يبدو أن انتقال النقاش إلى البرلمان حول مشاريع القوانين التنظيمية المتعلقة بالسلطة القضائية قد كشف القناع عن حقيقة التصور المبطن المتبنى من قبل عدد من الفاعلين السياسيين حول السلطة القضائية، فإذا كان من الشائع في المتداول من خطاب الرأي العام تكرار المطالبة بضرورة استقلال القضاء وتحقيق نزاهته وفعاليته، فإن ما يروج حاليا من تصريحات خارجة من رحم النقاش البرلماني حول القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية يسير في اتجاه معاكس لما كان يُعلن، بما يعبر عن تصور مغلق لا يمت بصلة للشعارات المناسباتية التي كانت تُرفع من طرف بعض الفاعلين السياسيين، من خلال ما ظهر من رغبة واضحة في ليّ عنق الدستور لإيجاد مداخل لعرقلة تنزيل مقتضياته الناصة على استقلال السلطة القضائية بغرض فرض مواصلة هيمنة السلطة التنفيذية عليها، بمبرر مواجهة التصور الهادف لإقامة "دولة القضاة". وهو مبرر يحاول قسرا أن يخلط بين المفاهيم ويضبب الصورة، بغاية تغليط الرأي العام حول حقيقة ما يُراد فرضه من تصور متخلف يمهد الطريق لاستمرار العلاقة السابقة بين الحكومة والقضاء وهو الوضع الذي أجمع الكل على انتقاده نظرا للسلبيات الكثيرة التي أفرزها. وقد تم الاستناد في تبني المقولة التغليطية حول "دولة القضاة" إلى تحليل خاطئ لبعض التوصيات التي تضمنها الميثاق الوطني حول إصلاح العدالة والذي جاء نتيجة حوار موسع تحت الرعاية السامية للملك، بل إن الأمر تعدى ذلك إلى مستوى إعلان الرغبة الصريحة في استبعاد مقتضيات الدستور من خلال انتقاد البعض في وقت سابق لمقتضياته التي أخرجت وزير العدل من تركيبة المجلس الأعلى للسلطة القضائية. وهكذا وبعد أن حُسم النقاش الدستوري حول الجهة التي تتبع لها النيابة العامة، وتبني الميثاق الوطني حول إصلاح العدالة للتصور القائل باستقلالها عن وزارة العدل ونقل الإشراف عليها للوكيل العام لدى محكمة النقض، عاد وزير العدل ومعه بعض الأصوات الحزبية والصحفية بالنقاش إلى نقطة الصفر، عبر إثارة تخوفات ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، بالقول إن تحرير النيابة العامة من هيمنة وزير العدل سيجعلها بمنأى عن أي رقابة برلمانية ويعدم سبل المحاسبة، وسيؤدي استقلال جناحي السلطة القضائية (قضاء النيابة العامة وقضاء الحكم) إلى تشكيل دولة للقضاة، وهذا القول بالإضافة إلى كونه مخالفا لصريح الدستور الذي حُسم النقاش بصدده إبان الحوار الوطني حول إصلاح العدالة في منحى تأويله الديمقراطي الذي يفضي للقول باستقلال النيابة العامة عن الحكومة، فإنه يعكس جهلا نظريا وخلطا عمليا في الربط بين مبدأ استقلال السلط كتصور نظري، وأدوات تنزيله على مستوى ضبط العلاقة بين المؤسسات الدستورية داخل الدولة، إذ أنه وخلافا لما ذهب إليه أصحاب فكرة الهيمنة الذين يتبنون تحليلا يجعل جهاز الحكومة محتكرا للقيام بوظائف الدولة، فإن عدم تبعية القضاء للحكومة في الواقع لا يعني استقلاله عن الدولة أو تموقعه خارجها، ذلك أن الحكومة ليست إلا جهازا يمثل السلطة التنفيذية داخل الدولة، وخروج القضاء عن سلطتها لا يعني خروجه عن إطار الدولة أو تجاوزه لسيادتها، فالسلطة التنفيذية التي يمثلها رئيس الحكومة لا تجسد إلا مظهرا جزئيا لسلطة الدولة، أما هاته الأخيرة فيمثلها الملك باعتباره رئيسها وممثلها الأسمى بنص الفصل 42 من الدستور، ولا يمكن للجزء أن يهيمن على الكل ومن غير المقبول بأي حال من الأحوال أن تحتكر الحكومة صلاحية القيام بوظائف كل السلط (على اعتبار تحكم الحكومة في التشريع عبر المراسيم ومشاريع القوانين التي تمرر عبر الأغلبية الحزبية المتحكم فيها من طرف الحكومة في البرلمان)، لذلك فإن الدستور يجعل السلطة الوحيدة التي تعلو السلطة القضائية وتعلو باقي السلط هي المؤسسة الملكية لأنها هي التي لها سلطة رئاسة الدولة وتمثيلها حسب الفصل 42 المذكور. أما البرلمان فهو سلطة رقابة مباشرة على بعض أعمال الحكومة وحدها، وسلطته في علاقته بالقضاء لا تتجسد إلا بشكل غير مباشر من خلال التحكم في مضمون النصوص القانونية التي يطبقها القاضي، والبرلمان بعد أن يُصدر القانون لا يبقى له الحق في الرقابة على كيفية تطبيقه من طرف القضاء، لأن كيفية هذا التطبيق وإلزاميته يمثل مظهرا من مظاهر السلطة التي يتمتع بها هذا الأخير، لذلك فإن القول بضرورة تبعية النيابة العامة لوزير العدل كي يتأتى للبرلمان مراقبة نشاطها الذي يستند إلى تطبيق النصوص الجنائية، يبقى قولا مردودا، لأن مساءلة البرلمان البعدية للنيابة العامة تشكل اعتداءً على السلطة الحصرية للقضاء في تطبيق القانون، وانتهاكا للدستور ولمبدأ فصل السلط. وإذا كان من نتائج هذا التحليل ألا يخضع القضاء لرقابة الحكومة والبرلمان، فإن ذلك لا يعني جعل عمل القضاة خارجا عن أي رقابة، لأن الرقابة البرلمانية في الأنظمة الحديثة ليست إلا مظهرا واحدا للرقابة مما يعني أنها غير مختصة بالرقابة على كل شيء، ذلك أن تنظيم المؤسسة القضائية يتضمن بذاته ما يكفي من أدوات تضمن توازنا بين أجهزتها في أداء أدوارها وتفتح المجال ل"رقابة" على بعضها البعض. إذ أن الأجهزة القضائية التي تضطلع بتفعيل النصوص القانونية تم توزيعها بشكل يحقق استقلالا بينها بما يمنع تعسف جهة ما في تطبيق القانون، فسلطة الاتهام مثلا مستقلة عن سلطة التحقيق وعن سلطة الحكم، كما أن التقاضي يتم على درجات متعددة، مما يشكل ضمانات تمنع جهة معينة من التحكم في مسار قضية ما، كما أن عمل القاضي يبقى مؤطرا بمسؤولية تأديبية وأخرى جنائية، إذ أثبت الواقع أن العديد من القضاة تمت إدانتهم من طرف زملائهم القضاة والحكم عليهم بعقوبات سالبة للحرية نتيجة ارتكابهم لمخالفات مهنية تشكل جنايات أو جنح، وهو ما يؤكد أن الأجهزة القضائية لم تتصرف في أي مرحلة من تاريخ المغرب الحديث باعتبارها "لوبي" داخل الدولة تتواطأ فيما بينها ضدا على القانون في مواجهة باقي المؤسسات، على عكس ما ظل يُعاب على وزارة العدل التي كانت تمسك زمام النيابة العامة، إذ لاحظ الرأي العام عدم تحريك مسطرة البحث فيما نُسب للعديد من السياسيين أعضاء حكومات سابقة الذين رُوج ضدهم ارتكابهم لأفعال مجرمة مثبتة بحجج منشورة في الإعلام، كما لم يثبت حسب ما نعلم أن تم تحريك المتابعة في حق سياسيين أعضاء حكومات سابقة نتيجة ما نُسب إليهم من إخلالات أثناء ممارسة مهامهم، مما يدل على أن واقع محاسبة القضاة أشد منه بالنسبة لمحاسبة أعضاء السلطة التنفيذية، وهذا يشكل مبررا آخر لإبعاد النيابة العامة عن سلطة الحكومة، ويبرز أن التواطؤات السياسية أخطر على العدالة من دولة القضاة الذين اعتادوا أن يحاسبوا بعضهم البعض جنائيا في المحاكم وتأديبيا في المجلس الأعلى للقضاء. وذلك يؤكد حقيقة أن الأصل في القاضي الحياد والمعيارية، أما الأصل في السياسي فهو التموقع والصراع والمناورة والمزاجية. وهذا الفرق الذي يظهر إنما يرجع إلى معطيات موضوعية ناتجة عن اختلاف المجال الذي يشتغل فيه كل من القاضي ورجل السياسة. كما أن تركيبة المجلس الأعلى للسلطة القضائية التي تختص بتأديب القضاة تبقى تعددية وتعرف عضوية أعضاء خارج الجسم القضائي، تحت رئاسة الملك، مما يمثل ضمانة أخرى تمنع تصرف المؤسسات القضائية باعتبارها "لوبي" أو "دولة داخل الدولة" بتعبير أصحاب نظرية الهيمنة. وفوق كل هذا فإن عمل القضاة يبقى عملا معياريا مؤطرا بنصوص قانونية تمت صياغتها من قبل سلطة أخرى هي البرلمان، ويستند إلى تحليل حيادي للواقع والقانون، فهو عمل قائم على أسس معلومة وثابتة من منطلق الثبات النسبي للقاعدة القانونية. أما عمل السياسي عضو السلطة التنفيذية فهو عمل تدبيري غير معياري رهين بتغير المعطيات الظرفية، وقائم في الأصل على جلب المصلحة في فهمها النسبي التي قد تكون في الكثير من الأحيان مصلحة فصيل سياسي في مواجهة فصيل آخر، فعدم الحياد والتموقع يعدان معطيان بنيويان في نشاط محترف السياسة في ظل مجتمع التعددية، لأنه نشاط قائم على تصور حزبي يمثل جزءً من المجتمع وليس كل المجتمع، لذلك فإن منحه صلاحية التحكم في أحد جناحي السلطة القضائية الذيتمثله النيابة العامة، شكل وسيشكل مدخلا للتلاعب بسلطة القانون وجعلها رهينة جهات غير محايدة وعرضة للاستعمال التحكمي في الصراعات السياسية وفي أحيان أخرى مُوجهة بخلفيات التحالفات والتواطآت السياسية التي قد تعطل تطبيق القانون وتفتح المجال للإفلات من العقاب والتساهل مع الفساد. وهكذا يبدو أن "دولة القضاة" بالصورة التي يراد الترهيب منها لا توجد إلا في مخيلة من يريد البحث عن مداخل لعرقلة استقلال السلطة القضائية واستمرار التحكم والتساهل مع الفساد، ولا يوجد في مشاريع القوانين ولا في تصور الفاعلين من يدافع عن إقامة تصور من هذا القبيل. أما إذا كان الهدف من محاربة "دولة القضاة" هو محاربة التصور الذي يهدف إلى تبني نظام مؤسساتي يفعل الدستور ويحقق للسلطة القضائية استقلالها ويضمن لها القيام بدورها في إعلاء كلمة القانون وجعله نافذا في مواجهة الجميع بدون تمييز، فإننا عندئذ سنكون أول المدافعين عن إقامة "دولة القضاة" في مواجهة من يريدها دولة للفوضى والمزاج واللاقانون، بما هي دولة للحق والقانون تُحمى فيها حريات المواطنين وحقوقهم ويتحقق فيها القدر الممكن من العدالة في إطار مبدأ فصل السلط وسمو الدستور واحترام المؤسسات في منحى خدمة استقرار الدولة حماية الثوابت. نَعَمْ لدولة القضاة !.. -عضو نادي قضاة المغرب