شهدت إسرائيل يوم 17 مارس 2015 انتخابات تشريعية لاختيار أعضاء الكنيست أي البرلمان الإسرائيلي البالغ أعضاؤه 120 عضوا. وخلافا لكل التوقعات واستقراءات الرأي العام، فاز حزب الليكود اليميني الذي يرأسه بنيامين نتنياهو أمام ذهول الجميع. وقد سجل بهذا الفوز المفاجئ ضمان استمراره على رأس الحكومة الاسرائيلية للولاية الثالثة على التوالي. وقبل الخوض في حيثيات هذا الانتصار الذي صدم عدة أطراف داخلية وخارجية، لابد من إطلالة على الأنظمة التي تتحكم في منعرجات الانتخابات التشريعية الإسرائيلية، ومن ثم الانتقال إلى الحيثيات والاعتبارات التي صاحبت الحملة الانتخابية وحددت في اللحظة الأخيرة المصير الذي آلت إليه النتائج النهائية مع قراءة أولية لهذه النتائج وانعكاساتها على ما اصطلح عليه بعملية السلام. 1 النظام الانتخابي في إسرائيل: يستند النظام السياسي في إسرائيل على الديمقراطية البرلمانية التي تعتمد حقيقة على مبدإ فصل السلطات الثلاث: السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية وأخيرا السلطة القضائية. ومن أبرز صلاحيات الكنيست، التي هي موضوع البحث، سن القوانين والمصادقة على ميزانية الدولة، وانتخاب رئيس الدولة وامتلاكها لأدوات جادة في مراقبة الحكومة من بينها منحها الثقة على برنامجها السياسي، وكذلك إمكانية سحب الثقة منها. أما النظام الانتخابي فهو يكاد أن يكون فريدا من نوعه بحيث يبدأ أولا بما يسمى بالانتخابات التمهيدية التي تجرى داخل كل حزب سياسي، قبيل الاحتكام إلى انتخابات عامة، من خلال عملية تصويت للهيأة الناخبة التي يشارك فيها الأعضاء المنتمين للحزب، حيث تنتهي هذه الانتخابات بوضع قائمة مرشحي الحزب ويكون التسلسل فيها بحسب الأصوات التي نالها كل مرشح. وهي القائمة التي يعرضها الحزب المعني بشكل رسمي على الانتخابات العامة ليقول فيها المواطن الإسرائيلي كلمته عبر صناديق الاقتراع. وفي المرحلة الثانية، تتنافس الأحزاب بقوائمها في الانتخابات التشريعية. التي يؤطرها نظام اقتراع يقوم على اقتراع اللائحة المغلقة مع اعتماد مبدإ التمثيل النسبي، حيث تعتبر إسرائيل كلها دائرة انتخابية واحدة يصبح فيها الناخب الإسرائيلي في مختلف مراكز الاقتراع مدعو إلى التصويت على القائمة بأكملها للحزب الذي يتلاءم مع قناعاته من دون أن يكون له حق التصرف في تلك القائمة إما بتعديلها أو إعادة ترتيب أسماء مرشحيها أو إضافة اسم خارج عن لائحة مرشحي الحزب. وعملا بمبدإ التمثيل النسبي، يتم أولا معرفة عدد الأصوات المعبر عنها على صعيد إسرائيل باعتبارها دائرة انتخابية واحدة، وبموجب معادلة القسمة يتم إجراء تقسيم هذا العدد أي الأصوات المعبر عنها على 120 وهو عدد أعضاء الكنيست، والخارج الانتخابي يعطيك عدد الأصوات التي يمنح على أساسها كل مقعد برلماني. وبناء على هذه القاعدة يجرى احتساب الأصوات التي حصلها عليها كل حزب في كل مراكز الاقتراع وتجميعها على الصعيد الوطني، ويتم تقسيمها على الخارج الانتخابي لتحديد عدد المقاعد التي حصل عليها ذلك الحزب، ويشترط القانون المنظم كذلك ألا يقل عدد تلك الأصوات عن عتبة 3.25℅ من الأصوات المعبر عنها حتى يسمح لأي حزب بالولوج إلى البرلمان الإسرائيلي. 2 انتخابات الكنيست 20: تعتبر هذه الانتخابات سابقة لأوانها أي أنها انتخابات مبكرة جرت قبل انتهاء مدة ولاية الكنيست 19 وذلك على إثر التصدع الذي عرفه الائتلاف الحكومي برئاسة بنيامين نتنياهو على خلفية وضع ميزانية 2015 ومقترح الدولة اليهودية، حدث ذلك التصدع في شهر دجنبر 2014. ولما تبين لنتنياهو استحالة قيادته للائتلاف الحكومي ، أجبر على الإعلان عن تقديم موعد الانتخابات الذي تقرر بعد التشاور يوم 17 مارس المنصرم. وقد كانت المشاركة في هذه الانتخابات مشاركة قياسية مقارنة مع سابقاتها حيث بلغ عدد المسجلين فيها إلى 5.881696 ناخب، فيما كان عدد المصوتين قد وصل إلى 4.275738 لتبلغ بذلك نسبة المشاركة إلى 72.34 ℅ ، وهي نسبة عالية في تاريخ الانتخابات الإسرائيلية التي عادة ما يتراوح معدلها ما بين 60℅ و 75 ℅. وهذا ما يفسر مدى اهتمام الناخب الإسرائيلي بالحياة السياسية على مختلف مظاهرها، وبأن المشاركة السياسية بالنسبة له تكتسي أمرا بالغ الحيوية . كما يفسر ذلك من جهة أخرى ما تقوم به الأحزاب من تأطير جيد للمواطن الإسرائيلي ، هذا المواطن أصلا متموقع بحكم قناعاته في خانة حزبية لا يبرح عنها إلا في حدود تأرجحه ما بين اليمين واليمين المتطرف أو ما بين اليسار أو اليسار الأقصى. أما فيما يتعلق بنتائج الانتخابات فقد أسفرت عن فوز حزب الليكود ، وتوزعت مقاعد الكنيست بين الأحزاب على النحو التالي: أ بالنسبة لأحزاب اليمين: الليكود 30 "كولان" أي كلنا جميعا 10، وهو حزب جديد البيت اليهودي 8 ، قاعدته من المتطرفين المستوطنين إسرائيل بيتنا 6، قاعدته من القادمين من روسيا . ب بالنسبة للأحزاب الأورثودوكسية المتشددة دينيا: حركة شاس أي"الحرس السفاردي" 7 مقاعد، قاعدته اليهود المغاربة وزعيمه الروحي "عوفاديا يوسف" يهودي عراقي اتحاد التوراة اليهودية 6 مقاعد. ج بالنسبة لأحزاب اليسار: الاتحاد الصهيوني 24 مقعدا وهو ائتلاف انتخابي بين حزب العمل بزعامة إسحاق هرتزوك ،و حزب "هاتنويا" أي "الحركة" بقيادة المناضلة اليسارية "تزيبي ليفني" " ييش عتيد" 11 مقعدا، ومعنى التسمية "هناك مستقبل" "ميريتس" أي "الطاقة" 5 مقاعد وهو حزب في أقصى اليسار وعضويته مفتوحة في وجه عرب إسرائيل. د الأحزاب العربية وهي لأول مرة توحدت في ائتلاف انتخابي وعرضت قائمة واحدة في هذه الانتخابات تحت اسم "القائمة العربية" فكان حظها أن نالت 14 مقعدا لتحتل بذلك المرتبة الثالثة في قائمة الأحزاب التي دخلت الكنيست.و من أبرز أعضائها أحمد الطيبي المستشار السياسي السابق للرئيس ياسر عرفات. كل أعضائها يحملون الجنسية الإسرائيلية ويقفون داخل الكنيست حينما تعزف "هاتيكفا"، النشيد الوطني لإسرائيل، باستثناء عزمي بشارة الحامل للجنسية الإسرائيلية الذي كان عضوا في الكنيست ورفض الوقوف لهذا النشيد، ففضل أن ينجو بجلده إلى دولة قطر. هؤلاء النواب فضلا عن دفاعهم المستميت من أجل معاهدة سلام مع الفلسطينيين تفضي إلى إقامة دولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل، فهم يناضلون كذلك من أجل أن تكون إسرائيل دولة لجميع مواطنيها وليس دولة يهودية فقط كما هو منصوص في قوانينها الأساسية. نضالهم من أجل تغيير هذه القوانين يرمي إلى بقائهم في دولة إسرائيل حتى ولو تم إنشاء دولة فلسطينية. ومن غرائب الأمور أن دولة إسرائيل ليس لها لغاية الآن دستور يحكمها، وتستعيض عنه بقوانين أساسية تنظم مختلف أوجه الحياة السياسية. ومرد ذلك إلى أن مشروعها كدولة لم يكتمل بعد والمتمثل في نقاوة العرق اليهودي للدولة. ونظرتهم لعرب إسرائيل الذين يشكلون في حدود 20 بالمائة من الساكنة الإسرائيلية تندرج في هذا السياق. وهي تعمل من أجل تحقيق ذلك بكل الوسائل وبسياسات طويلة الأمد وبنفس طويل. وقد أفلحت في هذا الاستهداف بتحويل العديد من التجمعات السكنية التي كانت عربية في الأصل إلى مدن مختلطة وإلى مدن يهودية مثل يافا، وحيفا وأشدود وعسقلان، وترحيل عرب إسرائيل من هذه المدن ومن الجنوب إلى الشمال المتاخم للحدود اللبنانية لعزلهم لغاية في نفس يعقوب، وتحويلهم إلى حزام أمني في مواجهة مخاطر حزب الله. ويلاحظ أن العدد الإجمالي للمقاعد الموزعة بلغ 116 مقعدا، أما بقية المقاعد وعددها أربعة سيتم توزيعها على أساس أكبر الأصوات المتبقية لدى الأحزاب بعد الخارج الانتخابي. وهذه قاعدة متعارف عليها في الدول التي تعتمد اقتراع اللائحة مع التمثيل النسبي. 3 المشاورات الائتلافية: بعد معرفة النتائج الانتخابية وما حصل عليه كل حزب من مقاعد، بدأ رئيس الدولة "روبين ريفلين" سلسلة من المشاورات بين جميع أعضاء الكنيست الجديد لتحديد الشخصية الإسرائيلية التي ستوكل إليها مهمة تشكيل الحكومة الإسرائيلية . وفي الممارسة الإسرائيلية غالبا ما تسند هذه المهمة إلى الزعيم السياسي الذي فاز حزبه بالمرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية، وفي هذه الحالة يتعلق الأمر بزعيم الليكود بنيامين نتنياهو. والملاحظ أن صلاحيات رئيس دولة إسرائيل وهو حاليا الرئيس "روبين ريفلين"، تبقى محدودة وهي صلاحيات شرفية، فهو يميل إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية نظرا للتمزق في الجسم التشريعي وعدم قدرة أي حزب على تحقيق فوز حاسم في هذه الانتخابات من جهة، وكذلك لمواجهة تحديات الوضع الإقليمي والدولي المحيط بإسرائيل من جهة أخرى. لكن هذه الرغبة على مستوى رأس هرم الدولة تبقى مرهونة بالمفاوضات الإئتلافية التي باشرها بنيامين نتنياهو المرشح الأول لتشكيل الحكومة. وبموجب القانون، فإن رئيس الحكومة المكلف له الحق في مهلة 28 يوما قابلة للتجديد مرة واحدة، كي يخلص إلى تشكيل الحكومة الإسرائيلية، وإن أفلح يعرض أمام الكنيست البرنامج السياسي لحكومته من أجل الحصول على ثقة البرلمان، وإن فشل خلال تلك المدة يتولى رئيس الدولة تكليف شخصية أخرى ويتيح لها المجال لإجراء مشاورات ائتلافية جديدة. 4 قراءة أولية في نتائج الانتخابات: بداية، ينبغي الإشارة إلى أن الظاهرة السياسية المسجلة بعد هذه الانتخابات وهي أن اليسار الإسرائيلي طلق السلطة منذ عام 2001 أي بعد الهزيمة التي تلقاها إيهود براك على يد الزعيم الليكودي آنذاك أرييل شارون. ومع توالي الانتخابات توالى اليمين الإسرائيلي على تداول السلطة فجاء من بعد شارون زعيم يميني آخر وهو إيهود أولمرت، الرئيس الأسبق لبلدية القدس والذي أطاحه من السلطة بنيامين نتنياهو عام 2009 فمكث فيها إلى يومنا هذا. ولذلك، فإن هذه الانتخابات الأخيرة تزكي التوجه اليميني للشارع والناخب الإسرائيلي. وعلى هذا الأساس وما تشير إليه هذه الانتخابات بالنسبة المتتبع هو أن نتنياهو فاز غصبا على الجميع وهي الظاهرة المفصلية في الانتخابات والتي يمكن الاستناد إليها في بلورة الاستنتاجات على النحو التالي: أ الأقرب إلى المنطق أنه كان من المفترض أن ينهزم نتنياهو في هذه الانتخابات لأن كل المعطيات كانت تصب في هذا الاتجاه. ففي ولايتيه الأولى والثانية كانت الحصيلة السياسية والاقتصادية طوال تواجده في السلطة سلبية إذ سجل ارتفاع في غلاء المعيشة ووصلت نسبة الفقر إلى درجاتها القياسية وهي 21 ℅، كما سجل ارتفاع في سوق العقارات وتراجع الوحدات السكنية داخل إسرائيل وارتفاعها في المستوطنات. وباختصار طوال السنوات الأخيرة لحكم نتنياهو تحولت إسرائيل لدولة فاقدة التوازنات الاقتصادية والاجتماعية. وبالرغم من ذلك، فاز نتنياهو لا لشيء سوى أنه يعرف كيف يخاطب الهواجس الأمنية للمواطن الإسرائيلي البسيط. ب الغريب أن كل الخبراء الأمنيين الإسرائيليين تعبؤوا من أجل إلحاق الهزيمة ببنيامين نتنياهو ووجدوا فيه الرجل الذي يهدد أمن إسرائيل من خلال سياسته المتبعة حتى مع الحلفاء الاستراتيجيين للدولة وفي مقدمتهم الولاياتالمتحدةالأمريكية بعد أن شن حملة ضارية على الرئيس براك أوباما بالتنسيق مع معارضيه الجمهوريين من أجل نسف المفاوضات الأمريكية الإيرانية في موضوع السلاح النووي، مهددا بالكشف عن الأسرار التي يخبئها الرئيس أوباما عن الكونغريس وعن الشعب الأمريكي. وهذه الأزمة المفتعلة مع واشنطن عرف نتنياهو كيف أن يوظفها لصالحه في مجريات الانتخابات التشريعية الإسرائيلية. ج وكان من نتيجة أزمته مع واشنطن، أن استدرج نتنياهو الإدارة الأمريكية إلى التدخل في الشؤون الداخلية لإسرائيل، وخاصة مع حلول الاستحقاق الانتخابي بنية أنها تريد عمدا إلحاق الهزيمة به . وفي حمأة الحملة الانتخابية سجل نشاط لمنظمة غير حكومية تدعى one voice."وان فويس" يرأسها الرجل المفتاح في انتخاب الرئيس أوباما عام 2008 وهوJeremy Bird. "جيريمي بيرد" حيث كان من وراء تمويل الحملة الانتخابية في إسرائيل اسمها (Victory2015) V15 بمعنى نصر 2015، وذلك لدعم أحزاب معارضة لسياسة نتنياهو. وهذا الأخير العارف بالحساسيات المثيرة والمشمئزة للناخب الاسرائيلي جعل من هذا التدخل الأمريكي نقطة ارتكاز لحملته الانتخابية، واستغل انتقادات الإدارة الأمريكية لشخصه التي جاءت على لسان كل من "سوزان رايس" و"جون كيري" واعتبرها نتنياهو معادية للسامية. وساهمت القناة الأمريكية "فوكس نيوز"Fox News في الترويج لحملة نتنياهو ضد إدارة أوباما. ولعل هذا السيناريو يذكرنا بسيناريو انتخابات عام 1996 التي عشناها عن قرب ومن موقع المسؤولية آنذاك حينما جاء الرئيس بيل كلينتون إلى تل أبيب مؤازرا لشمعون بيريس ضدا في نتنياهو الذي استطاع أن يقلب الطاولة ويفوز على شمعون بيريس بعد أن كانت كل التوقعات تشير إلى فوز هذا الأخير وبفارق كبير على خلفية اغتيال إسحاق رابين. ولذلك فإن أبغض ما عند الناخب الإسرائيلي هو تدخل الخارج في شأنه الداخلي. هكذا عرف نتنياهو أن يستغل الوضع، وهكذا نجح غصبا على الجميع. د الخطاب الذي مرره بنيامين نتنياهو في حملته الانتخابية كان على درجة كبيرة من التوافق مع هواجس الناخب الإسرئيلي. فخصومه من اليسار ركزوا في حملتهم على غلاء المعيشة وارتفاع الأسعار وتدني مستوى المعيشة مع استفحال ظاهرة الفقر في المجتمع الإسرائيلي. بينما نتنياهو ركز من جهته في حملته على المخاطر الأمنية التي تتهد إسرائيل، مخاطبا إياهم" إن إسرائيل دولة صغيرة محاطة بأعداء استطاعت أن تجعل من دولها دولا ذات أنظمة منهارة، لكن لا ينبغي أن نتعامى عن أخطار أخرى محدقة بفعل تنامي دور التنظيمات الإرهابية كحماس، حزب الله وداعش" . كما ركز في حملته على رفضه المطلق لإنشاء دولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل حجته في ذلك أن التفريط في أي شبر من الأرض قد تحوله التنظيمات الإرهابية إلى قاعدة لانطلاق الصواريخ ضد إسرائيل. ولذلك، فإن الجسم الانتخابي الإسرائيلي أمام هذا الخطاب المرعب والمروع لا يمكن له أن يستوعب تنظيم انتخابات على أساس قاعدة سوسيواقتصادية، وهو الخطأ الذي وقع فيه اليسار الإسرائيلي. ففوز نتنياهو إذن هو فوز الهاجس الأمني على خيار تحسين ظروف الحياة و العيش. ولعل ذلك ما دفع بأحد أقطاب حزب العمل ومنظره "شلومو بنعمي" ، وهو من مواليد طنجة ووزير الخارجية الأسبق في عهد حكومة إيهود براك، أن علق على توجه الناخب الإسرائيلي وتوجسه من الأمن بالقول: " La vie passe avant le coup de la vie ". و تتغذى الهيمنة السياسية الحالية لليمين الإسرائيلي من جذور يهودية ومن خوف دفين من العرب، ومن حيطة وحذر لا يلين من العالم ككل، عالم يرتاب منه اليهود لقرون من الصراعات. بينما تطلعات اليسار إلى السلام قد ينظر إليها بالساذجة ، وفي بعض الأحيان بخطيئة لا تغتفر في حق الهوية اليهودية . فنتنياهو تمكن من زرع كل هذه المخاوف في نفس الناخب الإسرائيلي من أمثال: القادمون الجدد و اليهود الأورثودوكس و الإسرائيليون التقليديون و المستوطنون المتدينون. وبذلك استطاع أن يهزم اليسار على اعتبار أنه "خان تاريخ اليهود وأرض إسرائيل". 5 انعكاسات فوز نتنياهو على عملية السلام: يخطئ من يعتقد أن ما حدث بين واشنطن وتل أبيب هي أزمة بين البلدين بل هي في واقع الأمر أزمة بين رجلين أي بين نتنياهو وبين الرئيس أوباما. فما يجمع بين البلدين هو التحالف الاستراتيجي وهو أكبر بكثير من المساومات الظرفية التي تفرض في بعض الأحيان نفسها، منها أن براك أوباما أصبح في حل من أية قيود مستقبلية، وخاصة وهو في ولايته الثانية ولم يعد له الحق في الترشح إلى ولاية أخرى. هذا ما دأب عليه الرؤساء الأمريكيون السابقون "بيل كلينتون" الذين بعد أن يدخلوا في خريفهم السياسي، يتظاهرون بنصرتهم لمبادئ الحق والعدالة ومنها حصان طروادة المتمثل في القضية الفلسطينية. فالسلام لا يتحقق بالاستجداء ولا على أساس التمسك بالشرعية الدولية. فالتمسك بها واحدة من تجليات الضعف والهوان. والحق كما يقال يؤخذ ولا يعطى. فلا يمكن إذن لإسرائيل أن تمنح الأرض مقابل السلام والعرب على ما هم عليه من ضعف وتخاذل. ما يسمى بالربيع العربي لا يعدو أن يكون في واقع الأمر سوى ربيعا إسرائيليا يقابله من الناحية الثانية خريف عربي. دول ما يسمى بدول الطوق أو دول الممانعة والصمود اليوم هي منهارة ومقهورة ولم تصمد. وكيف ينتظر، في هذه الظرفية حيث الموازين العربية مختلة، من إسرائيل أن تقبل بمبدإ الأرض مقابل السلام. ليس هناك ما يجبرها على ذلك. فبعد تجديد الناخب الإسرائيلي الثقة في بنيامين نتنياهو المتطرف وفي برنامجه السياسي لا يمكن إحداث نقلة في عملية السلام، بل العكس هو الذي حدث من قبل وسيتأكد في المستقبل. فكلنا نتذكر اتفاقيات أوسلو التي كان من ورائها إسحاق رابين والذي كان جادا في تطبيقها وقطع مراحل في تنفيذها بتسليم المناطق المصطلح عليها ب "أ" إلى السلطة الوطنية الفلسطينية. لكن حينما تبين لليمين الإسرائيلي المتطرف أن الرجل ماض في تعهداته والتزاماته تمت تصفيته من طرف يهودي متطرف يدعى "إيغال أمير" في ساحة بلدية تل أبيب حيث كان قد انتهى من خطاب ألقاه في تجمع جماهيري لأنصار السلام . وما أن أوصلوه إلى مستشفى "إيخيلوف" حتى لفظ الرجل أنفاسه الأخيرة. ونحن إذ ننقل للقارئ الكريم هذه الحقائق لأننا كنا في موقع الحدث كمسؤول وكشاهد عيان، وأننا كنا قريبين من الرصاصة التي أودت بحياة إسحاق رابين. ولذلك، فإن اليسار الإسرائيلي لن يعود لكي ينجب لك مرة أخرى رجلا من عيار إسحاق رابين، كان واحدا في جرأته انتهى وانتهت معه عملية السلام . أما طينة بنيامين نتنياهو فما أكثرها. وبالفعل حينما نجح هذا الأخير في انتخابات 1996 التي أعقبت اغتيال رابين، سارع على الفور إلى وقف مسلسل السلام وضرب كل استحقاقات اتفاق أوسلو عرض الحائط. وحاول نتنياهو عن طريق وزير خارجيته آنذاك تنظيم لقاء مع الملك الراحل الحسن الثاني باعتباره رئيسا للجنة القدس لتمويه الرأي العام العربي والعالمي بأنه غير معزول وأن لديه رغبة أكيدة في مفاوضات سلام، لكن فطنة الحسن الثاني، وكزعيم عربي لا يشق له غبار، كانت أقوى ورفض استقباله. واليوم مثل الأمس، مازال نتنياهو ذاك الرجل السياسي المتوغل في التطرف. ويخطئ من يعتقد أنه مع هذا الرجل سيحصل بصيص من الأمل في العودة إلى مسلسل مفاوضات سلام عادل. فهو متطرف بامتياز ومن طينة تتجاوز Le Penبفرنسا أو Wilders بهولندا أو Jorg Haider بالنمسا. ومن كانت هجرته ّإلى غير قيام دولة فلسطينية بجانب دولة إسرائيل فلا فائدة ترجى لا من الداعي ولا من المدعو. وهي رسالة واضحة للضعفاء من المتسولين للسلام.