هذا المقال، كما يتضح من عنوانه، هو محاولة للتفكير في سياق النقاش الوطني الذي يجري منذ مدة حول أوضاع التعليم بالمغرب وآفاق إصلاحه. وحينما أقول "التفكير"، أو "محاولة التفكير" بالأحرى، فهذا يحيل أولاً على نبذ الشعاراتية، والخطابة الجوفاء، والنعرات السياسوية والقومجية وما شاكلها، وعدم الانطلاق من أي مُسلمة مهما كانت. بل إني أنطلق هنا من سؤال في منتهى البساطة: ما الذي فشل بالتحديد؟ هل هو التعليم؟ أم السياسة التعليمية؟ أولاً، وقبل أي محاولة لبلورة جواب عن هذا السؤال، تجدر الإشارة إلى أن المعني أساساً ب"الفشل" هو التعليم العمومي تحديدا. أما التعليم الخاص فهو يُعتبر، حتى الآن، "ناجحاً"، أو ذلك ما يتردد على الأقل في كل ما راج ويروج حتى الآن من "أطروحات" و"تحاليل" و"تشخيصات" ...إلخ. وعليه، يجدر بي أن أعيد صياغة السؤال ليصير على الشكل التالي: ما الذي فشل بالتحديد؟ هل هو التعليم العمومي؟ أم السياسة التعليمية العمومية؟ ربما يتساءل القارئ، عن حق، حول الفرق بين "التعليم" و"السياسة التعليمية". والجواب هو أن التعليم عمليةٌ فيها طرفان فقط هما "المعلم" و"المتعلم"، حيث الأول ينقل "المعرفة" إلى الثاني الذي يُنتظر منه أن يتلقاها ويتمثلها ويستوعبها ويوظفها التوظيف السليم في المحطات التقويمية التي يكون عليه اجتيازها، ثم، لاحقا، أن يستثمرها في حياته المهنية خاصة وفي حياته الاجتماعية بشكل عام. و"المعرفة" هنا لا تقتصر على "المعارف" من حيث هي معلومات كمية وإنما تتسع لتشمل الجانب المنهجي والكيفي بدوره. وإذا ما كان هناك من فشل على هذا الصعيد فلا يُمكن رده مبدئياً إلا إلى أحد الطرفين أو كليهما. أما عندما يتعلق الأمر ب"السياسة التعليمية" فإننا نصير أمام مكونين: السياسة ثم التعليم. وبالطبع فالسياسة هنا لا تحيل إلا على معناها البسيط جدا، أي "فن إدارة وتدبير الشأن التعليمي العمومي". أيضا، فحينما يتعلق الأمر ب"السياسة التعليمية" نصبح، بقوة الواقع والمنطق معاً، أمام ثلاثة أطراف: السياسي، والمعلم، ثم المتعلم. وبالنتيجة تغدو مسؤولية "الفشل"، بدورها، متقاسمة ومشتركة بين الأطراف الثلاثة. ولتحديد قسط المسؤولية الذي يتحمله كل طرف يتعين، ما لم أكن مخطئا، أن نحدد مهمة كل منهم. وبما أننا قد حددنا مهمتي المعلم والمتعلم فقد بقي لنا أن نحدد مهمة السياسي. وحيث أننا أخذنا السياسة بمعناها البسيط جدا كما أسلفنا فمهمة السياسي هنا هي، ما لم أكن مخطئا مرة أخرى، "إدارةُ وتدبيرُ الشأن التعليمي العمومي". ولربما يمكننا، سيرا على نهج البساطة الذي اتبعناه منذ البداية، أن نقول بأن إدارة وتدبير الشأن التعليمي العمومي تشمل بشكل أساسي ثلاثة محاور كبرى: وضع خطة التعليم، وإدارة وتنمية البنية التحتية، وإدارة وتنمية الموارد البشرية. ما الذي فشل إذن؟ هل فشلت العملية التعليمية التعلمية في مبدئها البسيط، أي كعملية نقل للمعارف الكمية والنوعية؟ أم فشل التعليم العمومي باعتباره أولاً وأخيرا منظومة تدبيرية، أي منظومة سياسية؟ يقول "الخبراء" والتقارير و"الأطروحات" و"التحاليل" و"التشخيصات" جميعاً (والعهدة عليهم) أن نفس المعلم الذي "يفشل" في التعليم العمومي "ينجح" في التعليم الخاص. ووزارة التربية الوطنية والتكوين المهني ما تزال، حتى الآن، ترخص لمواردها البشرية بالعمل في المدارس الخصوصية، ووضعت جدولة زمنية لإنهاء العمل بهذه التراخيص في أفق زمني معين حتى لا تُربك التعليم الخاص "الناجح" بسحب معلميها "الفاشلين" دفعة واحدة، وأصدرت مذكرة وزارية في هذا الشأن. وبالاستنتاج البسيط، على طريقة Glaucon، عبر الاستعمال الساذج (أو حتى الأبله) لمبدأ "الهوية وعدم التناقض"، فلا يمكن أن يكون نفسُ المُعلم، ولا نفس المتعلم، "ناجحاً" و"فاشلا". ولا يبقى أمامنا، بالتالي، إلا خيار وحيد تقودنا إليه الضرورة المنطقية، ويؤكده الواقع قبلها وبعدها، هو أن الفشل فشل سياسي وتدبيري، وبالنتيجة فهو فشل للقائمين على وضع السياسة التعليمية وتنفيذها في مُجملها، لا فقط في شقها التعليمي التعلمي. وبما أن هذه السياسة تشمل المحاور الثلاثة الكبرى التي ذكرناها أعلاه، أي وضع خطة التعليم، وإدارة وتنمية البنية التحتية، وإدارة وتنمية الموارد البشرية، فأسباب الفشل، وبالتالي آليات الإصلاح، ينبغي توخيها ضمن هذه المحاور الثلاثة الكبرى لا خارجها. على المستوى الأول، أي وضع خطة التعليم، فأسباب الفشل لا تحتاج إلى ذكاء خارق لاكتشافها واستجلائها. والدولة تتوفر أكثر من غيرها على الحقائق الساطعة والقاطعة في هذا الباب، وهي المسؤول الأول والأخير عن الفشل، لأنها هي التي أقرت العمل بمبدأ الخرائط المدرسية الذي بموجبه أصبح الانتقال من مستوى دراسي إلى المستوى الموالي شبه تلقائي. والنتيجة الكارثية لهذا المبدأ العجيب والغريب هي أن المتعلمين المتعثرين أصبحوا ينتقلون من مستوى إلى آخر دون معالجة تعثراتهم، وبدل أن يراكموا التطور أضحوا يراكمون التعثرات، إلى أن وصل بنا الأمر إلى الفضيحة الكبرى التي يندى لها القفا قبل الجبين: حاصلون على الباكالوريا، أو حتى على الإجازة، لا يعرفون كيف يركبون جملة مفيدة ويرتكبون أخطاء لغوية لم يكن يرتكبها في السابق حتى تلاميذ القسم الابتدائي الخامس. ثاني "إبداعات" الدولة على هذا المستوى كان تعريب التعليم ما قبل العالي، أي الابتدائي والإعدادي والثانوي. وهو قرار ينبغي أن نمتلك جميعا شجاعة وفضيلة الإقرار العلني بأنه كان ارتجاليا وخاطئا ولم يستند على أي أساس علمي، وإنما كانت دوافعه سياسوية وأيديولوجية لإرضاء نزعات وتيارات وأطراف خارجية ألقى بها التاريخ الآن إلى سلة المهملات. وحتى لا يُفهَم ما أذهب إليه هنا خطأ لا بد أن أوضح أنني لستُ ضد اللغة العربية في شيء. فهي لغة أدب، وغناء، ودين، ووجدان، لكنها اليوم ليست لغة علم ولا لغة تقنية ولا لغة فلسفة. وهذا لا يعود إلى اللغة في ذاتها وإنما إلى الوضع المتخلف للمجتمعات العربية والمجتمعات الناطقة بالعربية، والتي لا تُنتج اليوم علماً ولا تقنية ولا فلسفة. وبما أننا هنا بصدد الحديث عن السياسة التعليمية، وبما أن المعيار الأول والأخير في السياسة أيا كان مجالُها هو المصلحة، فاعتماد العربية في تدريس المواد العلمية والتقنية والفلسفة لا يحقق اليوم مصلحة المتعلم المغربي. وإذا ما حدث يوماً أن صحونا ووجدنا أن العرب قد صاروا هم مَنْ ينتج العلم والتقنية والفلسفة، وأن الولاياتالمتحدةالأمريكية وأوروبا واليابان وألمانيا وروسيا والصين قد عادت إلى العصر الوسيط، فسيكون علينا آنئذ أن نعتمد العربية ونتخلى عن اللغات الحية. أما اليوم فالواقع يقول بأن الذي يتقن الفرنسية والإنجليزية والألمانية ينفتح على العصر في كل أبعاده، بينما الذي لا يعرف إلا العربية ليس بإمكانه الانفتاح إلا على "المُعجزات الاستشفائية" لبول البعير والحبة السوداء، وفتاوى "إرضاع الكبير" وقصة "القرد الزاني". لا بد أن نسجل أيضا على هذا المستوى أن أحد المؤشرات الكبرى على "الفشل" في السياسة التعليمية العمومية كان وما يزال هو عدم ملاءمة التكوين للحاجيات الفعلية لسوق الشغل. وهذا لم يكن بدوره وليد الصدفة، وإنما علينا أن نقرأه في سياقه التاريخي والاقتصادي والاجتماعي. فالمغرب الذي كان غارقا إلى أذنيه في تطبيق سياسة التقويم الهيكلي لم يكن قادرا اقتصاديا على تشغيل كل خريجي التعليم. ومرة أخرى ينبغي أن نمتلك شجاعة وفضيلة الاعتراف بأن فصل مضامين التكوين عن حاجيات سوق الشغل كان بدوره قرارا سياسيا مقصودا في مغرب الثمانينيات وما تلاها. فحتى صاحب أعلى مُعَامل في الغباء البشري لا يمكن أن يستسيغ أن الدولة، وحكوماتها المتعاقبة، كانت غائبة تماما عما يجري وأنها لم تكن تعرف أن التعليم العمومي سيتحول إلى حاضنة لتفريخ المعطلين. والتذرع ب"عدم العلم" في هذا الباب لا يعدو كونه عذرا أقبح من الزلة. أما بالانتقال إلى المستوى الثاني، أي إدارة وتنمية البنية التحتية، فأقل ما يقال أننا أمام واقع يمكن وصفه، دون أن نخشى الإفحام، بأنه سوريالي بكل المقاييس. فالمغرب بلد يصل عدد سكانه اليوم، حسب الإحصائيات الرسمية، إلى ما يقارب 34 مليون نسمة، بينما عدد المؤسسات التعليمية العمومية يقارب عشرة آلاف حسب إحصائيات تعود إلى موسم 2011 2012. وهو ما ينتج عنه اكتظاظ الفصول الدراسية التي يتجاوز عدد المتعلمين بها أحيانا 50 فرداً. أضف إلى ذلك وضعية المؤسسات التعليمية عموما، وفي البوادي وهوامش المدن بشكل خاص، إذ هي تشكو من نقص رهيب في أبسط التجهيزات وضروريات العمل التعليمي والتربوي. وحتى الآن ما يزال التلفزيون العمومي المغربي ينقل روبورتاجات عن مدارس في أكبر مدن البلاد (الدارالبيضاء) تعاني من الاكتظاظ ومن انقطاع التيار الكهربائي. هذا، دون أن ننسى بدعة "الأقسام متعددة المستويات" وغياب إدماج فعلي للمدرسة العمومية في زمن الثورة المعلوماتية...إلخ. ومرة أخرى، لا أحد يملك معطيات في هذا الباب أكثر من الحكومة ومن الدولة. وليس بإمكانهما أن تُحملا المسؤولية هنا للأستاذ ولا للمتعلم. فلا هذا ولا ذاك من مهامهما بناء المؤسسات التعليمية وتجهيزها. أخيرا، وحتى لا أطيل على القارئ، أنتقل إلى المستوى الثالث المتعلق بإدارة وتنمية الموارد البشرية وفي مقدمتها الأساتذة. وهنا أيضا تعلم الدولة المغربية حق العلم أن الأستاذ المغربي يتقاضى راتبا يضمن له الكَفاف فقط. أما "العفاف والغنى عن الناس" فليس مضمونين. ولربما يكفي أن نذكر أن شرطة مدينة مكناس قد أوقفت، قبل أيام فقط، سيدة منقبة تمتهن التسول. وأثناء تنقيطها في الناظمة الآلية لدى مصالح الأمن تبين أنها أستاذة للتعليم الابتدائي. وحتى حينما تحدث "زعيم نقابي" مؤخرا عن تصوره للزيادة في رواتب الموظفين، وضمنهم الأساتذة طبعا، فقد قال دون أن يرف له جفن بأن النقابات تقترح على الحكومة إعفاء الموظفين الذين يتقاضون أقل من ستة آلاف درهم من الضريبة العامة على الدخل، معتبرا أن هذا الإجراء من شأنه "الزيادة في الرواتب". والحال أن موظفا مثلي في السلم العاشر لا يؤدي إلا حوالي 165 درهما شهريا كضريبة على الدخل. وإني، شخصيا، ومنذ الآن، أتنازل عن هذه الزيادة الهامة ل"قداسة الزعيم" شريطة أن يغلق فمه إلى الأبد. و لعل الدولة تعلم أيضا أن الأستاذ المغربي اليوم محروم، بقرار حكومي، من متابعة دراساته الجامعية بينما المنطق والمصلحة معا يقضيان بأن يكون الأساتذة هم أول من يرتاد الجامعات لتطوير معارفهم وتنمية كفاءاتهم. وبدل حرمان الأساتذة من استكمال تعليمهم الجامعي كان من المصلحة والعقل معا أن تبادر الجامعات إلى الاستفادة من تجربة نظيرتها في العالم المتقدم لتضع أنظمة لمتابعة الدراسة عن بعد، وتكفل بذلك للأستاذ حقه الإنساني والدستوري في متابعة تعليمه دون أن يكون مضطرا للتغيب عن الفصل. واضح أن الفشل ليس فشلا للتعليم وإنما هو فشل ذريع، وأنطولوجي، للسياسة التعليمية. وحينما يكون الأمر كذلك فليس من المنطق في شيء مباشرة الإصلاح بنفس اللاعبين السياسيين الذين فشلوا في السابق. وبدل ترويج المغالطات والحديث عن "فشل المنظومة التربوية"، وتحميل المسؤولية، ظلما وبهتانا وعدوانا، للأساتذة فمن الأفيد مكاشفة الذات والحديث صراحة وعلنا عن فشل القرار السياسي في مجال التعليم العمومي. وعوض صرف الميزانيات الهائلة على نخبة فاشلة والتعويل عليها لقيادة "الإصلاح" يتعين وضع مخطط واقعي لمواجهة المشاكل الحقيقية عبر بناء مؤسسات جديدة بالعدد الكافي، وتجهيز المؤسسات التعليمية العمومية بما تحتاجه فعلا، وإعطاء الأستاذ (والأطر التربوية والإدارية عموما) وضعا ماديا واعتباريا محفزا على البحث العلمي والاجتهاد وإطلاق وتحرير الطاقات الإبداعية الخلاقة، ووضع آليات لضمان التكوين والتكوين المستمر بالجودة والفعالية المطلوبتين، ومراجعة البرامج والمناهج بما يضمن الاندماج الفعلي في العصر ويخلص الأجيال القادمة من سطوة الخرافة وثقافة "الخيل والليل والبيداء". وما لم يحدث هذا فالراجح أننا سنجد أنفسنا، بعد عشر سنوات أخرى، نتعقب نفس الصخرة إلى نفس السفح، لنعاود الصعود بها من جديد إلى نفس القمة. هذا، ما لم يصرُخ التاريخ في وجوهنا، على طريقة علي عبد الله صالح: "فاتكم القطار!" * أستاذ الفلسفة بالتعليم الثانوي التأهيلي.