يقول المؤرخ "توينبي": "إن تاريخ المجتمعات البشرية، هو تاريخ المنافسة بين التعليم و الكارثة"، و قد استوعبت العقلية الأمريكية القران المتين بين التعلم و أمن أمريكا و هيمنتها عالميا، و قدرتها على مواصلة حيويتها الاقتصادية و بقائها آمنة في عالم تمزقه العداوات حيث كسبت "حرب التعلم"، من خلال مشاريع لإنقاذ المدارس الأمريكية.إن التعليم و التكوين إستراتيجية للحفاظ على كينونة الأمة و ضمان استمراريتها، وقد أصبح مطلبا أساسيا، يحدد الوجود و المآل، في عالم انفجار المعرفة و الثورة التكنولوجية، و الانضمام إليه لا يتم إلا عبر التربية والتعليم. إن الرهان المغربي في قوة تعليمه العمومي و في هندسته التعليمية التربوية و في "حكاماته" التي سنتحدث عنها: " الحكامة النسقية" و " الحكامة التعليمية " و " الحكامة التربوية". "الحكامة النسقية" : منذ بداية التسعينات أكد البنك الدولي أن مشكلة الدول النامية هي الحكامة المجسدة في الفساد السياسي و ضعف التسيير و التخطيط،، و لتحقيقها لابد من تكامل دور الدولة و مؤسساتها و القطاع الخاص و المجتمع المدني بتكريس المشاركة و المحاسبة، أو ما يمكن أن نسميه " الديمقراطية الإدارية". و هناك معايير عامة للحكامة تنعكس على جميع المستويات، و نرتقي في إطارها إلى الحكامة الجيدة ثم الراشدة و الرشيدة. و من هذه المعايير تحقيق دولة القانون، و القضاء على الفساد، و تخفيض نفقات الدولة، و الاستقرار السياسي، و فعالية الحكومة و حماية الاقتصاد الوطني و الرؤيا الإستراتيجية للقضايا. إن الافتقاد إلى معايير "الحكامة النسقية" يؤدي إلى الإختلالات في التنفيذ و تعثر الإنتظارات و غياب الأجرأة في الإصلاحات.من هنا ضرورة استراتيجية مبنية على مفهوم نسقي تتفاعل فيه المنظومة التعليمية، بنيويا و وظيفيا، مع باقي القطاعات السوسيو- مهنية و الاقتصادية و الثقافية و السياسية، فالتعليم أهم حلقة في النسق، يكون شخصية التلميذ/المواطن، و يبني المجتمع، و يحقق التنمية، و يصنع المستقبل. ثم ضرورة تلاؤم بين النظام التربوي و المحيط الاقتصادي (فالجماعات المحلية لا تسهم إلا ب 0,5% من موارد قطاع التربية الوطنية)، فالتعليم قطاع استراتيجي للاستثمار في الثروة البشرية كمخزون للكفاءات المستقبلية، و ليس قطاعا غير منتج كما يبدو للبعض. إن المطلوب أن تصبح القضية التربوية قضية مجتمعية يساهم المجتمع بكل فعالياته و هيئاته و مؤسساته لتدعيم المشروع التربوي، و جعله محور الاهتمام، فلابد من الربط بين التربية و التنمية عامة .إن مشاركة المواطنين جميعهم في الموضوع رهان لمحاربة الأمية و مواجهة الفقر و التهميش والإقصاء و فك العزلة الثقافية و المعرفية عن المناطق النائية و القرى المغربية، في إطار "الديمقراطية التشاركية" و"المواطنة النشيطة" و"المبادرة الخاصة" و المساواة في حظوظ الولوج للتنمية. الحكامة التعليمية : إن رهان المغاربة هو تأهيل المدرسة للدخول في "التنافسية التربوية" الوطنية و الدولية و الاستجابة للآفاق التنموية، و هذا يتطلب معالجة المشاكل التي تعوق تعليمنا بضبط و تسيير التوجهات الاستراتيجية الكبرى، و حسن تدبير الموارد البشرية، و إشراك كل القطاعات و الفاعلين، و نركز بالخصوص على وسائل الإعلام التي لم تقم بالدور المطلوب في المشروع الإصلاحي. إن إشكالية "الحكامة التعليمية" أنها شاملة لمختلف المستويات فهي من المحددات الخمس الكامنة وراء اختلالات المنظومة التعليمية، و هذه المحددات هي انخراط المدرسين أمام ظروف صعبة، النموذج البيداغوجي الذي لا يوائم بين النظري و التطبيقي، ثم الموارد المالية و أخيرا مسألة التعبئة و الثقة الجماعية في المدرسة. إن تقارير المجلس الأعلى للتعليم لا تعدم التشخيص و لا الحلول، لكن أين المشكل ؟ لماذا ( لا تغير حليمة من عادتها ؟ بل لماذا تفقد مكتسباتها ؟ ) كيف نخلق إرادة الحكامة ؟ أو كيف نحكم الحكامة ؟ تطرح التقارير آفاق الحكامة، المتمثلة في تعزيز الإطار القانوني للمنظومة، و جعل التعليم إلزاميا، و فتح آفاق التكوين المهني، و استقلالية الجامعة، و تنظيم الأكاديميات الجهوية، و تقريب الإدارة من المؤسسات التعليمية، و تدبير الموارد. نفس التقارير تشخص المشاكل الممثلة في التقصير و محدودية معدلات المردودية التي تظهر مؤشراتها من نهاية التعليم الابتدائي، و الهدر المدرسي، و ضعف المكتسبات الدراسية، و انتشار مظاهر السلوكات اللامدنية داخل المدارس، و إدماج مهني دون الانتظارات ... إذا أين الخلل ؟ ما الذي يقع بين الآفاق و الواقع ؟ و تستمر التقارير في شرح أسباب المشكل و تجلياته، فأسباب الهدر، مثلا، تعود إلى عدم ملاءمة المدرسة لمحيطها، و محدودية الإقبال عليها، و الظروف السوسيواقتصادية لأسر المتعلمين، و بعد المدرسة و اقتصارها على أسلاك معينة، و عدم انسجام المضامين مع خصوصيات الفئات المستهدفة، و ضعف البنيات التحتية و تكلفة التمدرس ثم التكرار...إذا كيف نعالج هذه الأسباب ؟ و من المسؤول عنها ؟ و ما المعيقات و العوائق؟ الحكامة التربوية: إن "الحكامة التربوية "تطبيق و تنفيذ لكل القرارات و المشاريع والبرامج المتخذة، إنها حكامة الحكامة، فمفاهيم الحكامة تحتاج إلى إطار نفسي للانجاز، و تلك مهمة التربية ببعدها القيمي، فالرشد صفة للحكامة، و الرشد حكمة، والحكمة هي سياسة الفرد في المجتمع، و السياسة هي حكمة المجتمع في تدبير شأن الفرد، هكذا تلتقي حكمة الفرد بحكمة المجتمع في " الحكامة التربوية" و تصبح التربية هي حكمة التعليم التي افتقدناها، "فالتربية أخلاق علمية و معرفية"، و لا يمكن الفصل بين التربية و التعليم. فبعض المبادئ لا يمكن لها أن تفعل إلا في إطار " الحكامة التربوية"، فحين نقول "روح التضحية و دوافعها و "تكاثف الجهود " و تحسين الجودة" و " التخليق"، نحتاج إلى جوانب نفسية وتحفيزية و إلى" علم الدافع" أو " علم المبادرة" الذي يدرس في أمريكا كحصص خاصة. إن " الحكامة التربوية" هي التي تمنح التفعيل و الانجاز للمفاهيم، هي الرأسمال النفسي، هي المحرك للطاقات و الجهود، هي تغيير السلوك، هي الإحساس بالمسؤولية، هي الفاصل بين الوظيفية و المبدئية، أي بين أن نكون"موظفين " أو رجال تعليم، هي الفرق بين الحضور الجسدي و الحضور الروحي، هي " حكامة الدافع و الوازع" التي لا تلقن بالتكوين البيداغوجي.