لعبت دورا رائدا وخطيرا في تحريك راكد الركون والانبطاح الذي عاشته الشعوب العربية، تحت نير الفساد والاستبداد الذي طال وجودها المادي كما المعنوي، منذ حصولها على ما سمي بالاستقلال. مما أسس لتصنم و"عبودية" عاشتها شعوب المنطقة، وظلت تقتات منها عوائل خاصة على امتداد الوطن العربي، لعقود من الزمن. فلقد نجح شباب هذه المواقع، في ظرف قياسي، أن يحققوا الاستثناء؛ باستتثارة الهمم، وتحريك الموات الذي ران على النفوس والأجساد في مجتمعات الاستبداد، والفساد، و"الحكرة".. فكانت النتيجة، حراكا شعبيا هادرا ململ الجثث الجاثمة على صدور الشعوب، وأزاح من على الكراسي الوثيرة، ثلة من رموز الاستبداد، والفساد. لكن هذا النجاح الاستثنائي الذي حققته أنامل صبية وشباب، ظلت ترقن على لوحات الحاسوب دعواتها للتظاهر، والاحتجاج، لم يمر دون أن يواجه بمقاومات مضادة، لكائنات لا تستطيع أن تعيش خارج "عائدات" الظلم الاجتماعي، والفساد الأخلاقي والاقتصادي الذي يمول وجودها في مجتمعات ال"حكرة" و"قلة الشئ"؛ فكانت الثورات المضادة المتواطئة مع رموز الفساد والاستبداد، والتي قلبت مسار الحراك الشعبي رأسا على عقب، وحولت أماني الشعوب المنتفضة إلى سراب. كما حولت سلميتها، التي اعتقدت في فترة من فترات الحراك، أنها أقوى من سلاح أنظمة الاستبداد، إلى تهمة تُحاكَم عليها أمام دُمىً تحركها أيادي الديكتاتورية. نعم، لقد نجحت هذه المواقع الاجتماعية في تحريك الشعوب بثوراتها المُؤَسِّسة، ضد الظلم والاستبداد. لكنها في ذات الوقت، استُغِلَّتْ من قبل مقاومي التغيير لإحداث الثورات المضادة، التي توسلت في البداية ب"السلمية"، من أجل الحفاظ على المصالح المهددة، والامتيازات المحرمة، تحت شعار :" عاش النظام" !، في مقابل :" يسقط النظام"، الذي رفعه الحراك الشعبي. لكنها ما لبثت أن تحالفت مع "البلاطجة" و"الفلول" والعساكر، بعد أن أحست بأن وضعها المحرج، أمام الشعوب، لن يسعفها في مواصلة النزال السلمي الذي يتطلب تحالفا جماهيريا، انفض غالبيته من حولها، لتتحول حلبات الصراع إلى ساحات للدماء، والقتل، و الأشلاء، والدمار،...ويتحول معها الربيع إلى خريف، خسرت معه الأمة أكثر مما ربحت !. "الفيس بوق"! أجل، لقد لعبت مواقع التواصل الاجتماعي، خصوصا موقع "الفيس بوك"، دورا متقدما واستثنائيا في إيصال صوت الشعوب العربية إلى العالم، ونفض الغبار عن جزء كبير من المعاناة اليومية، والظلم الممنهج، الذي ظل يسلط عليها على مدى عقود من قبل حكام الاستبداد و"الحكرة"؛ لكن هذه الفضاءات ما لبثت أن تحولت إلى سوق رخيص، ومُستهجَن، يلجه كل من هبَّ ودبَّ، لنشر المكبوتات، وتصفية الحسابات، واستعراض العضلات السياسية، والنقابية. فلقد تحول هذا الفضاء الأزرق إلى ميدان للمباهاة، والرياء،.. بامتياز. حيث احتلت فيه الصور الشخصية مكانا واسعا. وتحول إلى "مارستان" حقيقي يطفح بكل الأمراض النفسية؛ المعروفة منها، وغير المعروفة. "شوفوني" أو"مرض الصورة" ! فلقد لاحظت من خلال متابعاتي لما ينشر في هذا "البوق"، أن مجموعة من رواده يعيشون مشكلة حقيقية مع صورهم الشخصية. فما أن يعرضوا صورة لهم حتى يستبدلوها بغيرها؛ في هستيرية غير مفهومة مطلقا. فتارة يعرضون صورهم وهم ضاحكون، وتارة متهجمي الوجوه، وتارة ببدلة رسمية ، وتارة ببدلة رياضية،... وهكذا في انشغال مَرَضيٍّ بالصورة لا ينتهي. وكأني بهؤلاء كلما عرضوا صورة انشغلوا بعَدِّ أعداد المعجبين والمعجبات، وقراءة تقييم المعلقين والمعلقات؛ فإن لم تشف غليلهم، غيروا "اللوك" بغيره، كما يغيرون ملابسهم. وهكذا في انشغال طفولي عجيب، وغير مفهوم !! . وفي المقابل، عرفنا علماء، ومفكرين، وسياسيين محترمين،... اكتفوا بصورة واحدة لم يغيروها أبدا، حتى أصبحت علامة عليهم لا نعرفهم بسواها. ومنهم من يتحاشى عرض صورته بالمطلق، ويكتفي بعرض صورة تعبر عن قناعة، أو فكرة، أو موقف،...وأغلب هؤلاء من عقلاء الغرب وعلمائهم . "أبطال" بلامجد.. !! أمام فقر العطاء المُؤَسِّس، والإبداع الناجح، وما يتطلبه ذلك من مكابدة النفس الكسولة، وسهر الليالي، ومراكبة العلم والتعلم (أي:مكابدة العلم بالرُّكَب)؛ اختار جماعة من الناس ممن لم تسعفهم قدراتهم العلمية، على احتلال مراتب الشهرة المتقدمة في مضمار العطاء، والإبداع، والنفع العام،...ولوج هذا الفضاء، لقطع مراحل المجد، والشهرة، والانتقال السريع إلى "العالمية"، عبر نقرات على لوحات الحاسوب، ومشاركة أمة هذا الفضاء بانطباعات، وأفكار، تختارها بدقة متناهية، بهدف استثارة الأصدقاء، لكسب إعجاباتهم، ومشاركاتهم، وتعليقاتهم. وقد يختار بعضهم تحميل مساهماته بجرعات زائدة من "جرأة الخطاب"(وإن كانت جرأة "الفيس بوك" ليس بجرأة) أو "عهارة اللفظ"، ليزيد في منسوب التفاعل مع الأصدقاء الذين يتحول غالبيتهم إلى أعداء حقيقيين، وتتحول تعليقاتهم إلى سيوف قاطعة، لا تبقي ولا تذر؛ في حين يتسلى –هو- بهذا الاهتمام المتزايد، ويفرح بهذه الشهرة الرخيصة التي بدأت تتسلل إلى حياته من غير حولٍ منه ولاقوة؛ تماما كما فعل ذلك الأعرابي المغمور الذي بال في بئر زمزم، فلما سئل، قال:" إني أحب أن أدخل التاريخ ولو عن طريق اللعنات". أوكما فعلت "صاحبة الصاك"، التي خرجت إلى الإعلام تتباهى بالعدد غير المسبوق للذين شاهدوا شريطها الساقط: "اعطيني صاكي"، واعتبرت ذلك عربونا على نجاحها في ميدان الفن – عفوا العفن- الذي تروج له، هي ومثيلاتها، وأمثالها !!. الشيطان الأزرق ! ولعل من أخطر الأثافي والخطوب التي يُسْقِط فيها هذا "الشيطان الأزرق"؛ هي آفة الرياء الماحقة للأعمال، والمذهبة للأجر. فلقد أصبح بعض المحسوبين على التيار الإسلامي، يا للحسرة !!؛ لا يتورعون عن نشر أعمالهم الخيرية، ومشاركة مساعيهم الحميدة، وخدماتهم التي يقدمونها للناس، مما يستلزم قبوله عند الله تعالى؛ الإخلاصَ فيه. بما يعنيه ذلك من قصد الله تعالى وحده به دون سواه. فلقد تحولت صفحات بعض أبناء الحركة الإسلامية، إلى مَعَارض حقيقية لمنجزاتهم الخيرية، وأعمالهم الدعوية؛ يستدرون بها الإعجابات والمشاركات و الإطراءات... وإنما خصصنا هؤلاء بالذكر، ضمن عموم رواد هذا الموقع، لعلمنا أنهم الأحرص على الإخلاص في القول والعمل، والأعلم بخطورة الرياء عليهما، والأجدر ألا يغيب عنهم أنَّ لِقَبول الأعمال شروطا (الإخلاص والصواب) دونها تحول العمل إلى مجرد جهد ضائع على صاحبه وإن استفاد منه غيره. فقد كان سلف هذه الأمة الصالح، من الصحابة والتابعين، يتحرَّوْن الإخلاص في الأقوال والأعمال، ويجتهدون في إخفاء أعمالهم التي يقصدون بها وجه الله تعالى، مخافة أن تضيع منهم؛ ثم يصيروا إلى ربهم، فيجعل ما عملوه في الدنيا من الخير، هباء منثورا :" وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا " (الفرقان؛ 23). وفي معناها يقول الدكتور محمد راتب النابلسي – حفظه الله-:"عملٌ عظيمٌ؛ عظيم بلا إخلاص، يجعله الله هباءً منثوراً. وعملٌ قليلٌ مع الإخلاص، يتقبلّه الله عزّ وجل. وربما كان هذا العمل مع الإخلاص سبباً لنجاةِ صاحبه من عذاب الدنيا ومن عذاب الآخرة". وفي الحديث القدسي: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك. من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه" (رواه الإمام مسلم). وإنما المخلص من اجتنب مراءاة الناس بعمله، واستوى عنده مدحهم وذمهم؛ فلا يُفْرِحُه مدح، ولا يُحْزِنُه ذَمٌّ. فلا شك أن الكثير مما يعرضه هؤلاء على صفحات هذا المارد الأزرق، مُسْقِطٌ في هذا المحظور، وإنِ ادَّعَواْ قصدهم خلاف ذلك. فقد كان مَنْ هُمْ خير منهم، يبالغون في سِتْرِ أعمالهم، ويجتهدون في كتمها، حتى عن أقرب الناس إليهم، مخافة أن تضيع منهم، ويفقدوا ثوابها. فأين هم من هؤلاء؟ !. وأين هم من تحقيق هذا الإخلاص، العزيز(الشديد) على خير هذه الأمة، في أعمالهم التي يقصدون بها وجه الله؛ وقد حولوا صفحاتهم إلى ساحات لاستعراض الإنجازات، وأعمال الخير، واستدرار الإعجابات، والتبريكات، والإطراءات،...؟ !!! فما معنى أن تنفق نفقة، أو تغيث إنسانا، أوتساعد محتاجا، أو تقدم نصحا، أو تصل رحما، أو تقدم درسا، أو تعتمر عمرة، أو تحج حجة، أو تُصلي صلاة، أو تصوم يوما،... ثم توثق ذلك بالصوت والصورة، وتنادي في العالمين: هَاؤُمُ انْظُرُوا إنْجاَزِيَهْ!!!؛ إن لم يكن ذلك طلبا لثناء الناس، وشكرهم، وذكرهم؟ .!!! ولا يقولَنَّ قائلٌ: إن هذه طبيعة هذه المواقع. فقد أُحدثت لتقاسم الهموم، والتجارب، والنجاحات، كما الإخفاقات. لأنَّا نقول: هذا أمر، وما قصدناه أمر آخر. فالذي قصدناه هو تلك الأعمال التي يقصد بها أصحابها وجه الله تعالى، ويرتبط قبولها، عنده سبحانه وتعالى يوم القيامة، بالإخلاص والصواب. وهي الأكثر عرضا في هذا الفضاء، والأكثر استدعاء للإعجابات، والمشاركات، والتعليقات،.. فلِمَ لا نترك لغيرنا أن ينشر عنَّا، ولا نتورط في شكر أنفسنا؟. فذلك- ولا شك- أدعى للشكر الخالص من حظ النفس، والأسلم من آفات الرياء، والتسميع والعُجْب؟؟. كما لا يفوتنا أن نشير إلى أن مقصودنا– هاهنا- محصور فيمن يصدر عن عقيدة اليوم الآخر في الفعل، والقول، والسلوك. أما من قلب ظَهْر المِجَنِّ على الدين والآخرة، حتى صرَّح بذلك جهارا. وحصر الحياة – كل الحياة- في هذه الدنيا فقط؛ فذلك ممن ليس مقصودنا من هذا المسطور؛ لعلمنا أن الإخلاص في العمل عنده، أوالرياء فيه؛ سيان. مادامت غاية أمانيه، ومنتهى سعادته، أن ينال حظه من هذه الدنيا؛ ذِكْرا، وثناء، وتصفيقا، ومجدا،...!! ومن عدل الله سبحانه وتعالى ألا يضيع أجر من أحسن عملا؛ مؤمنا كان أو غير مؤمن. فالأول يجزيه الله على إخلاصه- بقصده التَّعَبُّدَ من أعماله لا الحَظَّ – في الدنيا والآخرة، أو يدخر له الأجر كله إلى الآخرة. والثاني يجزيه الله تعالى كذلك خيرا، ولكن في الدنيا فقط، حتى يستنفد ما عمله من خير، وليس له بعد ذلك في الآخرة من شيء. قال تعالى:" مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ۖ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ " ( الشورى، الآية :20)..صدق الله العظيم. ... دمتم على وطن... !!