بمناسبة اليوم العالمي للشّعر تحتفل اليونسكو سنويا باليوم العالمي للشعر. حيث اُعتمد في أثناء الدورة الثلاثين لليونسكو – التي عقدت في عام 1999 بباريس – مقرّرا بإعلان 21 مارس من كلّ عام يوما عالميا للشّعر. هذه العجالة تحاول رصد بعض القضايا التي لها صلة بالشّعر وهمومه، ومعاناته، وهواجسه، وأهله، وذويه، وعن العديد من التساؤلات المتوالية، والمتواترة التي ما فتئت تترى، وتطرح بين العديد من الكتّاب، والشعراء، والنقّاد، والمثقفين، بل والقرّاء أنفسهم حول الشّعر، ودوره، وماهيته، وكنهه ، وعن بقائه، أو زواله ،وموته وإنقراضه ، ومدى منفعته وجدواه، وقد سبق أن تساءل مفكّرون ونقّاد،ومثقفون وفلاسفة عن مآل الشعر ومستقبله، وهل هو ما زال صالحا وذا جدوى فى عصرنا الصّناعي الحديث..؟. تجدر الإشارة فى المقام الأوّل أنّ الشّاعر المكسيكي الكبير الرّاحل " أوكتافيو باث" (نوبل فى الآداب عام 1990)، أكّد خلال تجربته الكبيرة ،ورحلته الطويلة فى عالم الخلق والإبداع أنّ الشّعر باق ما بقي الإنسان على وجه الأرض، فإليه إذن يؤول الفضل فى العنوان الذي يتصدّر هذه المقالة أعلاه، فى حين فإنّ غير قليل من المفكرين والفلاسفة قبله منذ ما ينيف على نصف قرن منهم على سبيل المثال وليس الحصر الفيلسوف الألماني " هيغل" كان قد تنبّا بموت الشعر ونهايته فى عصرنا. والشّعر فى الواقع بعيدا عن هذه الإرهاصات والتكهّنات، هو الحياة بكلّ ما فيها من معان وأسرار وغموض ومفارقات ، هو الحديث عن الكون الهائل المحيّر.. هو عذابات النفس المكلومة التائهة في متاهات الحياة، ومرابض الكينونة. الشّعر هوس إنساني وشجون لا يماثله سوى شجون الشّاعر إزاء العالم وأهواله، والدنيا وأحداثها. الشّعر نقمة الوجود لأنّه كاشفه وهو قيد الحياة، وديمومة متجدّدة وخلق دائم لها. الشّعر أكثر الفنون هموما، وأخطرها بحثا، وأعمقها قضية، وأبعدها مراما، وأعلاها قدسية. إنّه قلب الدراما كما يسمّيه "ريتشاردز"وهو الرّوح الحيويّة الحائرة والهائمة فى غياهب الكون واللاّمحدود. إذا كان " برغسون" ينعي على اللّغة قصورها الشديد فى التبليغ والإبلاغ، فإنّ الشّعر قد فتح الباب على مصراعيه أمام المبدعين لتفادي هذا العجز، وبلوغ أرقى ضروب العطاء بتفجير هذه اللغة وتطويعها وإعطائها نفسا إبداعيا جديدا ، ذلك أنّ الشّعر هو اللغة فى أرقى مظاهرها ، والشّعر الذي أعني هنا هو الشّعر بكل ما ينطوي تحت هذه الكلمة من مدلول وحيرة وغموض . الشّعرالذي يهزّنا عند سماعه، ويسمو بنا عند قراءته ، والذي لا يرقى إليه سوى القادر على إقتحام شعابه وعوالمه، هو الذي ينفذ إلى أعماقنا، ويلامس شغاف قلوبنا، وقلوب المحرومين والمحظوظين على حدّ سواء. والشّعر ليس قصّة تروى،ولا منطقا يدرّس،ولا فلسفة تناقش، ولا قولا يجرى على ألسنة قادة كبار العقول، وفرسان الكلم،وهو ليس علما محدّدا، ولا غاية فى ذاتها، إنّه كلّ أولئك جميعا وما وراءها وما فوقها وما تحتها ، إنه علم ما وراء العلم، وهو تجسيد للكون وما يكتنفه من غموض ، وقلق وإغتراب ، الشّعر تحدّ لهذا الكون، وإمتداد له ولما بعده، وهو ليس أغنية تسري فى أنغامها آهات العشّاق، ولا أنشودة تفصح عن شكوى المتيّمين ، الشّعر ضرب من مناوشة الكون ومناغصة الوجود ومناغاته ، وهذه أبرز خاصّياته وأخطرها. والقصيدة الجيّدة تجسيد أبديّ لصورة الوجود ، تتعدّد فيها الدّلالات ، وتتشعّب الرموز، وتختلط وتتداخل فى تناوش بديع ، هي التي تكاد لا تقول أيّ شئ ،وهي فى الوقت ذاته تقول كلّ شئ، والشّعراء أناس سيزيفيّون ، دائمو الحيرة والقلق والعذاب والسّؤل عن كنه الحياة وأسرارها ،وتناقضاتها، وغموضها وألغازها . والقصيدة باقية بقاء الدّهرلأنها أبدا حيّة وحبلى بمختلف العطاءات،وهي ليست وقفا على حاضر أو ماض أو آت، بل إنّها تطوى المسافات السّرمدية طيّا ، لتضرب فى عمق حياتنا الأولى وينابيعها البعيدة لتعايش كلّ عصر وزمان، هي التي أحالت أساطير الأقدمين إلى علم المحدثين ،إنّها تعبير أخناتوني عن توحيد الجزء فى الكلّ والعكس.إنّها مخلوق يدبّ على قدمين، وليس للشّاعر عليها هيمنة ولا سطوة لأنها ليست ذاته ولا حياته ولا تجاربه ولا معاناته ولا أحاسيسه وحده بل إنها ذوات وحيوات وتجارب ومعاناة وأحاسيس الوجود نفسه .وما الشّاعر سوى جزء حيّ نابض من هذا الوجود. قال" مالارميه":" إنّ أرقى أنواع الشّعر هو الذي لا يرقى إليه الفهم سوى بضرب باهظ من الذّكاء والصّبر والمعاناة والمكابدة "، والقصيدة الجيّدة هي حوار مع الكون ، ومناوشة دائمة له، وإستكناه لما وراءه. وتلك عملية صعبة ومركّبة تنطوى على مجازفة خطيرة لأنّها بداية إحتراق وكيّ، في تناوش وتشاكس وديمومة متجدّدة. الشّاعر دائم المقاومة والتحدّي ، شديد المراس،لا يؤخذ جانبه بسهولة ويسر. والشّعر ليس قصراً على التذوّق الفنّي، أوالإحساس المرهف ، أو التسامر أو الإنطواء أو الإنتماء. بل هو مواجهة صريحة للواقع، وإستكناه لخباياه وإستجلاء لغوامضه ،ومعانقة للآمال والآلام . الشّكوى عند الشّاعر حبّات متناثرة، وذرّات مبعثرة كأنّها كثبان رملية منهمرة على وقع هدير أمواج عالية عاتية . الشّعر ليس هذراً طوّلت خطبه، بل هو لمح تكفي إشارته،وهو ليس شعرا إذا لم يهززك عند سماعه، وهو فكر يبعث على التأمّل وإعمال النظر، بضرب من المعاناة والنغوص والتوتّر حيناً ، وبالخيال المجنّح والإسترخاء حينا آخر. والغربة عند الشّاعر تنويعات مختلفة حزينة مكلومة، والقصيد نبع رقراق يتفتّق من أعماق النفس المحبّة العاشقة. الشّعر مرآة الرّوح يرى "ساندرو كوهين " أنّ الشّاعر هو مرآة الرّوح في النفس البشرية. يعمل على تجلية وتنقية ما علق بها من صدأ وبلى وأدران. ويجعلها تشعر بالحنين إلى الحياة الأولى الحالمة الخالية من أيّ أثر للتيّارات المادية التي طغت وطبعت هذا العصر". كان الشّعر فيما مضى يسمع ويقرأ من طرف الرّجال والنساء،عندما بدأ الإنسان ينظمه بغضّ النظر عن الغناء أوالتقاليد ، إنّه منذ بضع عقود كان الناس يقدّرون مختلف الفنون الإبداعية وفي مقدّمتها الشّعر، ويواظبون على قراءتها . وإذا كانت إبداعات القرنين الماضيين شعراً ونثراً لم تحقّق مبيعاتها ما حققه بعض الكتّاب والشعراء اليوم. ذلك أنّ الذي كان يشترى (بضمّ الياء) منذ مائة سنة من كتب كانت تقرأ،. وعلى العكس من ذلك أصبح التباهي اليوم ليس بالقراءة ؛ بل بإقتناء العديد من الكتب حتى وإن لم تقرأ . ويرى بعض الشّعراء أنّ الموسيقى والرّاديو والسينما والتلفزيون ليس هناك من ريب أنها قد تسبّبت في تجميد وتشويه وغلظة الحواس. ولا يمكن لهذه الوسائل برمّتها أن تنفلت أو تتنكّر لهذه القيم الجمالية. لا يمكننا أن ننكر مع ذلك أنّ هناك موسيقي ممتازة، و أفلاما تستحق أن تعتبر أعمالاً فنيّة رائعة. هناك كذلك إذاعات جيّدة. كما أنّ هناك تلفازاً متقدّماً متطوّرا بإبداعاته وطاقاته الفنيّة الهائلة فضلاً عن تقنياته العالية. قرّاء الشّعر كثيرة هي العوامل التي أدّت إلى نقص في قراءة الشّعر، وجعلت من الصّعوبة بمكان وضع تفسير واضح لهذه الظاهرة. إلاّ أنّ هناك وجهة نظر الشّاعر الذي ليس له قرّاء كثيرون. إنّنا ما زلنا نستمع إلى أقوال مثل: "إنّ العالم قد أصبح فظيعاً لدرجة أنّه لم يعد هناك مكان أو وقت للشّعر" ! أو: " إنّها بكاملها ، طريقة مشيتها، حديثها، بل حتى طريقة جلوسها إنّما هي قصيدة حقيقية" ! . و" إنّ التهديد بالحروب والجوع والأمراض الفتّاكة يعمل على بعث الكآبة في أقلّ الشّعراء حساسية وشعورا". إلاّ أنّ ذلك ليس عذراً لهجر الشعر، لأنّ الشعر ليس فنّاً زخرفيّاً، ولا أداة من أدوات الزّينة والتنميق. فالشّعر يفهم عموماً في الغرب بأنّه حافل بالأشباح والأرواح والرومانسية والأحلام. ومردّ هذه المفاهيم إلى الفلاسفة الإغريق، إلاّ أنّه عندما ظهر أمثال"والت ويتمان" و"شارل بودلير" .و" أستيفان مالارميه" و" أرثور رامبو" فإنّ هذه المفاهيم بدأت تهتزّ، وطفق معها الشّعر السّحري الحالم يفقد رونقه وبهاءه. إنّ كلمات مثل الأيديولوجية، الإلتزام، النقد، التأمّل، إعمال النظر، والإستاطيقا قد أصبح لها من الإنسجام والتوافق والجمال الشّيء الكثير. كما أنّ هناك كوكبة من الشّعراء ما فتئوا ينشرون أعمالهم ، ويتركون آثاراً بليغة في قرّائهم. بل إنّ بعضهم قد خلّف مدارس وإتّجاهات شعرية خاصّة بهم، وهم بذلك إنّما ينثرون بذورا لضآلة القرّاء. إنّ هجرهم للإستاطيقا بحثاً عن أنغام وموسيقى وقيم جديدة، إنما كانوا بذلك يقصون القرّاء عن ناصية الشّعر. أزمة إبداع..أم أزمة تلقّي بعض القرّاء عندما يذهبون إلى الإستماع إلى الشّعر يعتقدون أنّه سيدور حول مناظر رائعة، و كبار رجال التاريخ أو قصص الحبّ الحالمة، أو بحثا عن أساليب الإبداع المبتكرة ، يحدث هذا عندما لا يكون هناك ما ينبغي البحث عنه حقاً. هذا القارئ سرعان ما يبدأ في الشعور بالملل فيبحث له عن وسيلة أخرى للتسلية والتسرّى. إلاّ أنّ هذا الحكم مجحف ، ذلك أنّ بعض الشّعراء الغربيين يعتبرون القارئ غبيّاً ، ويعزون سبب فشلهم إلى الآخر. ذلك اللاّمرئي والأقلّ إجتهاداً وهو القارئ. ويغيب عنهم أنّه إذا كان الشّعر لا يقرأ الآن كثيراً، فقد لا يكون السّبب في القرّاء بل في نوعية الشّعر الذي أصبح يكتب اليوم ومدى جودته. فأين لهؤلاء الشّعراء ما كان بين إستيفان مالارميه، وجون أسبيري، و فيسينسيو كارداريلي، وروبين بونيفاس، و ت. س إليوت، وأوكتافيو باث؟. إنّها مسألة ضآلة الشّعر الجيّد . الواقع أنّ ثمة تناقضاً غريباً ومحيّراً، ففي الوقت الذي كان فيه شعراء مجدّون ومجيدون، قد نجد العكس بالنسبة للقرّاء، والعكس صحيح أيضاً، لقد أصبح هناك تساؤل دائم حول ماهية الفنّ ودوره ، يتوازى مع البحوث العلمية والفلسفية في عصرنا. إنّنا لا نستطيع أن نستمرّ في الكتابة طبقاً لمعطيات لم تعد لها صلة بالهموم الإنسانية والقلق الذي أصبح يعتري إنسان العصر. المبدع الحقيقي المبدع الحقيقي لا يحيد أبداً عن رغباته وهواجسه وهوسه الإبداعي شعراً كان أم نثراً أم تشكيلاً. إنّه كلّما إزداد علماً بعالمه المادّي كلّما تعرّف أكثر على مدى ضآلته وصغره في الكون. وعظمة وجلال كلّ ما لا نعرف عنه شيئاً ، ولا نجرؤ على التفكير فيه، أو الخوض في غماره. إنّه لمن العبث أن نجد الحلول الجاهزة للشّعر الذي أصبح بمنأى عن الدّور الذي كان يضطلع به في العالم الإغريقي، واللاّتيني، والعربيّ ، عندما كانت مختلف العلوم تكتب شعراً. ناهيك عن أغراض الشّعر الأخرى. فقد عمل الشّعر على إمتصاص جميع تلك المواضيع التي قد لا تجد لها مكاناً في الشّعر اليوم. كما أنّ الشّعر فقد إحدى خاصّياته وهي الشمول وأصبح أكثر تجزيئاً. فالكوميديا الإلهية "لدانتي " ( المستوحاة من رسالة الغفران للمعرّي) كانت تسعى إلى إقامة نظرة كونية منطقية متكاملة. كان دانتي يريد أن يقول كلّ شيء في ملحمته. وكان الكاتب الأرجنتيني"خورخي لويس بورخيس"يعرب عن إرتياحه وإنشراحه عند ما يعثر على بيت واحد من الشّعر الجيّد الجدير بالقراءة في عمل مّا . كانت باكورة أعماله الإبداعية بعنوان" الألف " تعبيراً عن إعجابه بالتراث العربي، وهيامه بلغة الضّاد. ومثلما كان يعاب على أبي تمّام أنّه كان يقول كلاما لا يفهم ،حيث كان الناس (القرّاء) يقولون له : لماذا تقول ما لا يفهم..؟ وكان يجيب : ولماذا لا تفهمون ما يقال؟!، فإنّ بعض الشّعر اليوم لم يعد يفهم. ثمّ إنّه في نظر البّعض قد أصبح شبيهاً بقطعة فنيّة زخرفية، وكان الشّعر الحقيقي فيما مضى يفهم ويقرأ بسهولة ويسر. وفى ختام هذه العجالة نكرّر، ونذكّر،ونعود إلى قول الشّاعر المكسيكي الكبير " أوكتافيو باث" فى هذا القبيل : " لا خوف على الشّعر من الزّوال ، إنّه سيظلّ موجوداً ما دام للإنسان وجود في هذه الأرض"..! * عضو الأكاديمية الإسبانية – الأمريكية للآداب والعلوم (كولومبيا).