في فاتح فبراير 1979، حينما كان شيخ وقور ناهز الخامسة و السبعين من العمر يهبط سلم الطائرة في مطار مهرأباد بطهران، كانت مرحلة من تاريخ إيران قد شرعت في التبدد و الاندثار فيما طفقت حقبة جديدة في تاريخ البلاد و في تاريخ العالم الإسلامي و العالم أجمع، تخُط أولى صفحاتها. فلأول مرة ? منذ الدولة الصفوية في القرن السادس عشر? سيعلن عن قيام دولة شيعية إمامية مبنية على المذهب الإثناعشري. و ابتداء من ذلك التاريخ تغيرت المعطيات الجيوسياسية بالمنطقة، و شرعت الدولة الجديدة في استخدام و تصدير سلاحها المذهبي، عبر العالم، في البداية إلى المناطق القريبة التي تحتضن شيعة إثناعشرية و بعدها إلى المناطق الشيعية حيثما وُجدت ثم إلى العالم الإسلامي كاملا و أخيرا إلى العالم أجمع و أينما وجد المسلمون. في هذه السلسلة من المقالات، نتابع الكيفية التي تقوم بها إيران بنشر التشيع، و المذهب الإثنا عشري تحديدا، عبر العالم خدمة لمصالحها السياسية كدولة صاعدة ترنو إلى الهيمنة على محيطها القريب و السيطرة على دُوله، و ذلك من خلال التمكن من عقول مُواطني هذه الدول. و من أجل فهم أفضل، لا بد من وضع الشيعة و أصولها الفكرية و فرقها المختلفة في سياقها التاريخي القديم و الحديث، و هو الأمر الذي من شأنه أن يسهل فهم توزيعها الجغرافي الراهن و بالتالي استيعاب مخطط الجمهورية الإسلامية الإيرانية و وضعه في سياق الصراع الدولي الجاري. يبدو التنظيم الحوثي لدى النظرة الأولى كنشاز تاريخي: فهو حركة رجعية عتيقة (و في هذا يتشابه مع حركة طالبان الأفغانية) تحن إلى عهد إمامة تنتمي للقرون الوسطى، طفت على السطح بشكل مفاجئ في لحظة أزمة فُقدت فيها المرجعيات. فالحوثيون في الأصل يشكلون حركة دينية ترى في "بدر الدين الحوثي" قائدها و زعيمها الروحي اتخذت لها إسما هو "أنصار لله" بهدف أول هو الدفاع عن الثقافة و التقاليد الزيدية في اليمن أمام الزحف السلفي الوهابي القادم من السعودية. و قد أخذت هذه الحركة الزيدية في الأصل، إسمها من بلدة حوث و هي قرية تقع في منتصف الطريق بين صعدة شمالا و صنعاء جنوبا، و منها ينحدر الشيخ بدر الدين الحوثي الذي تأثرت الحركة بأطروحاته الدينية و الفكرية. و يُعد الحوثي أحد فقهاء المذهب الزيدي المناهض للمذهب الحنبلي في اليمن، الذي كرس لنقده عددا من المؤلفات. و قد ولدت نواة الحركة الحوثية سنة 1986 حين تم إنشاء "اتحاد الشباب المؤمن" لتدريس المذهب الزيدي لمعتنقيه، و كان بدر الدين الحوثي من ضمن المدرسين في هذا الاتحاد. و في سنة 1990، حين تمت الوحدة اليمنية وفتح المجال أمام التعددية الحزبية، تحول "اتحاد الشباب المؤمن" إلى "حزب الحق" الذي يمثل الطائفة الزيدية في اليمن. و ظهر حسين بدر الدين الحوثي كأحد أبرز القياديين فيه، و دخل مجلس النواب ممثلا عنه في ما بين سنتي 1993 و 1997 . وتزامن هذا مع حدوث خلاف كبير جدا بين بدر الدين الحوثي و بقية علماء الزيدية، و على رأسهم المرجع مجد الدين المؤيدي ، الذين أصدروا فتوى تقضي بأن "شرط النسب الهاشمي للإمامة غير مقبول اليوم، و أن الشعب يمكنه أن يختار من هو جدير لحكمه دون شرط أن يكون من نسل الحسن أو الحسين" و هي فتوى متقدمة جدا في سياقها، إلا أنها لم ترق لبدر الدين الحوثي المنحدر من أحد البطنين (الحسن أو الحسين). و لهذا اعترض الحوثي بشدة على هذه الفتوى (التي تتعارض مع الإثناعشرية) إلى درجة أنه شرع يدافع صراحة عن المذهب الإثناعشري وأصدر كتابا بهذا الخصوص، و نظرا للمقاومة الشديدة لفكره فقد اضطر إلى الهجرة إلى طهران حيث عاش هناك عدة سنوات. و كانت تلك بداية انتشار المذهب الإثناعشري في منطقة صعدة و محيطها. و إذا كان بدر الدين الحوثي قد برز نجمه كمدافع عن فرع من فروع الزيدية (الجارودية نسبة إلى أبي الجارود زياد بن المنذر الكوفي الهمذاني) فإن إبنه الحسين الحوثي لم يُخف ميله إلى الأفكار الإثناعشرية و راح ينشرها في محاضراته و كتيباته كما أظهر تأييده و تأثره ب"حزب لله" اللبناني. و لهذا فقد لقي الحوثيون اتهاما من فقهاء الزيدية نفسها، بالخروج عن المدرسة الزيدية و الاقتراب من الإثناعشرية كما اتُهموا يالتطرف و المروق بل إن بعضهم اتهمهم بالإلحاد و هو ما رد عليه فقهاء الحوثيين بأن هذه الاتهامات صادرة عن "علماء السلطة". إلا أن هذه الصورة عن الحوثيين بدأت في التبدد كي تحل محلها صورة أخرى تنأى بنفسها عن المذهبية الضيقة. فقد كانت مطالبهم في البداية لا تتعدى السقف الثقافي و الاجتماعي، غير أنهم طوروا فيما بعد تحليلا سياسيا أعلى في سياق حراك 2011 و بالتناغم مع بعض المطالب الشعبية مما أتاح لهم اكتساب دعامات جديدة من خارج الطائفة و المذهب. ففي الوقت الذي كان فيه الحوثيون مكتفين فقط بمناطقهم القبلية في الجبال المحيطة بصعدة، جاء الربيع العربي سنة 2011 و انهيار نظام علي عبد الله صالح (الحاكم منذ 1978) كي يتيح لهم توسيع مناطق نفوذهم الترابية و تقوية قاعدتهم الشعبية خارج منطقتهم التقليدية. فاحتجوا على الحصانة التي استفاد منها الرئيس السابق علي عبد الله صالح و المكانة التي حظي بها مؤيدوه في الحكومة التوافقية التي تلت حكمه، كما شرعوا في المطالبة بحقائب أكثر للأقلية الشيعية في الحكومة ذات الأغلبية من "حزب الإصلاح" (الفرع اليمني للإخوان المسلمين). وبذلك ارتفع سقف المطالب الحوثية من المطالب الاجتماعية والثقافية الفئوية إلى المطالب السياسية و الاجتماعية الوطنية. و في هذا السياق دعم الحوثيون الحركات الاحتجاجية التي انتشرت في شمال البلاد كما ساهموا بقوة في الإطاحة بالرئيس علي عبد لله صالح في نهاية سنة 2011 . استبشر الحوثيون خيرا بهذا الإنجاز إلا أنهم فوجئوا بأن ممارسات النظام السابق لا زالت على عهدها فرفعت شعار محاربة الفساد و هو نفس الشعار الذي يرفعه الكثير من المواطنين اليمنيين من مختلف الجهات و المذاهب، و هو ما ساهم أيضا في إخراج الحركة الحوثية من نطاقها المذهبي إلى الوطنية الأوسع. وقد تميز الخطاب الذي يحمله الممثلون السياسيون للحركة الحوثية المقيمون في صنعاء بالطابع الليبرالي الأثير لدى الشباب من مختلف الطوائف و الذي يتعارض مع الخطاب المتشدد لحزب الإصلاح الإخواني و للخطاب السلفي المرتبط بالسعودية. و في هذا السياق أعلن الحوثيون تشبتهم بالخيار الدمقراطي مع بدء الحوار الوطني للمصالحة عقب الإطاحة بعلي عبد لله صالح، وهو ما يعني أن الحوثيين لا يرغبون و لا يسعون إلى إعادة الملكية التي كانت مهيمنة قبل 1962 و لا يناضلون من أجل إقامة دولة دينية فالشريعة بالنسبة لهم ينبغي أن تكون مصدرا من مصادر التشريع و ليست المصدر الوحيد، كما أن تأكيدهم على حقوق المرأة و خاصة حقها في تولي المناصب السياسية قد ساهم في تقريب الحركة الحوثية من بعض المناضلين الليبراليين ضد إسلاميي الإصلاح و السلفيين المتشددين. و مما سهل تمدد الحوثيين وصولا إلى سيطرتهم على العاصمة صنعاء هو ضعف الدولة اليمنية منذ انتفاضة 2011، خاصة في المناطق الجبلية بشمال اليمن، و كذا ضعف الجيش اليمني و تفككه و سيادة الانتماءات القبلية داخله. فقد استغل الحوثيون في منتصف سبتمبر 2014 إعلان الحكومة الزيادة في أسعار المحروقات لشن هجومهم على العاصمة صنعاء، فحصلت مظاهرات سنية و شيعية داخل العاصمة و هو ما يسر سيطرتهم على العاصمة في 21 سبتمبر نفسه. و بذلك اعتبرت حركة "أنصار لله" الحوثية نفسها حركة ثورية وطنية تشمل اليمن جميعه و لا تقتصر على المناطق الزيدية، و منذ سيطرتهم على العاصمة صنعاء طفق الحوثيون في التمدد جنوبا حتى سيطرتهم على ميناء الحُديدة و هو ميناء استراتيجي يقع على الساحل الشرقي للبلاد. هكذا كانت حركة الحوثيين حركة ضد الظلم و التهميش الذي يطال منطقتهم ثم تحولت إلى تيار وطني كبير، تتخلله نقطة ضعف قاتلة هي تبعيته للنظام الإيراني الذي "يعتبر اليمن بوابة عبور جنوبية ملائمة لوصول دول المنطقة و مصر، خاصة بعد مبايعة بدر الدين الحوثي لخامنئي خلال زيارته لإيران باعتباره ولي أمر المسلمين في العالم" كما يقول الدكتور علي نوري مدير مركز الدراسات الإيرانية بلندن. بينما يقول البعض الآخر أن استقواءهم بالخارج لم يأت إلا ردا على تدخل الجارة الشمالية الكبرى في شؤون اليمن. فالدعم السعودي للسلفية الوهابية داخل اليمن هو من دفع الحوثيين إلى البحث عن سند لهم من إيران أو من حزب لله اللبناني، فشرعوا يرفعون شعارات مُماثلة لشعارات الثورة الإيرانية لسنة 1979 و يرفعون أعلام حزب الله فوق مقراتهم. بيد أن هذين الحليفين القويين قد شرعا في التأثير على هوية الفرقة الزيدية فانتشرت بعض الممارسات و الطقوس الإثناعشرية الغريبة على الزيديين مثل إحياء ذكرى عاشوراء (ذكرى مقتل الحسين) مع ما يرافقها من لطم و تطبير و هو ما جلب على الحوثيين انتقاد الزيديين المحافظين الذين عبروا عن تخوفهم من تشويه المذهب و تقسيم البلاد. و إجمالا فإن الحركة الحوثية كانت نائمة تغط في سباتها فأيقظها التسلل المذهبي السعودي الناعم في البداية (مع الشيخ مقبل الوادعي) و طفقت تدافع عن هويتها إلى أن دفعها الحراك اليمني إلى مقدمة المشهد السياسي فرفعت شعارات وطنية و سياسية تعلو فوق سقف المذهبية إلى أن تمت الإطاحة بنظام علي عبد لله صالح. بيد أن اختطاف الحركة الثورية من طرف حزب الإصلاح الإخواني قد غير المعطيات، فنأى الحوثيون بأنفسهم عن الحركة، و دخلوا في صراع ضد حزب الإصلاح الإخواني الذي اعتبرهم هراطقة و أذنابا للنظام الإيراني. غير أن ابتعاد السعودية عن دعم حزب الإصلاح اليمني (في إطار سياستها العامة بعدم تقديم المعونة للتنظيمات المرتبطة بالإخوان المسلمين) من شأنه تخفيف حدة التقاطب الطائفي داخل البلاد، و ابتعاد الحوثيين عن الارتماء الكامل في أحضان إيران الدولة و المذهب الإثناعشري. غير أن هذا لا يضير إيران في الوقت الراهن فهي، و قد رمت بذرتها المذهبية، تراهن على المستقبل البعيد من أجل حصد المحصول السياسي في الظرف الملائم، تماما كما تفعل حين تدعم بعض الأفراد المسلمين السنة في مختلف بقاع العالم من أجل التحول من مذهبهم السني إلى المذهب الشيعي, و هم ما يُعرف في القاموس الشيعي ب"المستبصرين". الحلقة المقبلة: المستبصرون