ترجل عاشق المخطوطات والوثائق التاريخية، الدكتور عبد الهادي التازي، الدبلوماسي والمؤرخ المخضرم، عن فرسه الأصيل، مساء أمس في بيته بالرباط، عن سن تناهز 94 عاما، بعد أن ترك خلفه مكتبة عامرة من مؤلفات في شتى الأصناف، وتحقيقات في مخطوطات ووثائق نادرة. مكتبة متنقلة وموسوعة متحركة..هكذا يصفه من عاشروه عن كثب، وحتى من عرفوه عن بُعد، فهو الذي ألف في التاريخ، وكتب في السياسة، وأبدع في الأدب، وحقق في المخطوطات والوثائق، وهو من كان يحب اللغة العربية إلى حد النخاع، دون تعصب ولا شوفينية. التازي اختار غير آسف أن يكون "الوريث الشرعي" للرحالة الطنجي، ابن بطوطة، الذي قضى زهاء 30 عاما في الأسفار والرحلات عبر العالم، وقطع مسافة تصل إلى 121 ألف كيلومتر، فكان الراحل ابن بطوطة العصر الحديث بتنقله في أرجاء الكون، حتى أنه ربما كسر "رقم ابن بطوطة القديم" بواسطة رحلاته المكوكية عبر الطائرات. مثل النحلة التي لا تكاد تحط على زهرة حتى تنتقل إلى زهرة أخرى، هكذا كان عبد الهادي التازي، وهو يغترف من معين المعارف المختلفة، ويبحث عن المخطوطات النادرة، ويحاضر في مختلف المؤتمرات والمراكز البحثية، دون كل ولا ملل، بغيته الوحيدة إشعاع الحضارة المغربية والعربية. وبفضل مجهوداته التي لا تعد ولا تحصى في المجال المعرفي والحضاري، كُرم المؤرخ وعضو أكاديمية المملكة، أياما قبل رحيله إلى دار البقاء، ضمن فعاليات الدورة العاشرة لمؤتمر هارفارد للعالم العربي بالرباط، حيث مُنح جائزة مخصصة لشخصيات "أسهمت بشكل كبير في تقدم العالم العربي". كل هذا المجد وهذه الشهرة في رحاب المعارف المختلفة، من أدب وسياسة ولغة وفقه أيضا، لم يترك في نفس الرجل حبة خردل من عُجْب أو تكبر، فكان رجلا رحمه الله متواضعا سلسا، لا يُظهر لمن يجالسه بأنه "ابن بطوطة" المغرب، ولا بأنه صاحب المؤلفات والأبحاث الغزيرة. ويتذكر صحافي هسبريس كيف التقى بالراحل عبد الهادي التازي في بيته، غير بعيد من السوق الممتاز السويسي بالرباط، فكان مؤدبا يعطي كل وقته لمحدثه رغم كثرة الأشغال والاتصالات التي ترده من هنا وهناك، لكنه يؤجل كل شيء لينصت إلى مُجالسه أكثر مما يتحدث. وإذا تحدث التازي فهو يتكلم بلكنة "لذيذة" لا يمل منها مستمعه، مغلبا اللغة العربية على ما سواها من لغات، رغم انفتاحه على باقي اللغات الحية، لكنه كان يرفض قيْد حياته هيمنة الفرانكوفوية على العربية، كما كان يحترم رجال الصحافة، يلبي طلباتهم ويحثهم على الاجتهاد، ويقول "كل مغربي يقف على ثغر يحرسه في هذا البلد". كان التازي يأخذ زائره في بيته العطر بالعلم وعبق التاريخ، والمؤثث بالوثائق والمخطوطات التي لا تكاد تخلو منها مكتبته، فيقوم برفقته بجولة في أرجاء البيت الذي حوله إلى ورشة متحركة من النشاط والتأليف والبحث والتنقيب، والتحري عن آثار تاريخ مجيد، كان يلحم التازي بإبرازه للأجيال الحالية والقادمة. وليس غريبا أن تنهال على الفقيد، أثناء حياته وبعد وفاته أمس، عبارات الإشادة والثناء على كل ما قدمه في حياته لبلده وللأمة العربية والإسلامية، فهذا الدكتور أحمد الريسوني، عالم المقاصد، وصف في تصريح لهسبريس، التازي بأنه "أكبر موسوعة معرفية في المغرب الحديث". وتابع الريسوني بأن "المغرب فقد مفخرة من مفاخره العظمى، وعلما شامخا من أعلامه الأفذاذ، فهو الأديب المؤرخ الدبلوماسي المفسر اللغوي"، مضيفا "فقدناه بشخصه وجسده، ونحن بذلك محزونون ومتألمون، ولكنه سيظل حاضرا وسيظل أستاذا بعلمه وتراثه العلمي الغزير".