كان نظام التعليم بالمغرب موضوع نقاش منذ الاستقلال، و قد عرف العديد من المحاولات والمشاريع لإصلاحه، وبالرغم من الحديث عن التقدم المنجز لحد الآن، يتضح أن النظام التعليمي مازال متأخرا، و لا يلوح أي إصلاح مستدام و فعال في الأفق. ويمكن تشبيه وزراء التربية و نماذج الإصلاح التي قدموها بالمد و الجزر، حسب التعبير الاستعاري لجاك ماكدفيت، "حيث يأتون و يذهبون، و يحدثون الكثير من الهرج و المرج، لكنهم حتما يغادرون الشاطئ كما و جدوه، و في المناسبات القليلة التي يحدث فيها تغيير مهم، نادرا ما تكون التجربة جيدة،" و في هذا الصدد، نتساءل عن هذا التيه الذي أصبح قدرا لمشروع إصلاح التربية و التعليم في المغرب. اعتمادا على الدراسات التي قام بها أكاديميون عرب و أجانب حول المنظومة التعليمية، مثل أكاري [2014]، باشور [2015]، الامين [2005]، مازاوي [2010]، سيد [2005]، سيرجيوفاني [2001]، و فانسات [2015 أ، 2015 ب]، نلاحظ، بوصفنا مشاركين و ممارسين في الميدان، أن أغلبية مبادرات الإصلاح المتتالية في المغرب كانت عبارة عن تطبيق لبرامج سياسية منعزلة عن انشغالات العاملين في القطاع، و عن السياقات الثقافية والاجتماعية للمؤسسة التربوية؛ فقد قُدم إصلاح المنظومة التربوية على شكل برامج إستراتيجية كبرى فوق-تحتية (من الأعلى نحو الأسفل)، تم إعدادها عبر سياسيات على المستوى الوطني، و هناك شك كبير فيما إذا كانت هذه المقاربات الفوقية، إضافة إلى التبني غير النقدي و المسيس لبرامج مستوردة، قادرة على القيام بإصلاحات لتحقيق أهدافها. يبدو أن هذه المقاربات الممارسة منذ الاستقلال، رسخت على مستوى القاعدة الشعبية عقلية الابتعاد عن عملية اتخاذ القرار؛ إذ لا يعتبر العديد من الممارسين المحليين المشاركة في إعداد الإصلاحات التعليمية من مسؤولياتهم، بل يعتبرونها من مسؤولية صناع القرار و الحكومات الوطنية. و تنعكس هذه النظرة الأبوية للتغيير بعمق في النظام التعليمي، حيث يمكن أن يتحول الأساتذة إلى منفذين سلبيين، بدون وعي نقدي، لبرامج تربوية جاهزة من غير أن يتخذوا مبادرات و مواقف نقدية، أو يجازفوا باقتراح أفكار جديدة تمكنهم من مساءلة الوضع القائم. إن ما يمكن أن يزيد أزمة التعليم سوءا هو أن الأساتذة لا يرون أي سبب يدفعهم إلى المغامرة بمسارهم المهني عن طريق اقتراح مشروع للتغيير بمؤسساتهم، خوفا من انتقام التيار المحافظ المستفيد من الوضعية القائمة، وهكذا يتم التبني غير النقدي لمبادرات الحكومة الخاصة بإصلاح البرامج التعليمية من لدن المؤسسات التربوية المغربية، في ظل الاعتقاد السائد لدى قواعد هيئة التدريس بأن هذه البرامج مجددة، وقد تم تنزيلها عبر بنيات و سياسات غير قابلة لأي تقييم نقدي، و بالتالي فإنها تعتبر غير قابلة للتغيير، و تبعا لذلك يظل البعد المعياري للتدريس، بما في ذلك القيم و المعتقدات، مسألة غير مفتحصة، خاصة في مستوى التعليم العالي. يشكل الاعتزاز بالنفس المبالغ فيه، و الذي تغذيه الخطاطة الثقافية للشرف و العار، تحديا آخر يواجهه النظام التعليمي، و عائقا صعبا يحول دون تعلم الأساتذة من بعضهم البعض؛ فمن الملاحظ أن الأساتذة يعتبرون الاعتراف بالأخطاء عموما أمرا مخجلا، مما يعيق أي مجهود للمساءلة الواعية للذات، و المبنية على المكاشفة العلمية، و التقييم و النقد الذاتيين. و في السياقات التربوية، يتفق معظم الفاعلين التربويين على الاحتفاظ بالعلاقات الطيبة، و حماية المشاعر الشخصية على حساب الإنجاز الأكاديمي، فبدلا من الانخراط في البحث الإجرائي الذي يؤدي إلى صقل المهارات و توسيع المعارف، و إلى تطوير النقد البناء لتحقيق الأهداف المنشودة، يتجنب الممارسون الخوض في النقاشات و التقييم المتعلق بالبرامج والمناهج التعليمية وكيفية تطبيقها، حتى لا يجرحوا الاعتزاز بالذات لدى بعضهم البعض، و تبعا لذلك تصبح مبادرات الإصلاح مرتجلة و غير خاضعة لأي تخطيط، حيث يتعثر تطبيق هذه المبادرات بسبب غياب عمليات ممأسسة تضمن التقييم المستمر الذي يجعل العملية التعليمية فعالة. و مما يزيد الطين بلة، أن تطبيق الإصلاح يتم دون تدريب أساتذة الجامعات على كيفية تبني المقاربات و الإبدالات (البارادايمات) الجديدة، فالعديد من الأساتذة غير مدربين أصلا على تدبير المسؤوليات العادية، فكيف لهم أن يتصرفوا حيال الأعباء المضافة، و الإرهاق الذي تتسبب فيه مبادرات الإصلاح؟! و يجد الأساتذة الذين يعملون بالمدارس أنفسهم مثقلين بالعدد الكبير من ساعات التدريس و الواجبات التوجيهية، و لهذا لا يتبقى لهم سوى القليل من الوقت للانخراط في البحث و التفكير النقدي المتجدد الذي يعتبر من المبادرات الضرورية لتحقيق تحسن في العملية التعليمية. و حتى الأكاديميون، الذين لا يقضون سوى ساعات قليلة داخل قاعات الدرس بالجامعة، لا يخصصون جزءا من برنامج عملهم للبحث في المعرفة المافوقية و المنهجية المتعلقة بعملية التدريس. و قد لا يكون حكمنا عاما، إن نحن أجمعنا على أن الأساتذة المغاربة هم مجرد منفذين طيعين، و أتباع فاقدين للحس النقدي، إذ ليست هناك أية فرصة لديهم للاستفادة من تجاربهم المشتركة عبر الحوار و التعاون و الملاحظة، و تدوين قصص نجاحهم و فشلهم، وهكذا لا يبدو التدريس أكثر من مهنة بيروقراطية و روتينية [انظر أكاري 2014]. يجب على الحكومة المغربية أن تتوقف عن النظر إلى الإصلاح كعملية تعلم لفكر جاهز، تتحكم فيها نماذج تربوية فوق-تحتية، كما يجب عليها أن تراجع نظرتها للإصلاح بوصفه عملية تبن مستعجلة تتطلب تنفيذا عاجلا. لقد حان الوقت لأن تتوقف الحكومة المغربية عن تسمية الإصلاحات "بالبرامج الاستعجالية"، و كأن التعليم يعاني من أزمة قلبية، و كأنه مريض مخدر على طاولة، يحتاج إلى صدمات كهربائية ليستعيد قلبه نبضه العادي في المناخ الاجتماعي. وعلى العكس من ذلك، فان التعليم يحتاج علاجا سريريا طويلا ليتلاءم و الحاجيات السياسية و الاقتصادية و الثقافية للتغيير الاجتماعي، فيجب على الحكومة أن تفكر في التوطين الثقافي للإصلاح، و هذا يعني أن عليها أن تخضع أي فكرة أو منهج جديد للبحث الإجرائي، ليس فقط لمعرفة مدى فعاليتهما، و لكن أيضا لملاءمتهما للسياق الثقافي حيث سيتم تطبيقهما، و يجب التركيز على تنظيم ندوات بين الباحثين على المستوى المحلي ليتبادلوا التجارب الشخصية، والموارد و الأفكار النقدية، حتى تتم بلورة اقتراحات سياقية لتحقيق التقدم المستهدف. لنكن واضحين بشأن النظام التعليمي الذي يتسم بالترابط والتشابك ، والذي يفترض أن يكون صناع التغيير فيه عبارة عن مجموعة مترابطة من المتدخلين من أصحاب القرار و الأكاديميين و أساتذة المدارس و الطلبة، ففي الوقت الذي يعتقد فيه أصحاب القرار أن الإصلاح تحقيق لنظام تعليمي مستقر، يجب أن يتعامل الفاعلون التربويون مع هذا الإصلاح على أساس كونه عملية ديناميكية مفتوحة بسمات مميزة و اشتغال يومي متغير. و في ضوء هذا الرأي، يجب على المشتغلين بالإصلاح أن يواجهوا مسألة التوفيق بين النماذج الكبرى (الماكروية) التي يصوغها صناع القرار و بين الواقع الميكروي في مستوياته الصغرى، لاسيما في مستوى الممارسة الفعلية في قاعة الدرس. و ينبغي أن يضم هذا الإبدال المنهجي الجديد مجهودات كل المتعاونين عبر قنوات مؤسساتية مجددة تكسر ذلك الجمود البيروقراطي المميز للتراتبيات التعليمية التقليدية التي تعزل الممارسين على المستوى المحلي، و تمنعهم من المشاركة في الإصلاح. كيف يمكن للفاعلين التربويين المغاربة أن يترجموا برامج الإصلاح إلى ممارسات فاعلة في مستوى قاعة الدرس؟ لقد حان الوقت لنودع الكلمات الكبيرة، و الأهداف الكبيرة، و الأحلام الكبيرة، ولنؤكد على الفعل التربوي: التعلم، المؤسسة، الأستاذ، و قاعة الدرس، بعبارة أخرى، نحن في حاجة ماسة إلى تحول عميق في مستوى الإبدال (البارادايم)، و تغيير في المقاربة التقليدية الفوقية التي تضع الخطط و الصياغات و البرامج. إننا نحتاج إلى مقاربة تحت-فوقية تركز اهتمامها على بناء قدرة الأساتذة و الأكاديميين و المشتغلين بالمدارس لتمكينهم من تخطيط الإصلاحات بأنفسهم وتطبيقها. فلا وجود لمقاربة معيارية صالحة للجميع، ولهذا يجب على الفاعلين التربويين أن يتبنوا نظرة تحويلية للتغيير، تكون بمثابة خطوة أساسية لتغيير إبدالات الممارسة القائمة. و يتطلب هذا الأمر الانخراط في التفكير النقدي و التقويم الذاتي لإعادة النظر في المعايير و القيم البديهية التي تتكون خلال الممارسات التعليمية، فعلى الفاعلين التربويين، تبعا لذلك، مساءلة عملهم، و عمل زملائهم، و عمل المؤسسة، و ذلك بإعادة فحص إجراءات التدريس و التقويم و الإصلاح، كما يجب أن تتجاوز أفعالهم المعالجة لتقوم بالتجديد والابتكار. ينبغي أن يكون المصلحون المغاربة واعين بمشاكل التطبيق، فغالبا ما يحضرون تعليمات أحادية الجانب، و يفرضون تطبيقها على الممارسين المحليين، و كأن قاعة الدرس تحوي مخلوقات أوتوماتيكية و روبوتات. ويلاحظ أن هناك إهمالا تاما لتخطيط برامج مرافقة لمراقبة سير التطبيق، تمكن من تحديد الصعوبات التي قد تواجه الممارسين في المستوى المحلي، و الذين هم من ينفذ الإصلاح و يرسم حدوده الثقافية. إن التغذية الاسترجاعية و بعد النظر في فهم السياقات المحلية، عبر التقييم و تبادل الأفكار البناءة خلال عملية التطبيق، يمكنان من تصحيح برنامج الإصلاح. وينبغي أن تقوم رؤية تطبيق الإصلاح على مقاربة التغيير، بوصفه عملية تطورية و ليست ثورية، على حد تعبير أكاري، فبدلا من الحرص على تحقيق تطبيق متجانس لإصلاح التعليم، و مراقبة مدى التزام العاملين في القطاع بتنفيذ التعليمات، و مدى الفشل و النجاح، يجب أن تبذل مجهودات للملاءمة و التغيير، موجهة من طرف معرفة منهجية و مافوقية meta-procedural knowledge) ). هناك تحد آخر يواجه الإصلاحات الوطنية في المغرب، و يتمثل في القاعدة المعرفية الجامدة و الضعيفة، فليست لدينا معلومات دقيقة و محينة عن الواقع المحلي ((micro realities للنظام التعليمي، و هذا ناتج عن سببين أساسيين، وهما: 1. لا يتوفر الفاعلون التربويون على سجلات تجاربهم التعليمية، و لا يشاركون في التبادل الفكري لهذه التجارب. 2. تولدت حالة من الشلل عن انعدام قاعدة بيانات ديناميكية تتمحور حول الصعوبات و التغييرات التربوية. يعتبر دعم منهجية البحث الإجرائي من الطرق الكفيلة بإعطاء السلطة "للصفوف الأمامية" أو "بروليتارية" المشتغلين في الواجهة، و يجب أن يكون هؤلاء المشتغلون على إطلاع تام بالممارسة، و لا يمكن تحقيق ذلك إلا إذا توفرت قاعدة معرفية تستند إلى أرضية في الواقع المحلي، حيث يتم تطبيق الإصلاح. وإذا لم تتوفر معرفة أساسية عن التدريس و التعلم و المدرسة و النشاط الأكاديمي، ستكون نتائج الإصلاحات المستقبلية كارثية في مستوى المؤسسة، و في مستوى الحقل التعليمي برمته، و بالفعل، فان عدم تحقق هذه المعرفة يعد حاجزا كبيرا في وجه نجاح الإصلاح التربوي. يواجه النظام التعليمي في المغرب أيضا مشكل غياب استثمار بنيوي و مؤسساتي في التعاون بين المشتغلين بالقطاع، فهناك حاجة أساسية لخلق رأسمال اجتماعي، و شبكات مهنية لدفع الأساتذة و المهنيين للانخراط في حوار نقدي، و تبادل للأفكار حتى يتم توفير شروط النجاح للإصلاح. و ينبغي وضع اللبنات الأولى للتعاون المؤسساتي الذي يعتبر ميكانيزما فعالا يجعل الأساتذة مسؤولين أمام بعضهم البعض. ويجب أن يتشبث الأساتذة بقسط من المثالية التي تكبح الإحساس بالرضا إزاء الأوضاع القائمة، وتعبئ الممارسين للبحث عن ممارسة تربوية أحسن، وفي هذا الصدد يمكن الاستفادة من تقنية التدريس بالالتزام النشط والتدريس بالغضب، كما حددها سيرجيوفاني [2001]، باعتبارها سلوكا معياريا بين الممارسين. و لا يمكن لأي إصلاح أن يدوم أو يتحسن، إذا لم يكن مدعوما بشروط التعاون وتنسيق الجهود بين مختلف الفاعلين في العملية التعليمية. لقد حان الوقت لإعطاء سلطة واسعة للصفوف الأمامية المتمركزة في أسفل الهرم من اجل تحقيق التغيير المتوخى من تطبيق الإصلاحات. اعتمادا على أبحاث محينة أجريت مؤخرا في العالم العربي من طرف باحثين دوليين، ذكرنا بعضهم في مستهل المقال، نختم مقترحنا هذا بتقديمه كرسالة مفتوحة إلى المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي المنعزل في برجه العاجي بالرباط، لتحضير خارطة طريق فوقية غاية في الاستعجال، قصد إصلاح شامل للنظام التعليمي بالمغرب، و لعلها وصفة لطبخة جديدة ستقدم إلينا، بوصفنا الممارسين في الصفوف الأمامية، لأكلها سريعا. بالفعل، سنلتهمها بسرعة كعادتنا، و بعدها ستعاني معداتنا بالتأكيد! فلطالما انتفخت من جراء الوجبات السريعة لنماذج الإصلاح الأخيرة التي يتم حشونا بها في كل مناسبة و من غير مناسبة. و ليكن... إذن. لكن، إلى متى ستشكو المدارس و المؤسسات الأكاديمية من عسر الهضم وشتى أنواع المغص؟! *أستاذ بجامعة شعيب الدكالي – الجديدة ترجمة د. محمد مفضل، أستاذ بجامعة شعيب الدكالي – الجديدة