كثيرا ما يحدد مفهوم الإرهاب لدى الأوساط الغربية بمقدار درجة تأثيره في نفسية الرأي العام ولا شعوره الجمعي. فكلما كان التأثير السيكولوجي قويا وكانت الصدمة أكبر ،وكلما اهتمت وسائل الإعلام بالحدث أكثر فأكثر،ينتصر "الإرهاب" أكثر... فأكثر... :فدقيقة أو ساعة من البث التلفزيوني المباشر كافية لترويع مدينة كبيرة من حجم باريس ولندن أو واشنطن. وكلنا يتذكر ما حصل في 7 يناير 2015 بفرنسا. إذ لم تتطلب المعركة الا بعض السويعات وبعض الأشخاص وتعبئة أمشاط سلاح آلي لتحدث الصدمة، وتتحول من صدمة وطنية إلى دولية. سيقول البعض إن "الإرهابيين" قد خسروا؛ لأن في مثل هذه الظروف تخرج الشعوب لمؤازرة حكوماتها فيتقوى مفهوم الوحدة الوطنية وتصمد الجبهة الداخلية في وجه الهجمات من أجل الدفاع عن قيم الدول. صحيح إن عبارة "كلنا أمريكيون " الشهيرة والتي تردد صداها على امتداد القارات بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر لم تلبث أن جرت العالم إلى مآس كارثية اختلط فيها كل شيء، وأصبحت المفاهيم والقيم الإنسانية تخضع لمعايير معينة تحتل فيها المصالح الاقتصادية و الجيوسياسية للدول الكبرى المكانة الأسمى. لكن علينا أن لا نغفل أنه على الجانب الآخر تنامت "الجهادية الدولية" بشكل لافت فحصل خلال عقد من الزمن ما لم يحدث خلال العقود الماضية ،إذ تضاعفت الهجمات بشكل مثير، سواء من حيث الكم أو الكيف. بل إن العناوين هي الأخرى تغيرت فأصبحنا نسمع عن "داعش" هنا وهناك، وعن جيش خراسان وعن جماعات لا تعد ولا تحصى. ومما يؤزم الوضع أكثر فأكثر أن للغرب فلسفته الخاصة إذ يرى أنه يمثل قوى وقيم "الخير" في هذا العالم وأن "الإرهاب" هو "الشر" بعينه. وعلى الجهة الأخرى ففلاسفة ما يسمى ب"الإرهاب" وعلى النقيض من ذلك،يرون أنهم كذلك يدافعون عن "الخير". غير أن اللافت للنظر هو أن صراع الإرادات هذا تتأرجح كفتاه بين إستراتيجيتين متضاربتين الى أقصى الحدود. فمن جهة يستثمر الغرب إعلاميا في إخضاع المعلومة الى منطق القوة والجبروت من أجل اجتثاث "الإرهابيين" من العالم الحر. وهنا تدخل عملية الأسطرة على الخط؛ لكي يصبح للإرهاب بعد كوني فتبدأ وسائل الإعلام،سواء في الشرق أو في الغرب،على حد سواء،تمارس استبدادا يذهب إلى حد التحكم بأذواق ورغبات الجماهير وتوجيهها وفق قاعدة "أنا على حق وأنت على باطل". ومن جهة أخرى،وبما أن العراق يعتبر حاليا أول وأكبر مجال للصراع في عصر المعلومة، فإن هذا الصراع في حد ذاته يتغذى بوسائل وتقنيات جديدة من طرف ما يسميه الغرب "إرهابيين" : فالاستباق على مستوى الخبر،واختيار الزمان والمكان وشد الانتباه في جميع أنحاء العالم والاستغلال الجيد لتدفق الصور المروعة ،كل ذلك يصهر ويقدم من خلال منظور الهيمنة الإعلامية.وهنا وجب التذكير أن تحليل الحروب لم يعد مقتصرا -كما كان من قبل- على عامل القوة،بل أصبح يعتمد أيضا على المعلومة كمفهوم يضم: الفكرة والعداوة،الإيديولوجيا،الذكاء،الصورة والتأثير. إن ما يقلق الغرب حاليا هو أن المجموعات التي تقاتله بطرقها الخاصة باتت تعتمد أفكارا فيها من الدهاء ما فيها، فلم يعد ما يسمى "بالإرهابي" يرغب في "قتل أكبر عدد من الناس ،بل أصبح يرغب في أن يعرف أكبر عدد من الناس " وهنا المفارقة. فالبحث عن التأثير السيكولوجي أصبح شغله الشاغل لأنه أشد تأثيرا من العامل العسكري.الرمزية هي الأخرى أصبحت لها مكانتها فالقارئ يتذكر صور سجناء معتقل كوانتنامو بلباسهم البرتقالي ،فهاهو تنظيم داعش بالعراق والشام يستغل نفس الأسلوب ويظهر بنفس اللون سجناءه ثم يذبح بشكل أكثر ترويعا؛ ليكون تأثير الصدمة أكبر.وبالرجوع الى هجمات باريس، فقوة الرموز ظاهرة بشكل لافت أيضا :فالمهاجمون الثلاثة اختاروا بنك الأهداف بشكل دقيق:صحفيون أفراد شرطة يحمون مكونات المجتمع الفرنسي من بيض وسود،يهود ومسلمين...من الصعوبة بمكان أن لا تتعاطف فئات و طبقات من المجتمع الفرنسي مع الضحايا بمختلف تلاوينهم. فكلنا يعرف أن الحريات بفرنسا مبنية على ثلاثية فسيفسائية :حرية التعبير،توفير الحماية ،وتعايش الفئات والأجناس. وبدون شك فإن مئات الآلاف من المسلمين على مستوى العالم قد فرحوا بالهجوم على شارلي ابدو ،الجريدة التي لم يكن لها قراء كثر، لأنه أشفى غليلهم ،كون الرسول محمد (ص) من المقدسات،وكون مالي بلد إسلامي تدخلت فرنسا في شؤونه الداخلية...غير أن اللافت للنظر من خلال هذه الأحداث هو النتائج الخطيرة التي تم رصدها: فبعد مراح ونموش وفي نفس اللحظة مئات الشباب التحقوا بتنظيم الدولة بسوريا والعراق. لا مناص للغرب اليوم من الخروج من دوامة العنف؛ لأن بلدانه تصنع وبطريقة غير مباشرة وبسبب سياساتها غير المحسوبة العواقب أعداء مجانيين. فلا يستبعد المرء أن يخرج "جهاد الأصدقاء" و"جهاد الإخوة" من نفس المكان الذي خرج منه نموش ومراح. ولا نستبعد كذلك خروج أشخاص على شاكلة كوليبالي من سجون فرنسا ... إن الغرب اليوم يغطي على سياساته العوراء بأخطاء قد تهدد قيمه من الداخل لأن ما تسميه مراكز البحث الإستراتيجية "إرهاب" أصبح اليوم معولما ومرتبطا برهانات سياسية يصعب على أي محلل تحديد من يوظف أوراقه أو أهدافه. لقد أضحى الإرهاب المعولم من التحديات التي تستلزم على الغربيين والمسلمين ،الوقوف عندها لا عبر التصدي لها عسكريا فقط، بل عبر دراستها وتمحيصها بغية التمكن من فهمها ومحاولة درء مخاطرها وكل ذلك يجب أن يصاغ في إطار يراعي الإطار الكوني الإنساني والمحلي الخصوصي. إن استمرار هذا الإشكال المؤرق بالتأرجح بين عدة مستويات سياسية في أروقة الغرب من شأنه أن يحول دون إيجاد حلول له على المدى القريب. وسيبقى هناك دائما وأبدا أبرياء يؤدون الفاتورة .