مجلس الجالية يشيد بقرار الملك إحداث تحول جديد في تدبير شؤون الجالية    الموقف العقلاني والعدمي لطلبة الطب        المغرب يمنح الضوء الأخضر للبرازيل لتصدير زيت الزيتون في ظل أزمة إنتاج محلية    المنصوري تكشف عن برنامج خماسي جديد للقضاء على السكن الصفيحي وتحسين ظروف آلاف الأسر    إحصاء سكان إقليم الجديدة حسب كل جماعة.. اليكم اللائحة الكاملة ل27 جماعة    حموشي يترأس وفد المغرب في الجمعية العامة للأنتربول بغلاسكو    الأمازيغية تبصم في مهرجان السينما والهجرة ب"إيقاعات تمازغا" و"بوقساس بوتفوناست"    هذه حقيقة الربط الجوي للداخلة بمدريد    الكعبي يستمر في هز الشباك باليونان        لحظة تسليم علم منظمة "الأنتربول" للحموشي باعتباره رئيس الوفد الأمني للدولة التي ستحتضن الدورة المقبلة للجمعية العامة للأنتربول (فيديو)    التامك يتأسف لحظر "النقابة" في مندوبية السجون... ويقول: "ما بقاش عندي الوجه" للقاء الموظفين    المغرب يعتمد إصلاحات شاملة في أنظمة التأمين الصحي الإجباري    1000 صيدلية تفتح أبوابها للكشف المبكر والمجاني عن مرض السكري    الأسباب الحقيقية وراء إبعاد حكيم زياش المنتخب المغربي … !    الرباط تستضيف أول ورشة إقليمية حول الرعاية التلطيفية للأطفال    بايدن يتعهد بانتقال "سلمي" مع ترامب    اعتقال رئيس الاتحاد البيروفي لكرة القدم للاشتباه في ارتباطه بمنظمة إجرامية    توقيف 08 منظمين مغاربة للهجرة السرية و175 مرشحا من جنسيات مختلفة بطانطان وسيدي إفني    «كلنا نغني».. جولة عربية وأوروبية للعرض الذي يعيد إحياء الأغاني الخالدة    ‬‮«‬بسيكوجغرافيا‮»‬ ‬المنفذ ‬إلى ‬الأطلسي‮:‬ ‬بين ‬الجغرافيا ‬السياسية ‬والتحليل ‬النفسي‮!‬    الخطاب الملكي: خارطة طريق لتعزيز دور الجالية في التنمية الاقتصادية    المنصوري تكشف حصيلة برنامج "دعم السكن" ومحاربة دور الصفيح بالمغرب    الجماهير تتساءل عن سبب غياب زياش    "أجيال" يحتفي بالعام المغربي القطري    ياسين بونو يجاور كبار متحف أساطير كرة القدم في مدريد    2024 يتفوق على 2023 ليصبح العام الأكثر سخونة في التاريخ    ليلى كيلاني رئيسة للجنة تحكيم مهرجان تطوان الدولي لمعاهد السينما في تطوان    مجلس جهة كلميم واد نون يطلق مشاريع تنموية كبرى بالجهة    بايتاس: أكثر من 63 ألف أسرة استفادت من المساعدات الشهرية لضحايا زلزال الحوز    انطلاق الدورة الرابعة من أيام الفنيدق المسرحية    وزارة الصحة المغربية تطلق الحملة الوطنية للتلقيح ضد الأنفلونزا الموسمية    صَخرَة سيزيف الجَاثِمَة على كوَاهِلَنا !    ما هي انعكاسات عودة ترامب للبيت الأبيض على قضية الصحراء؟    انتخاب السيدة نزهة بدوان بالإجماع نائبة أولى لرئيسة الكونفدرالية الإفريقية للرياضة للجميع …    ندوة وطنية بمدينة الصويرة حول الصحراء المغربية    مورو يدشن مشاريع تنموية ويتفقد أوراشا أخرى بإقليم العرائش    بنسعيد يزور مواقع ثقافية بإقليمي العيون وطرفاية    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    ضبط عملية احتيال بنكي بقيمة تتجاوز 131 مليون دولار بالسعودية    تظاهرات واشتباكات مع الشرطة احتجاجا على فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية    سفير أستراليا في واشنطن يحذف منشورات منتقدة لترامب    قانون إسرائيلي يتيح طرد فلسطينيين        خبراء أمراض الدم المناعية يبرزون أعراض نقص الحديد    أولمبيك مارسيليا يحدد سعر بيع أمين حارث في الميركاتو الشتوي    محكمة تونسية تقضي بالسجن أربع سنوات ونصف على صانعة محتوى بتهمة "التجاهر بالفاحشة"    بعد رفعه لدعوى قضائية.. القضاء يمنح ميندي معظم مستحقاته لدى مانشستر سيتي    مزور: المغرب منصة اقتصادية موثوقة وتنافسية ومبتكرة لألمانيا    إعطاء انطلاقة خدمات مركز جديد لتصفية الدم بالدار البيضاء    إحصاء 2024 يكشف عن عدد السكان الحقيقي ويعكس الديناميكيات الديموغرافية في المملكة    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    برنامج الأمم المتحدة المشترك المعني بالسيدا يعلن تعيين الفنانة "أوم" سفيرة وطنية للنوايا الحسنة    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    وهي جنازة رجل ...    نداء للمحسنين للمساهمة في استكمال بناء مسجد ثاغزوت جماعة إحدادن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشِّعْرُ..هُمُومُه وهَوَاجِسُه وآمَالُه وَآلاَمُه !
نشر في هسبريس يوم 01 - 03 - 2015

الشّاعرة البولندية " فيسوافا شيمبورسكا " (وُلِدتْ في 2 يوليو 1923.. وتوفيّتْ في 1 فبراير 2012 ، وحاصلة على نوبل فى الآداب عام 1996)، كانت تقول: "إنّ الشّعر غاية إنسانية بالدرجة الأولي، ويكفيني فرحاً أن أستمر في كتابة الشعر حتي مماتي”. وكان الشّاعر المكسيكي الكبير الرّاحل " أوكتافيو باث" (نوبل فى الآداب كذلك عام 1990)،يؤكّد فى مختلف كتاباته، وتصريحاته، بعد تجربته الكبيرة ،ورحلته الطويلة مع الشعر أنّ هذا الفنّ الإنساني الرّاقي من فنون القول باقٍ ما بقي الإنسانُ على وجه الأرض، فى حين كان غيرُه من المفكرين، والفلاسفة قبله منذ ما ينيف على نصف قرنٍ منهم على سبيل المثال وليس الحصر الفيلسوف الألماني " جورج فيلهلم فريدريش هيغل " يرى عكسَ ذلك، حيث تنبّأ بموتِ الشِّعر ونهايته فى عصرنا..!...فهل أصاب..؟!..هل تحقّقت نبوءته..؟! فى السّطور الموالية محاولة للإجابة عن هذا التكهّن الخطير.
القَصِيدةُ الجَيِّدَة تَجْسِيدٌ أَبَدِيٌّ لِصُورَةِ الوُجُود..
تساؤلات متواليه، ومتواترة ما فتئت،وما إنفكّت تتَرى،وتنهال، وتنثال، وتُطْرح بين الفينة والأخرى بين العديد من الكتّاب، والشّعراء، والنقّاد، والمثقفين، بل والقرّاء أنفسهم حول الشّعر، وهمومه، ومعاناته، وهواجسه،ومشاغله، وآمَالِه، وَآلاَمِه، وأهله، وذويه، ودوره، وماهيته، وكنهه ،وتعريفه وتقييمه، وعن بقائه، أو زواله ،وموته ، وإنقراضه ، ومدى منفعته وجدواه ،وقد سبق أن تساءل قبل ذلك مفكّرون،وأدباء،وشعراء، ونقّاد ،ومثقفون، وفلاسفة عن الشعر،ومآله، ومصيره ومستقبله، وهل هو ما زال صالحاً ،وذا جدوى فى عصرنا المصنّع الحديث..؟.
ويشكو الصّديق الأستاذ عبد القادر الحلوي غيابَ الشِّعر الجيِّد ،ونُدرة الإبداع الرّفيع على أيّامنا، فيقول: " لم يعد الشِّعرُ يؤثّث بساتينَ الثقافة والفنّ !بعد أن أبتليت الحدائق الأدبية بالتصحّر ، وتسوّست أغراسُها ، فغابت الفراشات، والعصافير مع غياب نبتة الشّعر ،تحجّرت قلوب البشر فانطوت الأحاسيس على نفسها ، وأصابت الكآبةُ المشاعرَ في مقتل، خفّ الأنين، وانتحب العويل، وغابَ عن اللّحن الرّنين !لم يعد الشّعر ينبت تحت السّاقية ، ولم يعد يرقص مع اللّحن والقافية ،هي الحياة ، فعلاً ، كئيبة أم تراها ماهية ؟ حتى لغة وثقافة الحيزبون والدردبيس والعلطبيس إندثرت عنوةً كي لا نبتسم ولا نضحك ، ومع ذلك ما فتئنا نقرأ أحياناً بعضَ الشّعر الذي يسمّونه " حرّاً " ، لكنّه جافّ المأكل ،حارٌّ زؤوم، يَستعصي على الهضم وعلى الفهم معاً، فعوض أن نسمّيه شعراً حرّاً ، وهو ليس حرّاً بل مجرور بسلاسل وأصفاد، كان حريّاً بنا أن نسمّيه الشّعر "العبد" حتى ينعتق ! إنّ أجملَ الشّعر في عذوبة ألحانه، ورقّة ألفاظه، وسلاسة عباراته ، وبساطة معانيه، وبعده عن التكلّف والتعقيد، يقول الشّاعر الأندلسي إبن اللبّانة : هو الشِّعرُ من دُرِّ طيبٍ نحتُه/ وقد تُنحَتُ الأشعارُ من حَجَرٍ صَلد . وهوالقائل كذلك : من كان ينفق من سواد كتابه / فأنا الذي من نور قلبي أنفق ! ".
والشّعرالجيّد فى الواقع بعيداً عن هذه التساؤلات ،والشّكاوى،والتذمّرات، والإرهاصات، والتكهّنات، هوالحياة بكلّ ما فيها من معانٍ وأسرار وغموض ومفارقات ، والحديث عن الشّعر هو الحديث عن الكون الهائل المحيّر.. عن عذابات النفس المكلومة التائهة في متاهات الحياة، ومرابض الكينونة. الشّعر هَوَسٌ إنساني، وشجون لا يماثله سوى شجون الشّاعر إزاء العالم وأهواله، والدّنيا وأحداثها. الشّعر نقمةُ الوجود لأنّه كاشفُه وهو قيدُ الحياة، وديمومةٌ متجدّدةٌ وخلقٌ دائمٌ لها. الشّعر أكثر الفنون هموماً، وأخطرها بحثاً، وأعمقها قضية، وأبعدها مراماً، وأعلاها قدسية. إنّه قلب الدراما كما يسمّيه " ريتشاردز"وهو الرّوح الحيويّة الحائرة والهائمة فى غياهب الكون واللاّمحدود.
إذا كان " بِرْغْسُونْ" يَنعْيِ على اللّغة قصورَها الشّديد فى التبليغ والإبلاغ، فإنّ الشّعرالحقّ قد فتح البابَ على مصراعيْه أمام المبدعين لتفادي هذا العجز، وبلوغ أرقى ضروب العطاء بتفجير هذه اللغة وتطويعها وإعطائها نفساً إبداعياً جديداً ، ذلك أنّ الشّعر هو اللغة فى أرقى مظاهرها ، والشّعر الذي أعني هنا هو الشّعر بكل ما ينطوي تحت هذه الكلمة من مدلول، وحيرة، وغموض . الشّعرالذي يهزّنا عند سماعه، ويسمو بنا عند قراءته ، والذي لا يرقى إليه سوى القادر على إقتحام شعابه، وعوالمه، هو الذي ينفذ إلى أعماقنا، ويلامس شغافَ قلوبنا، وقلوبَ المحرومين والمحظوظين على حدّ سواء.
والشّعر ليس قصّة تُرْوَى،ولا منطقاً يُدرّس،ولا فلسفة تُناقش، ولا قولاً يجرى على ألسنة قادة كبار العقول،وهو ليس علماً محدّداً، ولا غايةً فى ذاتها، إنّه كلّ أولئك جميعاً وما وراءها وما فوقها وما تحتها ، إنه علم ما وراء العلم وهو تجسيد للكون وما يكتنفه من غموض ، وقلق وإغتراب ، الشّعر تحدّ لهذا الكون، وإمتداد له ولما بعده، وهو ليس أغنية تَسري فى أنغامها آهات العشّاق، ولا أنشودة تُفصح عن شكوى المتيّمين ، الشّعر ضَرْبٌ من مناوشة الكون،ومناجاة الرّوح، ومناغصة الوجود ومناغاته ، وهذه أبرز خاصّياته وأخطرها.
والقصيدة الجيّدة تجسيد أبديّ لصورة الوجود ، تتعدّد فيها الدّلالات ، وتتشعّب الرموز، وتختلط وتتداخل فى تناوش بديع ، هي التي تكاد لا تقول أيّ شئ وهي فى الوقت ذاته تقول كلَّ شئ، والشّعراء أناس سيزيفيّون ، دائمو الحيرة، والقلق، والعذاب، والسُّؤْل عن كنْه الحياة، وأسرارها، وتناقضاتها، وغموضها وألغازها .
والقصيدة باقية بقاء الدّهرلأنها أبدا حيّة وحبلى بمختلف العطاءات،وهي ليست وقفاً على حاضر أو ماض أو آت، بل إنّها تطوى المسافات السّرمدية طيّاً ، لتضرب فى عمق حياتنا الأولى وينابيعها البعيدة لتعايش كلّ عصر وزمان، هي التي أحالت أساطيرَ الأقدمين إلى عِلْم المحدثين ،إنّها تعبير أخناتوني عن توحيد الجزء فى الكلّ والعكس.إنّها مخلوق يدبّ على قدمين، وليس للشّاعر عليها هيمنة ولا سطوة، لأنها ليست ذاته، ولا حياته، ولا تجاربه، ولا معاناته، ولا أحاسيسه وحده بل إنها ذوات وحيوات وتجارب ومعاناة وأحاسيس الوجود نفسه ،وما الشّاعر سوى جزء حيّ نابض من هذا الوجود.
قال" مَالاَرْمِيه":" إنّ أرقى أنواع الشّعر هو الذي لا يرقى إليه الفهمُ سوى بضربٍ باهظٍ من الذّكاء والصّبر والمعاناة والمكابدة "، والقصيدة الجيّدة هي حوارٌ مع الكون ، ومناوشة دائمة له، وإستكناه لما وراءه. وتلك عملية صعبة ومركّبة تنطوى على مجازفة خطيرة لأنّها بداية إحتراق وكيّ، في تناوش وتشاكس وديمومة متجدّدة. الشّاعر دائمُ المقاومة والتحدّي ، شديدُ المراس،لا يُؤخذ جانبُه بسهولة ويسر. والشّعر ليس قصراً على التذوّق الفنّي، أوالإحساس المرهف ، أو التسامر أو الإنطواء أو الإنتماء. بل هو مواجهة صريحة للواقع، وإستكناه لخباياه وإستجلاء لغوامضه ،ومعانقة للآمال والآلام . الشّكوى عند الشّاعر حبّات متناثرة، وذرّات مبعثرة كأنّها كثبان رملية منهمرة على وقع هديرِ أمواجٍ عاليةٍ عاتية . الشّعر ليس هذراً طوّلت خطبه، بل هو لمح تكفي إشارته،وهو لا يمكن أن يُقال له شعراً إذا لم يهززْكَ عند سماعه، وهوفكر يبعث على التأمّل وإعمال النظر، بضربٍ من المعاناة، والنغوص والتوتّر، حيناً ، وبالخيال المجنّح ،والإسترخاء حينا آخر. والغربة عند الشّاعر تنويعات مختلفة حزينة مكلومة، والقصيد نبعٌ رقراق يتفتّق من أعماق النفس المحبّة العاشقة.
الشّعر مرآة الرّوح
يرى "ساندرو كوهين " أنّ الشّاعر هو مرآة الرّوح في النفس البشرية. يعمل على تجلية وتنقية ما علق بها من صدأ وبلى وأدران. ويجعلها تشعر بالحنين إلى الحياة الأولى الحالمة الخالية من أيّ أثر للتيّارات المادية التي طغت وطبعت هذا العصر". كان الشّعر فيما مضى يُسمع ويُقرأ من طرف الرّجال والنساء،عندما بدأ الإنسان ينظمه بغضّ النظر عن الغناء أوالتقاليد ، إنّه منذ بضع عقود كان الناس يقدّرون مختلف الفنون الإبداعية وفي مقدّمتها الشّعر، ويواظبون على قراءتها . وإذا كانت إبداعات القرنين الماضيين شعراً ونثراً لم تحقّق مبيعاتها ما حققه بعض الكتّاب والشعراء اليوم. ذلك أنّ الذي كان يُشترَى (بضمّ الياء) منذ مائة سنة من كتب كانت تُقرأ،. وعلى العكس من ذلك أصبح التباهي اليوم ليس بالقراءة ؛ بل بإقتناء العديد من الكتب حتى وإن لم تقرأ . ويرى بعض الشّعراء أنّ الموسيقى، والرّاديو، والسينما، والتلفزيون،والإنترنيت ليس هناك من ريب أنها قد تسبّبت في تجميد وتشويه وغلظة الحواس. ولا يمكن لهذه الوسائل برمّتها أن تنفلت أو تتنكّر لهذه القيم الجمالية. لا يمكننا أن ننكر مع ذلك أنّ هناك موسيقي ممتازة، و أفلاماً تستحق أن تُعتبر أعمالاً فنيّة رائعة. هناك كذلك إذاعات جيّدة. كما أنّ هناك تلفازاً متقدّماً متطوّرا بإبداعاته وطاقاته الفنيّة الهائلة فضلاً عن تقنياته العالية.
قرّاء الشّعر
كثيرة هي العوامل التي أدّت إلى نقص في قراءة الشّعر، وجعلت من الصّعوبة بمكان وضع تفسير واضح لهذه الظاهرة. إلاّ أنّ هناك وجهة نظر الشّاعر الذي ليس له قرّاء كثيرون. إنّنا ما زلنا نستمع إلى أقوال مثل: "إنّ العالم قد أصبح فظيعاً لدرجة أنّه لم يعد هناك مكان أو وقت للشّعر" ! أو: " إنّها بكاملها ، طريقة مشيتها، حديثها، بل حتى طريقة جلوسها إنّما هي قصيدة حقيقية" ! . و" إنّ التهديد بالحروب، والجوع، والأمراض الفتّاكة يعمل على بعث الكآبة في أقلّ الشّعراء حساسية وشعوراً ". إلاّ أنّ ذلك ليس عذراً لهجر الشعر، لأنّ الشعر ليس فنّاً زخرفيّاً، ولا أداة من أدوات الزّينة والتنميق. فالشّعركان يُفهم عموماً في الغرب بأنّه حافل بالأشباح والأرواح والرومانسية والأحلام. ومردّ هذه المفاهيم إلى الفلاسفة الإغريق، إلاّ أنّه عندما ظهر أمثال"والت ويتمان" و"شارل بودلير" .و" أستيفان مالارميه" و" أرثور رامبو" فإنّ هذه المفاهيم بدأت تهتزّ، وطفق معها الشّعر السّحري الحالم يفقد رونقه وبهاءه. إنّ كلمات مثل الأيديولوجية، الإلتزام، النقد، التأمّل، إعمال النظر، والإستاطيقا قد أصبح لها من الإنسجام والتوافق والجمال الشّيء الكثير. كما أنّ هناك كوكبة من الشّعراء ما فتئوا ينشرون أعمالهم ، ويتركون آثاراً بليغة في قرّائهم. بل إنّ بعضهم قد خلّف مدارس وإتّجاهات شعرية خاصّة بهم، وهم بذلك إنّما ينثرون بذوراً لضآلة القرّاء. إنّ هجرهم للإستاطيقا بحثاً عن أنغام وموسيقى وقيم جديدة، إنما كانوا بذلك يُقْصُونَ القرّاء عن ناصية الشّعر.
أَزْمَةُ إبْدَاع..أمْ أزْمَة تَلقّي
بعض القرّاء عندما يذهبون إلى الإستماع إلى الشّعر يعتقدون أنّه سيدور حول مناظر رائعة، و كبار رجال التاريخ أو قصص الحبّ الحالمة، أو بحثاً عن أساليب الإبداع المبتكرة ، يحدث هذا عندما لا يكون هناك ما ينبغي البحث عنه حقاً. هذا القارئ سرعان ما يبدأ في الشعور بالملل فيبحث له عن وسيلة أخرى للتسلية والتسرّى. إلاّ أنّ هذا الحكم مُجحف ، ذلك أنّ بعض الشّعراء الغربيين يعتبرون القارئَ غبيّاً ، ويعزون سبب فشلهم إلى الآخر. أي إلى ذلك اللاّمرئي والأقلّ إجتهاداً وهو القارئ. ويغيب عنهم أنّه إذا كان الشّعر لا يُقرأ الآن كثيراً، فقد لا يكون السّبب في القرّاء بل في نوعية الشّعر الذي أصبح يُكتب اليوم ومدى جودته. فأين لهؤلاء الشّعراء ما كان بين إستيفان مالارميه، وجون أسبيري، و فيسينسيو كارداريلي، وروبين بونيفاس، و ت. س إليوت، وأوكتافيو باث؟. إنّها مسألة ضآلة الشّعر الجيّد . الواقع أنّ ثمة تناقضاً غريباً ومحيّراً، ففي الوقت الذي كان فيه شعراء مجدّون ومجيدون، قد نجد العكس بالنسبة للقرّاء، والعكس صحيح أيضاً، لقد أصبح هناك تساؤل دائم حول ماهية الفنّ ودوره ، يتوازى مع البحوث العلمية والفلسفية في عصرنا. إنّنا لا نستطيع أن نستمرّ في الكتابة طبقاً لمعطيات لم تعد لها صلة بالهموم الإنسانية والقلق الذي أصبح يعتري إنسان العصر.
المُبْدِع الحَقِيقيّ
المبدع الحقيقي لا يحيد أبداً عن رغباته، وهواجسه، وهَوسه الإبداعي شعراً كان أم نثراً أم تشكيلاً. إنّه كلّما إزداد علماً بعالمه المادّي كلّما تعرّف أكثر على مدى ضآلته وصغره في الكون. وعظمة وجلال كلّ ما لا نعرف عنه شيئاً ، ولا نجرؤ على التفكير فيه، أو الخوض في غماره. إنّه لمن العبث أن نجد الحلول الجاهزة للشّعر الذي أصبح بمنأى عن الدّور الذي كان يضطلع به في العالم الإغريقي، واللاّتيني، والعربيّ ، عندما كانت مختلف العلوم تُكتب شعراً. ناهيك عن أغراض الشّعر الأخرى. فقد عمل الشّعر على إمتصاص جميع تلك المواضيع التي قد لا تجد لها مكاناً في الشّعر اليوم. كما أنّ الشّعر فقد إحدى خاصّياته وهي الشمول وأصبح أكثر تجزيئاً. فالكوميديا الإلهية "لدانتي " ( المستوحاة من رسالة الغفران لأبي العلاء المعرّي) كانت تسعى إلى إقامة نظرة كونية منطقية متكاملة. كان "دانتي أليغيري" يريد أن يقول كلّ شيء في ملحمته. وكان الكاتب الأرجنتيني"خورخي لويس بورخيس" يُعرب عن إرتياحه وإنشراحه عند ما يعثر على بيت واحد من الشّعر الجيّد الجدير بالقراءة في عمل مّا . كانت باكورة أعماله الإبداعية بعنوان" الألف " تعبيراً عن إعجابه بالتراث العربي، وهيامه بلغة الضّاد. ومثلما كان يُعاب على أبي تمّام أنّه كان يقول كلاماً لا يُفهم ،حيث كان الناس (القرّاء) يقولون له : لماذا تقول ما لا يُفهم..؟ وكان يجيب : ولماذا لا تفهمون ما يُقال؟!، فإنّ بعض الشّعر اليوم لم يعد يُفهم. ثمّ إنّه في نظر البّعض منه قد أصبح شبيهاً بقطعة فنيّة زخرفية، وكان الشّعر الحقيقي فيما مضى يُفهَم، ويُقرَأ،ويُستساغ بسهولة ويُسر.
وفى ختام هذه العجالة نعود- والعودُ أحمدُ – لنطمئنَ القارئَ الكريم،والقارئةَ الكريمة كذلك ، ولنكرّرلهما، ونذكّرهما ليس بما قاله الفيلسوف الألماني" هيغل" عن الشّعر، بل بما قاله الشّاعر المكسيكي الكبير " أوكتافيو باث" فى صدر هذا المقال فى دفاعه ،وذوده عن هذا الفنّ الراقي البديع فى حياتنا،والذي عاصر الإنسانَ منذ الأزل، إذ يقول فى هذا القبيل : " لا خوف على الشّعر من الزّوال ، إنّه سيظلّ موجوداً ما دام للإنسان وجود على هذه الأرض"..!!
* عضو الأكاديمية الإسبانية - الأمريكية للآداب والعلوم - بوغوطا - (كولومبيا) .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.