حاولنا في مقال سابق بعنوان "حين تهدد المعيرة ما تبقى من الأمازيغية"، إجراء مقارنة لغوية بين الطريقة التي تنشأ بها الأمازيغية، وبين نشأة اللغات الحية في العالم، استنادا إلى معطيات لغوية وتاريخية وعلمية، وتأكد من خلالها أن الطريقة القسرية في نشأة الأمازيغية تضر باللغة أكثر مما تنفعها، وفي هذا المقال نطرح موضوع المعيرة من زاوية أخرى مغايرة، يظهر فيها التهافت في الخطاب الأمازيغي وسقوطه في تناقضات عديدة، تجاوزت المعيرة إلى مختلف القضايا التي شهدت خلافا وجدلا فكريا وسياسيا. فمن يعود خطوات زمنية إلى الخلف ويتصفح ما عرفه ملف المسألة الأمازيغية في السنوات الأولى من العقد الحالي، سيكتشف أن النخبة الأمازيغية وجدت نفسها أمام وقائع وأحداث مفاجئة تمثلت في التجاوب الذي عرفه بيان شفيق لسنة 2000 من قبل القصر الملكي وبوساطة من حسن أوريد، وفتح الباب أمامها للدخول في مؤسسات الدولة، والعمل من خلالها في خدمة اللغة والثقافة الامازيغيتين، ما دفع بهذه النخبة إلى الوقوع في شباك الارتباك والتناقض، وجعلها تقدم إجابات لحظية في العديد من القضايا، وحسمت في شكل كتابة اللغة الأمازيغية في فترة وجيزة دون ترك مجال واسع للحسم العلمي بالعودة الفعلية إلى عملية استقراء للثقافة الأمازيغية مكتوبة كانت أو شفوية، ويظهر التناقض في الخطاب الأمازيغي من خلال المستويات التالية: تصف النخبة الأمازيغية فكرها بالمتنور والديمقراطي والحداثي، وكونه يتجاوز المرجعيات التي تتبناها العديد من التيارات في المجتمع المغربي التي تتصف ،حسب النخبة الأمازيغية، بالرجعية وخندقة نفسها ضمن أجندات متعددة، لا تنبثق من صلب المجتمع المغربي ومما تسميه بالمغرب العميق، ما جعل ما تدعو إليه هذه التنظيمات، ينافي الديمقراطية الشعبية، ويظل منحصرا في ما سمته بعض الأحزاب اليسارية في الغرب بالديمقراطية المركزية، باعتبار هذه التنظيمات (ودائما حسب كتابات النخبة الأمازيغية) تحسم قضاياها دون العودة إلى القواعد الشعبية، وهو التناقض ذاته الذي سقطت فيه النخبة الأمازيغية حين ذهبت إلى الحسم في حرف "تيفناغ" وفي قرار "المعيرة" دون إعارة أي اهتمام، -ليس إلى القواعد الشعبية فقط-بل إلى رأي النخب المخالفة نفسها، فصمت آذانها وقامت مجموعة محدودة من هذه النخبة بإذابة الألسن الأمازيغية المختلفة ومكوناتها الثلاث (تشلحيت وترفيت وتمازيغت) في قالب "المعيرة" المصطنع، مديرة الظهر لباقي النخب التي تعتبرها كل الكتابات الأمازيغية مغربية الأصل حتى ولو تغير لسانها. وفي المستوى الثاني تدعو النخبة الأمازيغية إلى رد الاعتبار لمبدأ "التنوع" اللساني والثقافي في المجتمع، أو ما تسميه بالديمقراطية اللسانية، التي تقوم على إعطاء المكانة والأهمية نفسها لمختلف مكونات الهوية المغربية، وجعل التعدد والتنوع منطلقا أساسيا لتعريف هذه الهوية، وحرية مكوناتها اللسانية والثقافية...لكنها تناقض نفسها حين تقود حربا عشواء على المكونات اللسانية الأخرى، ما يطرح العديد من الأسئلة حول ماهية التنوع اللساني المطلوب، في ظل تناقض صارخ بين الموقف من العربية (التي تعتبرها لغة الرجعية والاستعمار الإسلامي) والموقف من الفرنسية (لغة الحداثة والتقدم والتحضر)، والموقف من الدارجة المغربية (إحدى اللغات الأم). ويظهر التناقض أيضا في سلوك النخبة إبان الجدل الذي دار حول حرف اللغة الأمازيغية، مرحلة كان شعارها "كل حرف مقبول إلا الحرف العربي" فلو خيرت النخبة بين الكتابة بالعربية واللاشيء، لاختارت لغة بلا حرف، ويغني هذا الموضوع مجموعة من الكتابات كان عنوانها الدفاع عن الحرف اللاتيني، ساق فيه العديد من الفاعلين الأمازيغ كل ما يملكون من الأدلة والحجج والبراهين، وأصدروا فيه الكثير من النظريات اللسانية والمرفولوجية والفونولوجية في أهلية الحرف اللاتيني لكتابة اللغة الأمازيغية، كان المثير فيها اعتبار الحرف اللاتيني حرف الحضارة المتقدمة، وهي النخب ذاتها التي انقلبت على أعقابها لتدافع بنفس الحماسة على حرف "تفيناغ"، خاصة وأن النخبة الأمازيغية نفسها كانت منقسمة إلى ثلاث أقسام، بين منتصر للحرف اللاتيني ومنتصر للحرف العربي ومنتصر لحرف "تفيناغ"، ما جعل الأمر ملتبسا على جميع التيارات في تقدير نتائج الخلاف. والظاهر أن منهج تعامل النشطاء الأمازيغ مع مختلف القضايا يرتكز على أساسين اثنين، الأول يقوم على الانتقائية في البحث عن الحجج اللغوية والتاريخية في الاستدلال على حرف الكتابة والدراسات الفونولوجية والمورفلوجية للغة الأمازيغية، ويتضح التعامل بهذا الأساس في ضعف الأسانيد المقدمة في تبرير اللجوء إلى الحرف، والتي ساق فيها مؤيدو الحرف العربي أدلة وحججا أكثر تماسكا تجد سندها في المراجع اللغوية والتاريخية لأربعة عشر قرنا من الزمن، أما الأساس الثاني في التعامل فتعتمد فيه النخبة الأمازيغية على التأويل، فما لا تجد له تبريرا في عملية الانتقاء الأولية تلجأ إلى تأويله أو تهريبه من وراء الحدود. إن الإشكالات التي ستفرزها "المعيرة" ومسألة الحرف وتسريع وثيرة دخول الأمازيغية في أسلاك التعليم لم تنتهي بعد ولا تزال في بدايتها، بعد ما سقطت النخبة الأمازيغية في فخ المنهج المقلوب، فعوض أن تقوم بمجهود علمي لا يقل على عقد من الاستقراء والوصف والتحليل وتخرج نتائج منطقية وموضوعية قبل أي خطوات في ترسيم المسألتين وإدخالهما إلى التعليم، اتخذت قرارات مصيرية وقدمت إجابات جاهزة لتبدأ بعد عقد من الزمن بجني الثمار، فالقرارات المتسرعة والملتبسة بالتسييس والأدلجة أفرزت حالة من التشظي اللغوي تغض فيه النخبة الطرف على مكمن الداء وتقنع نفسها بالاستناد إلى الاستثناءات، وتظل مستمرة في منهج عملها في مسألة دسترة الأمازيغية التي تعي النخبة الأمازيغية خطورتها، وتهديدها لتماسك النسيج الاجتماعي. *صحافي وباحث في الشؤون الأمازيغية [email protected]