عندما يدرس التلاميذ قواعد اللغة العربية ، فإن الغالب منهم يعتقد أن العربية توجد بمعزل عن هذه القواعد ، بمعنى أنهم يعتقدون أن العربية توجد في واد، وأن قواعد تركيبها و صرفها يوجدان في واد آخر، و بعبارة أخرى، فإنك لو بسطت أمامهم عشرات الأمثلة للظاهرة النحوية ، فإن المسافة بين النص العربي مجموعا ، و بينه وبين قواعده المفكِكّة الشارحة، تبقى قائمة و لا تنمحي، فيقطعها التلميذ تَعِبا مرتبكا. عندما يُجمع النص العربي، و تُربط أجزاؤه المُتمفصلة ، يعجز تلميذنا المسكين عن القبض على المعنى داخل النص، و يَحرم نفسه متعة اكتشاف المعاني النحوية التي توسل إليها عن طريق النحو و قواعده .فتندثر الفاعلية والمفعولية ، وينمحي التعدي واللزوم ، و يختفي كل فهم لمعنى الحال و الصفة ، و تذوب الجمل ذات المحل فجأة وتتوارى، و يحار التلميذ و يضطرب، ويدور بعينيه و يقلب بين سطور ما يراه مكتوبا أمامه على اللوح الأسود. ويزداد الأمر تعقيدا، عندما تغيب عن وعي طالب العربية هذه المعاني النحوية، التي تتناوب على الظهور و التقدير، فتظهر تارة و تُقدر علاماتها تارة أخرى ، فلا يفلح في العثور عليها ، مبثوثة بين ثنايا الجمل و النص ، فيُجرب هذا و ذاك، كأنه يلعب لعبة من ألعاب الحظ . يعتقد طالبنا المسكين إذن ، أن معاني النحو ) مُوفّق من يراها معاني ،والغالب من التلاميذ يراها كلماتٍ لا غير ) هي معانٍ أو قواعد ( كما تُروج لها كثير من كتب النحو) لابد أن تكون مرئية و مكتوبة ، و لا يحضر بباله الإضمار أو التقدير أو الحذف، فيبدأ في التجريب دونما تمحيص أو تبصر ، هذا هو اسم الناسخ ، لا ! لا ! بل هذا ....! و اللبيب من تسعفه أذناه، وما تعوده سمعه، من انسيابية النص العربي، و توالي الحركات والسكنات فيه، فيرفع اسم الناسخ الفعلي، فقط لأن نصبه، لا يتناسب والجرس الموسيقي، الذي تعوده من مقروئه، أو مما يسمعه من الفصحاء ( على قلتهم ) . العربية لغة إِعرابيةٌ ، تكاد تنفرد بهذه الميزة من بين لغات البشر الأخرى (تشاركها العِبرية في هذه الخاصية، باعتبار أصلهما المشترك، حسب التقسيم الغربي المعروف لشجرة اللغات) و هي الخاصية التي تدلل على عبقريتها و تفردها و ليست دلالة على تقعرها وصعوبتها كما يدعي المُغرضون . تتحدد الصورة الأولية للمعنى، في ذهن القارئ أو المتكلم ، ثم يبحث عنها بين ثنايا الكلم (قارئا ) أو يتوسل إليها بالكلمات و ينسجها في ذهنه ( متكلما )، ثم يبحث أو يضع عليها الحركات الإعرابية التي توافق المعاني التي توصل إليها، أو يريد توصيلها. و هذا معنى أن العربية تُفهم ثم تُقرأ تم تُفهم . و هي الملاحظة التي يحلو لبعض المتنطعين و المغتربين أن يرموا بها العربية ، في حين أنها مزية من مزاياها التي خفيت عنهم و لم يجدوا لفهمها سبيلا . العربية لغةٌ إِعرابيةُ الكَلِم ، تصنع معانيها بحركاتها الثلاث القصيرة وتَسِم دلالتها بهذه الحركات ، فتميزت الفاعلية و الابتداء بالرفع ، و اتخذتا من الضمة علامة ( إلى جنب الحروف و الحذف أحيانا ) ، في حين استمازت المفعولية بالنصب، و اختارت الفتحة علامة بارزة (إلى جانب الحرف و الحذف أيضا) . فَلَكَ أن تحمل الكلمة وحركتها، فتحمل معهما معناها المُنشأ ، و أن تضعهما في المكان (الترتيب و التعاقب ) الذي يسمح به قانون الترتيب في هذه اللغة العجيبة ( الصدارة والتقديم و التأخير (. هي معان بديعة ، تنحل لكل ذي بصيرة وسليقة ولب ، وتغيب عن كل ذي نفس موتورة مغرضة ، و لإنشاء هذه المعاني المحمولة في اللفظ العربي ، ينبغي إعداد التربة الملائمة لغرسها في نفوس الناس و الناشئة، وتبيئتها البيئة الصحيحة ، بدءا من المناهج المدرسية و أصحابها ( أثبتت الدراسات أن طريقة تدريس العربية ما تزال بدائية ،لا ترقى إلى المستوى المطلوب ) ،وتنقية وسائل الإعلام من هذا التلوث اللغوي الواطئ . إن نحو اللغة وصف لها ، و معرة التعقيد التي ترمى بها العربية و نحوها ، هما منها براء ، فما بُني النحو إلا لضرورة انتحائه و التزامه نحو سمت الكلام ومثاله ، طلبا لسهولة النطق و يسير المعنى ، و الجبل الشامخ لصرح العربية ، هو علامة امتياز و فخر ، يجب أن نفخر به ، و نجِدّ في تعليمه و تعلمه ، وأن نحث الخطى،نبحث عمّا تيسره الدراسات اللسانية القديم منها و المحدث ، من أجل استكمال بناء لسان عربي لا عوج فيه . [email protected]