أصدر الكاتب المغربي، حسن إغلان، مجموعة قصصية جديدة وسمها بعنوان "درس البيانو"، وهي مجموعة تختمر فيها التجربة الأدبية للقاص والروائي إغلان، الذي أصدر أكثر من أربعة مجموعات قصصية ورواية، وتحملنا عوالمها إلى فضاءات مغايرة سواء في المكان أو الزمان. في هذا الحوار نحاول الاقتراب أكثر من "درس البيانو"، الصادرة حديثا عن منشورات الشعلة، ونوتاتها القصصية المتميزة، رفقة كاتب لم تمنعه محنة فقدان البصر من مواصلة مشواره الأدبي بكل قوة وتفاؤل. بعد أربعة مجموعات قصصية ورواية، تعود للقصة من جديد، هل الرواية كانت مجرد تحد من طرف القاص؟ لم أفكر يوما في هذا الأمر. ربما لأنّي كاتب دون أن أحدد المجال الذي أشتغل عليه. مادام الأمر يروم ذلك، فالسؤال يفترض جوابا. إذن فرواية الظلّ الآخر هي الرواية الثانية، وقد تسألينني عن الرواية الأولى، عنها، فأقول بدون مواربة أنها تنتظر النشر. صحيح أنها نشرت في صيف قبل أكثر من خمس سنوات بجريدة ( الاتحاد الاشتراكي ): إنها رواية ( سيدة العتمات). لكن يبقى سؤالك يدخل في بين وبين، أي بيني أنا الكاتب وبيني أنا القارئ. فالقارئ– الذي هو أنا – لم يطّلع على هذا النص في الأكشاك والمكتبات، إنه ضائع بين أوراق الجرائد، بل أكثر من ذلك لقد انمحى بالعرق، والمؤقت المغربي. قد تسألينني مرة أخرى عن سبب نشر رواية " ظل الآخر " قبل النص الأول، وقد أبرر ذلك بمبررات متعددة، سأجملها في بمبرر وحيد، وهو أن هذه الرواية تشكل الجزء الثاني من " محكيات شيء من ظلها".لكن ، هل هذه الرواية تشكل استراحة الكتابة عندي ؟ هذه الأسئلة وغيرها لا تفيد الجواب، بقدر ما أنها تتحايل عليه، وأنا شخصيا لا أستطيع الجزم بمسألة بسيطة وهي : أن في مكتبتي روايتان توقفت عن إتمامهما منذ خمس سنوات. واحدة لم أسميها بعد ، وإن كنت قد كتبت فيها أكثر من مائة صفحة، بينما الثانية فقد كان عنوانها دالا من المقال الذي كتبته في ألفين وثمانية بعنوان " إنهم يقتلون الورد ". منذ أن نشر في الملحق الثقافي بجريدة العلم، والصدى الطيب الذي خلّفه إلى حد نقله في عدد من المواقع الإلكترونية. هنا اتصل بي مجموعة من الأصدقاء، وحرضوني على إتمامه. لم أجد طريقة أفضل سوى أن أشتغل عليه روائيا. أتمنى أن أتمم هذه الرواية قريبا. من هذا المنطلق يظهر أني لا أكتب القصة القصيرة، وإنما أفتح نوافذ أخرى في الرواية، والقراءة النقدية والمقال الصحفي، والبحث الفلسفي. ستكون القصة هي المنطق الرئيسي لكل هذه النوافذ، إنها الكتابة الصعبة التي تفترض المجازفة. بين كل عمل واخر كنت تأخذ وقتا كاملا للإصدار، لكن مع هذه المجموعة، نجد أنك نشرتها بعد سنة فقط من نشر روايتك الظل الاخر، كيف تنظر ككاتب إلى النشر بالمغرب، ولجوء بعض الكتاب للنشر خارج المغرب حتى؟ من المشاكل الصعبة التي تعترض الكاتب المغربي مشكلة النشر في بلده أولا وخارج بلده في المقام الثاني. إنها أم المشاكل في الثقافة المغربية، وهي مسألة بنيوية، لا يمكن مقاربتها من زاوية نظر واحدة ، بقدر ما تتغيا النظر من زاوية متعددة . أولا إن المغرب لم تترسخ لديه تقاليد الكتابة والقراءة، حتى أن عمر الكتابة عنده لا يتجاوز ستين سنة، وهو عمر قصير إذا ما قسناه بعمر الكتابة والقراءة في مصر والشام. ربما أثناء حركة التحرير والمقاومة في زمن الاستعمار كان الخطاب الشّفهي هو المهيمن والسائد. لذا سنلاحظ أن غالبية القادة الوطنيين لم يكتبوا حرفا واحد، ولم يؤرخوا تجربتهم النضالية كما نجد ذلك في مصر والشام. إذا انطلقنا من هذه الفرضية سنتحامل على أزمة نشر الكتاب المغربي، أو على الأقل لنتذكر بيان أحمد بوزفور حين رفض جائزة المغرب. من هذه الزاوية سيكون الكاتب المغربي مناضلا حقيقيا ضدا على سموم واقعه الثقافي والسياسي والاجتماعي، إنه مناضل دون التصريح بذلك، فهو يحترق ويُحرق داخل مكتبته، ولا يباع من كتابه إلا القليل، وإذا كان محظوظا ستبرمج روايته... في البرامج الدراسية. صحيح أنّ ثمّة كتّاباً لهم وضعية خاصة في المشرق العربي سواء بنصوصهم المتميزة، أو بعلاقات ملتبسة، وهذا أمر سيجرنا إلى فعل النميمة، وهو أمر لا نرغب فيه. لكن الكاتب المغربي يعيش في هذا السياق، باحثا عن قراء ممكنين في زمن لم يعد للقراءة معنى . إنه يناضل في كل الاتجاهات، وهذا شرط وجوديٌّ لا يعرفه إلا من تحرقت أصابعه بالنار. لذا سيبقى الشاهد على زمنه المعاق . لنتأمل ما استخلصته مديرية التخطيط الرسمية في إحصاء علمي حول تدبير الزمن المغربي، والتي استخلصت منه أن المغربي يقرأ دقيقتين في اليوم. إنها مسألة مخزية تفيد ما قاله يوما الفقيد محمد جسوس حول جيل الضباع. ها نحن اليوم أصبحنا ضباعا لا تفكر ، إنها منتوجات الدولة. ذلك أن هذه الأخيرة لا تفكر في الكتاب والثقافة إلا حين تنتهي من كل شيء . وبالجملة فالكاتب المغربي يعيش وسط هذه الإكراهات، فهو من جهة يقاوم الجهل ، ومن جهة أخرى يكتب في ظلام ، وينتظر بصيصا من نور سيأتيه لا محال في مكان آخر. ربما ستكون المقبرة فضاءً للقراءة والمناقشة وتبادل الرأي. ألم يقل بورخيس يوما لمحاوره أن ثمة كتبا سيقرئها بعد موته. إنني أقف في جبهة الأمل، أنتظر القادم والممكن مادام هذا الواقع يرمينا على حدود الهاوية واليأس. نعود للمجموعة، والتي تتنوع القصص فيها بين فضاءات متعددة بين المغرب واسبانيا، هل كتب الأعمال كلها بالمغرب، أم كتبت خارجه في فترات متباعدة؟ يخال لي أني أكتب في كل مكان : أكتب في المنام مثلما أكتب في البحر، حين أتمشى ... لكن ثمة أمكنة توقظ الكتابة كإسبانيا، وهي بعض المواقع الأوروبية ، ليس لأنها قدر مفروض أو مختار، وإنما هي الكتابة وقد استحمت في تلك الأمكنة. أغلب نصوص المجموعة القصصية الأخيرة " درس البيانو " كتبت هناك دون أن أفطن بذلك. فزمن الكتابة لا تستطيع ضبطه إلا حين تحترفها. ليست الكتابةُ حرفةً، مثلما هو الشأن بالنّسبة لكتاب مصريين ولبنانيين على قلتهم، وكتاب أوروبيين الذين يقتاتون ويعيشون من الكتابة، إذا كان الأمر بهذا المعنى فأنا كاتب يلهو بالكتابة رغبة في الحياة. كأن الكتابة تنعش الخيال، وتُحرر من الموت، ولأني كذلك فأنا أكتب في كل مكان. عادة ما أكتب في المقهى، هنا أو هناك، حتى ولو كانت المقهى تعرض مباراة في كرة القدم. ثمة فرقا بين ما تكتبه حين تكون متحررا من كل شيء، وبين ما يفرضه البياض والمداد، وأشياء أخرى. إنما تكتبه على الورقة لا يمت بصلة لما حررته في الفراغ. ألا تشكل الكتابة هنا مرآة. ذاك هو السؤال الملغم بالوجوديّ والنفسي وما يتبعهما ما دامت المرآة مرآة لآخَرها، وهو أنا الذي أكتب على الورقة لكونها أخري . تغيب السياسة في المجموعة ولا تحضر سوى في القصة الأخيرة، مغلفة بالحلم، لكن اغلب القصص يغلب عليها الطابع الذاتي الانساني، هل الابتعاد عن القصص المغلفة بالسياسة نابع من وعي القاص والحزبي؟ وخيار يلبي الرغبة في ترك السياسة بعيدا عن الأدب؟ كثير من النقاد المغاربة انتبهوا لهذا الأمر، أي بين النصوص الأولى والمجموعتين الآخر يين"كتاب الألسنة" و"درس البيانو" وهي مسألة نسبية جداً، فالسياسي حاضر بقوة في جميع الكتابات المغربية، حتى وإن كانت تلك القصة تحتفي باللغة، والذات والأشياء. إن حضورها مشروط بوضعية الكاتب والكتابة عندنا. إننا ننتمي لمجتمع مقهور. هذا القهر المضاعف الحامل لمفعولات السلطة، حتى وإن كتبنا على قصة حب، فإن السياسي حاضر فيها، حتى وإن كان لا شعوريا. فالمسألة إذن لا تروم كتابة قصة، أو رواية إيديولوجيا مفضوحة، وهذا لا يرتبط بالأدب، قد يكون بيانا سياسيا تنتهي منه حين نقرأه. لكن بالمقابل كيف يحكي الكاتب قصته ؟ كيف يسخر من السلط سياسية كانت أم دينية أم ثقافية...؟ هذا هو السؤال الجوهري ، صحيح أني في هذه المجموعة حاولت وضع الورد في حمولته الرمزية السياسية موضع مساءلة. لا للإجابة عنه وإنما للسخرية منه في زمن جديد . زمن أنتج السماسرة والقوادين والانتهازيين والمسكونين برائحته القديمة... لكن الأهم في نظري والبعد الجمالي لهذه النصوص. الذات الساردة تحتفي بالرأس على المنفلت منها. ها أنا أتحرر من السياسي وآلياته التنظيمية القاهرة لأكتب عن هذا الذي انفلت مني. صحيح أني ابتعدت عن السياسة الحزبية منذ أكثر من عشر سنوات، إلا أني أجد نفسي مضطرا للكتابة عن المرحلة، سواء ما كتبته في " حكايات شيء ظلها "و "إنهم يقتلون الورد " التي أتمنى نشرها في الموسم القادم . إنهما تجربتان مختلفتان، فالأولى تحكي التجربة الطلابية بتضاعيفها ومضاعفاتها على جيل بكامله، بينما تحكي الثانية تفسّخ الوردة، وتعفنها هنا والآن. أليس من حقي ككاتب ومناضل سابق حمل الوردة بين عينيه، وزرعها في كل الأماكن، أن يكتب عما آلت إليه الآن إلى حدود إدخالها في المحلات التجارية الكبرى، وفي البورصة، كذلك، فلم يعد بالإمكان الحديث عن مشروع مجتمعيّ جديد، وإنما عن مشروع قادته الجدد خبراء في جمع المال، وأخذ الصور مع ملاك المغرب دون حشمة من التاريخ وأرشيف وملح الطعام لكن هذه الرواية ليست بيانا سياسيا، أو اتجاها سياسيا يخدم هذه الفئة دون أخرى، وإنما هي كتابة تخيلية تسخر من الذات الساردة، والقارئ وما بينهما مثلما تعلن الاحتجاج والاتهام للذين خذلونا، وخانوا الشهيد والفقيد معا. إنهم يقتلون الورد. صحيح أن السياسي/الإيديولوجي قد طغى في زمن سابق وبالضبط في سبعينات القرن الماضي حيث الكتابة صرخة ضد كل شيء قائم. أما اليوم فأضحت سُبّة. كأنه لم يعد يعني أي شيء في زمن النهايات. لكن مع ذلك يظل التزاوج ممكنا أي حين يكون الكاتب قادرا على العيش مع ضريبته، وهما كذلك يتستران ويظهران في البياض، في الجمال. إن الكاتب حتى وإن كتب على اللامعنى فإن الإيديولوجي يسكنه. الإيديولوجيا هي الضرة الذي وجب عليه ملاعبتها حتى لا تقتله. الايدولوجيا تقتل. الايدولوجيا مهنة البوليس كما قال محمود درويش يوما ما. هل أجبت على السؤال أم تراني لاعبته. اللعب هنا – ممكن– ما دامت الحروف والكلمات نلعب بها من خلال شرطها الجمالي. على أي مسافة يقف الذاتي أمام هذه المجموعة؟ في ملاحظة ذكية قالها عني الصديق عبد الحميد بنداوود حول علاقتي بشخوص نصوصي القصصية. قال ما معناه أني أستلهم نصوصي من أصدقائي ومعارفي. إن أغلب هذه النصوص تحكي – بطريقة أو بأخرى – عما يجمعني بهؤلاء الأصدقاء . كأني أتقمص المشاهد لأكتبها فيما بعد وهي مسألة تكون فيها الذات بين البحر والبر، أي في تلك شقوق التي خلفتها مياه البحر على الأرض هنا أكون ولا أكون . أكون الذات المتاخمة لآخرها، مثلما تكون مرآة لذاك المنفلت منها، فكيفما كان الحال، وكيفما كانت الحكاية فثمة وجها من وجوهي المتعددة، ذلك أني أنا المتعدد في أناي. بهذا المعنى تكون الذات في مقابل موضوعها حكايتها . تشتغل العين باحثا عن التفاصيل المخبوءة في الصور والذكريات، وبينهما تحتجب الذات لتعلن عن نفسها في البياضات. كأن الموضوع أضحى ذاتا، والعكس صحيح تماما، الذات الكاتبة تبني نصها بالشكل الذي تريده. أتذكر الآن ما قاله خوليو كورتثار في سؤال حول موضوع قصصه، فأجاب أني أقتنص مشهدا من لاشيء. مثلا يقول أني كنت جالسا في إحدى المقاهي الباريسية، فشاهدت امرأة تطل من شرفة بيتها، فخيّل إليّ أن رجل إفريقيا ، أسود البشرة رآها . صعد السلم ، ضغط على الزر ففحت له الباب ثم اغتصبها بقوة، ورماها من شرفة. يبدو كلام هذا الكاتب الجميل عاديا بالنسبة للكتاب، ولكنه غير عادي بالنسبة للعموم. فذات هنا هي التي ترى، هي التي تتوقف عند حدود الكتابة. لكن في المقابل أنا اكتب عما يمشي شخصيا ولم أكتب بعد. لقد قلت في السابق أن ما أكتبه في الطريق ، وفي المقهى وفي المنام وأمكنة أخرى ليس هو ما ينكتب على الورق. أنا خائن لهواجسي الأولى بل خائن لما فكرت فيه في الأول، أعني في الحلم . لأظل أبحث عن ذاك النص الذي يشبهني . والذي يتماهى مع عرائي. أليست الكتابة امرأة ، مادامت تاء التأنيث تلفها. بمعنى أن الرغبة في آخري ينمحي حين حضورها. كأن حضورها شتات لما فكرت فيه، في كيفية قول الكلام ، وإيقاظ المنفلت مني ومنها، لكنني حين أنفصل عنها أبحث عن لحظة اتصال أخرى. إنها كما الكتابة تماما لا تنتهي في حكي الذات إلا لتبدأ مع ذات أخرى، قد تكون أنت أو أنا الغائب الحاضر فيها. الذات هنا – بهذا المعنى – حضور وغياب . إنها واو الوصل والفصل . الكاتب الممتع هو القادر على اللعب بهذا الوصل والفصل في بناء نصه الأدبي. ليس نقيصةً أن يكتب الكاتب عن ذاته، بل أجزم أن أجمل الروايات هي التي كتبت عن التجربة الذاتية. ليس في صيغة السيرة، ولكن في صيغ تتهرب فيها الذات الكاتبة من عقالها، لتبحر في اللغة، وهذا هو الأهم ليس عيبا أن يكتب الكاتب عن ذاته. ولكن العيب أن يكتب عنها من مرجعية الفحولة الذكورية في تجلياتها المتعددة. إذا قاربنا أعمال الجميل الفقيد محمد زفزاف، سنجد أن أعماله من معيشه اليومي، وقد وقفت على ذلك حين كنت أزوره مرة في الأسبوع، سواء في بيته أو في المقاهي القريبة منه، لألاحظ أن نصوصه مسيّجة بذاك المعيش اليومي، لقد قال لي – في بداية التسعينات – بمقهى ماجستيك أني لا أعرف الواقع طالبا من شابة الجلوس معي لحكي الواقع الذي يكتبه ... هكذا تبدو الذات محايدة لما تكتبه، إنها تقف بين البر والبحر، فلا هي هناك ولا هي هنا، إنها تكتب الشقوق، وبياضات والمتلاشيات لتعلن عن الأقنعة التي تحجبها. لكن سيكون القارئ ذكيا حين يخدش بتلك الأقنعة. إنه لا يستطيع إزالتها وإنما خدشها حتى لا تدخل ضمن المقدس.