عندما قرر المرشد الأعلى للثورة الإيرانية القبول بوقف إطلاق النار بعد ثماني سنوات من الحرب مع العراق، قال: كأني أتجرع كأس سم. (هيكل. حرب الخليج). ليست كلمة المرشد مجرد تعبير أدبي في وقت فورة، لكنها كانت تعبيرا عن غصة استراتيجية مثلتها العراق للمشروع الإيراني، منذ القدم.لقد كانت البوابة الجنوبية لمنطقة الخليج العربية حاجز صد ضد أطماع التوسع الإمبراطوري لدى النخبة الفارسية في طهران. بغض النظر عما يمكن قوله عن أخطاء النظام البعثي في العراق. كان سقوط بغداد على يد الأمريكيين "هدية" سعى إليها الإيرانيون بدون توان، ومدوا يد المساعدة فيها بسخاء؛ فقد دخل ثلاثة آلاف عنصر من المليشيات الشيعية تحمي ظهر الجيش الأمريكي في الفرات الأوسط. يعتمد الملالي في قم على قاعدة بشرية واسعة في العراق تدين بالولاء المطلق لمرجعياتها في إيران، يوكبونها بعمل يومي على الأرض، منذ انهيار نظام الرئيس صدام حسين، وقبله. مؤامرة هادي يعتقد صديقي عبد الصمد درويش وهو صحفي يمني أصيل أن هروب هادي إلى عدن كان بهدف إعطاء مسوغ للحوثي لاستهدافها. قد يكون هذا الرأي موغلا في التفسير التآمري، وإن كانت الوقائع تقول إن هادي كان على خط اتصال متناغم مع الحوثي، سواء كان تخطيطا أو صدفة، أو استغفالا. لا يهم. ملاحظة أن أول سفارة تنتقل من صنعاء إلى عدن، مقر الرئيس اليمني، هي السفارة الإماراتية، والإمارات ضالعة إلى الأذقان في التنسيق مع الحوثي، تعضد نظرية المؤامرة هذه. كل هذا ليس ضروريا جدا لفهم أن عبد ربه على تواطئ مع الحوثي؛ فهو من كان يصدر الأوامر، اختيارا أو كرها، للقيادات العسكرية والأمنية بتسليم المقرات لمقاتلي الحوثي، رغم اعتراض ضباط كبار في الجيش اليمني، وشخصيات عسكرية، ومدنية. ليس سرا أن الرئيس اليمني طلب من آمر اللواء 310 بعمران الضابط حميد القشيبي إخلاء المعسكر، وألح عليه بالقول "هذه حرب الإخوان والحوثيين، سأرسل إليك مروحية تقلك من هناك"، ولما رفض الرجل متشبثا بوفائه لأخلاق العسكرية، تركه يموت تحت أقدام فيلة كسرى القابع في طهران. بعد أسبوع سلمت جثة الرجل فدفن من غير مراسيم، ولا حداد ولا تنكيس أعلام. لا يهم إن كان الرئيس اليمني بعد كل هذا يتآمر مع الحوثيين، فلن يستفيد المعنيون بمواجهة الحوثي شيئا ذا بال من التدقيق في هذه المعلومة، كما لن يستفيدوا من بقاء هادي رئيسا طليقا، أو اعتقاله، وأكثر من هذا لن يفيدهم التعاون مع جثة فقدت حياتها، منذ زمن بفعل التقلب الدائم في المواقف. ببساطة لأن حد السنان الذي يتمدد به الحوثي، لا تفله بيانات الشرعية الناقصة، ولا يفيد فيه العويل على مساعي الأممالمتحدة، والمبادرة الخليجية ومخرجات مؤتمر الحوار الوطني. نحتاج أسنة غير الشباة التي يمتشقها بن عمر كلما أتيحت له فرصة لقاء مع الأضواء. من طهران إلى صنعاء إنها مسيرة استراتيجية يقودها رجال فكر وسياسة ومال، يبذلون في سبيلها أكثر مما يملكون، يدربون جنودهم في ثلاث من زجر دهلك، يستأجرها الحرس الثوري من أريتيريا لتدريب الحوثيين ومنها ينتقل الرجل والسلاح، إلى ميناء الحديدة بسهولة كبيرة 220 كلم من العاصمة صنعاء.يتألف أرخبيل دهلك من 126 جزيرة في البحر الأحمر على السواحل الأرتيرية قرب مدينة مصوع، تستأجر منها إسرائيل الجزء الأكبر،بموجب اتفاق معر أرتيريا سنة 1995. وفيه أكبر قاعدة عسكرية بحرية إسرائيلية خارج فلسطينالمحتلة، وتتخذ منه إسرائيل أيضا قاعدة اقتصادية لتربية المواشي، ومنه تأتي كل اللحوم المستهلكة في إسرائيل تقريبا. وهو قريب أيضا من باب المندب. إن الدول التي تستثمر في النفوذ هي التي تربح. جاهل من يظن إيران تخسر من اقتصادها، لقد أنفقت على نظام الأسد خلال أربع سنوات 140 مليار دولار حسب تقديرات الأممالمتحدة، أي أنها تمنح سوريا بشار ميزانية دولة كاملة. إن هذه ليست هبة من الملالي، ولا اقتطاعا من أرزاق الشعب الإيراني في غير طائل. إنه مجرد رقم بسيط من دخل النفط العراقي المؤمم للنظام الإيراني، منذ الإطاحة بصدام حسين رحمه الله.يديرون معركتهم مع الغرب في الفنادق، ويتشدقون أمام الشاشات بالكلام. إنها إيران بقضها وقضيضها، تعمل لهذه القضية وتنفق فيها المال والسلاح والرجال والوقت وتديرها بحرفية استراتيجية. لن تواجه هذه الاستراتيجية الإيرانية ببيانات وتصريحات ومبادرات. هذا عمل استراتيجي علمي رصين لا يمكن أن يواجه إلا بما يقابله. اليمن اليوم يحتاج أكثر من ردات فعل عاطفية (مشاعر الحكام العرب غير مشهورة بالحرارة طبعا عندما يتعلق الأمر بمصير الأمة) ودعوات لمجلس الأمن، ولجامعة الدول العربية، وتغنٍّ بشرعية منصور هادي. إنها بحاجة إلى من يجبر الخميني مجددا على تجرع كأس السم. الغفلة الاستراتيجية يدفع النظام العربي (إن كان ما زال ثمة نظام عربي) ثمن خطاياه في التعاطي مع ربيع اليمن؛ فقد كان هم القادة في العواصم العربية، خاصة الرياض، منصرفا إلى التفكير في إجهاض حراك الشباب اليمني الطامح إلى الحرية، متناغما بذلك مع الخط الاستراتيجي للجمهورية الإسلامية في اتجاهين: الأول منهما إشغال رجالات اليمن عن أي تفكير خارج مربع قصر الرئاسة فنقاذ اليمن من انهيار محقق، بفعل سطوة الأجهزة الأمنية الخاضعة لعلي صالح على مرافق حياة اليمنيين كافة. والثاني هو إنهاك القوى الوطنية اليمنية في معركتها الداخلية مع أجهزة صالح، بدل العمل على تنقية الدولة والمجتمع من آثار أربعين عاما من حكم مافيا صالح المستظلة بظلال قصر اليمامة. فقد كانت الرياض وأبوظبي مشغولتين بالإبقاء على هيكل صالح صالحا للترميم وهي العملية التي منحت صالحا فرصة تبديل الجلد المحروق ومد يد ترعاها العناية الأمريكية إلى الحوثي. واستطاعت إيران أن تُسوِّق الحوثي للولايات المتحدة ضمن نادي محاربة القاعدة. ثم استطاعت أن تجمع بين خليفة صالح المرتقب أحمد، وهو سفير اليمن في الإمارات، وبين الحوثيين في روما بالتنسيق نع الإمارات طبعا. والعهدة على الصحفي البريطاني سيمون هيرش. كانت الرياض منشغلة بإغلاق النوافذ أمام نسيم الثورة، فلما جاءتها العاصفة وجدت الباب مفتوحا. لا مستحيل ثَم ليس مستحيلا اليوم أن تتدارك المجموعة العربية خاصة في ظل التقارب السعودي القطري خطأها في اليمن، وترغم الحوثي وعلي صالح على التراجع إلى حدود صعدة؛ فلا تزال الأوراق السعودية الاستراتيجية وافرة في اليمن؛ فهي التي تدفع أرزاق مآت الآلاف من اليمنيين، منهم أعضاء أساسيون في مافيا صالح، بشكل مباشر وغير مباشر. تملك السعودية في اليمن تاريخا من التحالف مع القبائل السنية والزيدية، فجميع النخب اليمنية تقريبا، بما فيها البعيدة نسبيا عن خط المملكة (الإخوان، واليسار) تنظر إلى السعودية على أنها عمق استراتيجي لليمن، وشقيقة كبرى، ظلت تؤثر في القرار اليمني منذ أمد بعيد. وللسعودية أطول حدود برية مع اليمن تضم مآت الآلاف من السكان متداخلي الأنساب.وقد كانت المخابرات السعودية تجوس الديار اليمنية منذ الحرب الأهلية وتحصي أنفاس المقاتلين المحتملين في صفوف تنظيم القاعدة بجزيرة العرب، كما كانت إحدى الأدوات المهمة للحرب الأمريكية على "الإرهاب" في اليمن. لقد بدأ اليمن يحث الخطى نحو حرب أهلية، يصعب تقدير درجة تكافئ طرفيها، اللذين استطاع أحدهما حتى الآن الاستحواذ على ما كان بيد الدولة من معلومات، وأسلحة ومخططات وخرائط، ولاذ الآخر بالصمت، والانكماش في انتظار فرصة، أو نتيجة حالة ارتباك. وصُبابةِ الشرعية. كل نقاط قوة الدولة بيد الحوثي، وما تبقى من شرعيتها على طاولة معسكر هادي.ولدى الحوثي نقاط ضعف وارية لا تحتاج أكثر من التفافة سريعة لتحويلها إلى نقاط قوة لخصومه؛ فهو يعتمد على ميليشيا أقلية من الأقلية؛ فهم ينتمون إلى الفرقة الجارودية من الزيدية اليمنية، وهي أقلية في المذهب الزيدي تقترب من المذهب الاثنا عشري، السائد في إيران، التي أقام بها الزعيم الروحي للجماعة بدر الدين الحوثي سنوات، وبها تأثر بالخميني، ويرى إمكان تطبيق نموذج ولاية الفقيه في اليمن.والزيدية يمثلون أقل من أربعين بالمائة (حوالي 35 بالمائة، حسب بعض الإحصاءات) من سكان اليمن. هذا مع أن كثيرا من فقهاء الزيدية يعتبرون الجارودية "مذهبا بدعيا". وقد تمددت الجماعة أكثر من طاقتها، فمقاتلو التنظيم رغم أنه لا توجد تقديرات دقيقة بعددهم، إلا أنهم لا يملكون القدرة على تأمين بلد مترامي الأطراف مثل اليمن تقترب مساحته من 600 ألف كم2، يسكنها أكثر 24 مليون نسمة، متنوع قبليا، ينتشر فيه السلاح مثل انتشار القات. هذا علاوة على ضعف مستويات التعليم والكاريزما لدى قيادات الجماعة. لا يحتاج الخميني الجديد إلى صدام ليجرعه كأس السم، بل يحتاج قليلا من الحزم، وكثيرا من الواقعية، وشيئا من الإقدام، و"تناسيا استراتيجيا" لبعض المخاوف. *كاتب صحفي موريتاني