احتفلت اليونسكو-كما هو الشأن كلّ عام-باليوم العالمي للشّعر. اُعتمد ذلك في الدورة الثلاثين لليونسكو–المنعقدة عام 1999 بباريس، وأصبح يوم 21 مارس يوما عالميا للشّعر. وكانت الغاية من هذا اليوم هي تعزيز قراءة وكتابة ونشر وتدريس الشعر في جميع أنحاء العالم. خلال دورة اليونسكو إيّاها التي أعلن فيها عن هذا اليوم أمام العالم، سُجّل أن الهدف منه كذلك هو "تجديد الاعتراف وإعطاء زخم للحركات الشعرية الوطنية والإقليمية والدولية". فماذا يمكننا قوله في هذا اليوم عن هذا "المخلوق الذي أصبح يدبّ بيننا على قدمين"، كما ذهب ريتشاردز وكولاردج في كتابهما "في معنى المعنى"؟! الحديث عن الشّعر هو الحديث عن الحياة بكلّ ما فيها من معان وأسرار وغموض ومفارقات، الحديث عن الشّعر هو الحديث عن الكون الهائل المحيّر، عن عذابات النفس المكلومة التائهة في متاهات الحياة ومرابض الكينونة. الحديث عن الشّعر هوس إنساني وشجون لا يماثله سوى شجون الشّاعر إزاء العالم وأهواله والدنيا وأحداثها. الشّعر نقمة الوجود لأنه كاشفه، وهو قيد الحياة، وديمومة متجدّدة وخلق دائم لها. الشّعر أكثر الفنون هموما، وأخطرها بحثا، وأعمقها قضية، وأبعدها مراما، وأعلاها قدسية. إنه قلب الدراما كما يسمّيه "ريتشاردز"، وهو الرّوح الحيويّة الهائمة في غياهب الكون واللاّمحدود. إذا كان "بِرْغْسُونْ" ينعي على اللغة قصورها الشديد في التبليغ والإبلاغ، فإنّ الشعر قد فتح الباب على مصراعيه أمام المبدعين لتفادي هذا العجز، وبلوغ أرقى ضروب العطاء بتفجير هذه اللغة وتطويعها وإعطائها نفسا إبداعيا جديدا، ذلك أن الشّعر هو اللغة في أرقى مظاهرها، والشّعر الذي أعني هنا هو الشّعر بكل ما ينطوي تحت هذه الكلمة من مدلول وحيرة وغموض. الشّعر الذي يهزّنا عند سماعه، ويسمو بنا عند قراءته، والذي لا يرقى إليه سوى القادر على اقتحام شعابه وعوالمه، هو الذي ينفذ إلى أعماقنا، ويلامس شغاف قلوبنا وقلوب المحرومين والمحظوظين على حدّ سواء. وهو ليس قصّة تروى، ولا منطقا يدرس، ولا فلسفة تناقش، ولا قولا يجرى على ألسنة قادة كبار العقول، وهو ليس علما محدّدا، ولا غاية في ذاتها، إنّه كلّ أولئك جميعا وما وراءها وما تحتها، إنه علم ما وراء العلم، وهو تجسيد للكون وما يكتنفه من غموض، وقلق واغتراب، الشّعر تحدّ لهذا الكون، وامتداد له ولما بعده، وهو ليس أغنية تسري في أنغامها آهات العشّاق، ولا أنشودة تفصح عن شكوى المتيّمين، الشّعر ضرب من مناوشة الكون ومناغصة الوجود، وهذه أبرز خاصّياته وأخطرها. والقصيدة الجيّدة تجسيد أبدي لصورة الوجود، تتعدّد فيها الدّلالات، وتتشعّب الرموز، وتختلط وتتداخل في تناوش بديع، هي التي تكاد لا تقول أيّ شيء وفي الوقت ذاته تقول كلّ شيء، والشّعراء أناس سيزيفيّون، دائمو الحيرة والقلق والعذاب والسؤال عن كنه الحياة وأسرارها وتناقضاتها وغموضها. والقصيدة باقية بقاء الدّهر لأنها أبدا حيّة وحبلى بمختلف العطاءات، وهي ليست وقفا على حاضر أو ماض أو آت، بل إنّها تطوي المسافات السّرمدية طيّا، لتضرب في عمق حياتنا الأولى وينابيعها البعيدة لتعايش كلّ عصر وزمان، هي التي أحالت أساطير الأقدمين إلى علم المحدثين، إنّها تعبير أخناتوني عن توحيد الجزء في الكلّ والعكس. إنّها مخلوق يدبّ على قدمين وليس للشّاعر عليها هيمنة ولا سطوة لأنها ليست ذاته ولا حياته ولا تجاربه ولا معاناته ولا أحاسيسه وحده، بل إنها ذوات وحيوات وتجارب ومعاناة وأحاسيس الوجود نفسه، وما الشّاعر سوى جزء حيّ نابض من هذا الوجود. الشّاعر دائم المقاومة والتحدّي، شديد المراس، لا يؤخذ جانبه بسهولة ويسر. قال "مالارميه" إن أرقى أنواع الشّعر هو الذي لا يرقى إليه الفهم سوى بضرب باهظ من الذّكاء والصّبر والمعاناة والمكابدة، والقصيدة الجيّدة هي حوار مع الكون، ومناوشة دائمة له، واستكناه لما وراءه. وتلك عملية صعبة ومركّبة تنطوي على مجازفة خطيرة لأنّها بداية احتراق وكيّ، في تناوش وتشاكس وديمومة متجدّدة. والشّعر ليس قصراً على التذوّق الفنّي، أو الإحساس المرهف، أو التسامر، أو الانطواء، أو الانتماء. بل هو مواجهة صريحة للواقع، واستكناه لخباياه، واستجلاء لغوامضه، ومعانقة للآمال والآلام. الشّكوى عند الشّاعر حبّات متناثرة، وذرّات مبعثرة كأنّها كثبان رملية منهمرة على وقع هدير أمواج عالية عاتية. الشّعر ليس هذراً طوّلت خطبه، بل هو لمح تكفي إشارته، وفكر يبعث على التأمّل وإعمال النظر، بضرب من المعاناة والنغوص والتوتّر حيناً، وبالخيال المجنّح والاسترخاء حينا آخر. والغربة عند الشّاعر تنويعات حزينة مكلومة، والقصيد نبع رقراق يتفتّق من أعماق النفس المحبّة العاشقة. الشّعر مرآة الرّوح يرى "ساندرو كوهين" أن الشاعر هو مرآة الرّوح في النفس البشرية، يعمل على تجلية وتنقية ما علق بها من صدأ وبلى وأدران، ويجعلها تشعر بالحنين إلى الحياة الأولى الحالمة الخالية من أيّ أثر للتيّارات المادية التي طغت وطبعت هذا العصر. كان الشّعر فيما مضى يسمع ويقرأ من طرف الرّجال والنساء، عندما بدأ الإنسان ينظمه بغضّ النظر عن الغناء أو التقاليد، إنّه منذ بضع عقود كان الناس يقدّرون مختلف الفنون الإبداعية وفي مقدّمتها الشّعر، ويواظبون على قراءتها. وإذا كانت إبداعات القرنين الماضيين شعراً ونثراً لم تحقّق مبيعاتها ما حققه بعض الكتّاب والشعراء اليوم، ذلك أن الذي كان يشترى (بضمّ الياء) منذ مائة سنة من كتب كانت تقرأ، وعلى العكس من ذلك أصبح التباهي اليوم ليس بالقراءة؛ بل باقتناء العديد من الكتب حتى وإن لم تقرأ. ويرى بعض الشّعراء أن الموسيقى والرّاديو والسينما والتلفزيون ليس هناك من ريب أنها قد تسبّبت في تجميد وتشويه وغلظة الحواس. ولا يمكن لهذه الوسائل برمّتها أن تنفلت أو تتنكّر لهذه القيم الجمالية. لا يمكننا أن ننكر مع ذلك أن هناك موسيقي ممتازة، وأفلاما تستحق أن تعتبر أعمالاً فنيّة رائعة. هناك كذلك إذاعات جيّدة. كما أن هناك تلفازاً متقدّماً متطوّرا بإبداعاته وطاقاته الفنيّة الهائلة فضلاً عن تقنياته العالية. عوامل حجمت قرّاء الشّعر كثيرة هي العوامل التي أدّت إلى نقص في قراءة الشّعر، وجعلت من الصّعوبة بمكان وضع تفسير واضح لهذه الظاهرة، إلاّ أن هناك وجهة نظر الشّاعر الذي ليس له قرّاء كثيرون. إنّنا ما زلنا نستمع إلى أقوال مثل: "إنّ العالم قد أصبح فظيعاً إلى درجة أنّه لم يعد هناك مكان أو وقت للشّعر" أو: "إنّها بكاملها، طريقة مشيتها، حديثها، بل حتى طريقة جلوسها إنّما هي قصيدة حقيقية"! و"أن التهديد بالحروب والجوع والأمراض الفتّاكة يعمل على بعث الكآبة في أقلّ الشّعراء حساسية وشعورا". إلاّ أن ذلك ليس عذراً لهجر الشعر، لأنّ الشعر ليس فنّاً زخرفيّاً، ولا أداة من أدوات الزّينة والتنميق. فالشّعر يفهم عموماً في الغرب بأنّه حافل بالأشباح والأرواح والرومانسية والأحلام. ومردّ هذه المفاهيم إلى الفلاسفة الإغريق، إلاّ أنّه عندما ظهر أمثال "والت ويتمان" و"شارل بودلير" و"استيفان مالارميه" و"أرثور رامبو"، فإنّ هذه المفاهيم بدأت تهتزّ، وطفق معها الشّعر السّحري الحالم يفقد رونقه وبهاءه. إن كلمات مثل الأيديولوجية، الالتزام، النقد، التأمّل، إعمال النظر، والإستاطيقا، قد أصبح لها من الانسجام والتوافق والجمال الشّيء الكثير. كما أن هناك كوكبة من الشّعراء ما فتئوا ينشرون أعمالهم، ويتركون آثاراً بليغة في قرّائه، بل إن بعضهم قد خلّف مدارس واتّجاهات شعرية خاصّة بهم، وهم بذلك إنّما ينثرون بذورا لضآلة القرّاء. إن هجرهم للإستاطيقا بحثاً عن أنغام وموسيقى وقيم جديدة، إنما كانوا بذلك يقصون القرّاء عن ناصية الشّعر. أزمة إبداع أم أزمة تلقّي بعض القرّاء عندما يذهبون إلى الاستماع إلى الشّعر يعتقدون أنّه سيدور حول مناظر رائعة، وكبار رجال التاريخ، أو قصص الحبّ الحالمة، أو بحثا عن أساليب الإبداع المبتكرة، يحدث هذا عندما لا يكون هناك ما ينبغي البحث عنه حقاً. هذا القارئ سرعان ما يبدأ في الشعور بالملل فيبحث له عن وسيلة أخرى للتسلية والتسرّي. إلاّ أن هذا الحكم مجحف، ذلك أن بعض الشّعراء الغربيين يعتبرون القارئ غبيّاً، ويعزون سبب فشلهم إلى الآخر، ذلك اللاّ مرئي والأقلّ اجتهاداً وهو القارئ، ويغيب عنهم أنّه إذا كان الشّعر لا يقرأ الآن كثيراً، فقد لا يكون السّبب في القرّاء، بل في نوعية الشّعر الذي أصبح يكتب اليوم ومدى جودته. فأين لهؤلاء الشّعراء ما كان بين إستيفان مالارميه وجون أسبيري، وفيسينسيو كارداريلي وروبين بونيفاس، وت. س إليوت وأوكتافيو باث؟ إنّها مسألة ضآلة الشّعر الجيّد. الواقع أن ثمة تناقضاً غريباً ومحيّراً، ففي الوقت الذي كان فيه شعراء مجدّون ومجيدون، قد نجد العكس بالنسبة للقرّاء، والعكس صحيح أيضاً، لقد أصبح هناك تساؤل دائم حول ماهية الفنّ ودوره، يتوازى مع البحوث العلمية والفلسفية في عصرنا. إنّنا لا نستطيع أن نستمرّ في الكتابة طبقاً لمعطيات لم تعد لها صلة بالهموم الإنسانية والقلق الذي أصبح يعتري إنسان العصر. المبدع الحقيقي لا يني المبدع الحقيقي لا يني، ولا يحيد أبداً عن رغباته وهواجسه وهوسه الإبداعي شعراً كان أم نثراً أم تشكيلاً. إنّه كلّما ازداد علماً بعالمه المادّي تعرّف أكثر على مدى ضآلته وصغره في الكون، وعظمة وجلال كلّ ما لا نعرف عنه شيئاً، ولا نجرؤ على التفكير فيه أو الخوض في غماره. إنّه لمن العبث أن نجد الحلول الجاهزة للشّعر الذي أصبح بمنأى عن الدّور الذي كان يضطلع به في العالم الإغريقي واللاّتيني والعربيّ، عندما كانت مختلف العلوم تكتب شعراً، ناهيك عن أغراض الشّعر الأخرى. فقد عمل الشّعر على امتصاص جميع تلك المواضيع التي قد لا تجد لها مكاناً في الشّعر اليوم. كما أن الشّعر فقد إحدى خاصّياته وهي الشمول وأصبح أكثر تجزيئاً. فالكوميديا الإلهية "لدانتي" (المستوحاة من رسالة الغفران للمعرّي) كانت تسعى إلى إقامة نظرة كونية منطقية متكاملة. كان دانتي يريد أن يقول كلّ شيء في ملحمته. وكان الكاتب الأرجنتيني "خورخي لويس بورخيس" يعرب عن ارتياحه وانشراحه عند عثوره على بيت واحد من الشّعر الجيّد الجدير بالقراءة في عمل مّا. كانت باكورة أعماله الإبداعية بعنوان "الألف" تعبيراً عن إعجابه بالتراث العربي، وهيامه بلغة الضّاد. ومثلما كان يعاب على أبي تمّام أنّه كان يقول كلاما لا يفهم، حيث كان الناس (القرّاء) يقولون له: لماذا تقول ما لا يفهم؟ وكان يجيب: ولماذا لا تفهمون ما يقال؟! فإنّ بعض الشّعر اليوم لم يعد يفهم. ثمّ إنّه في نظر البّعض قد أصبح شبيهاً بقطعة فنيّة زخرفية، وكان الشّعر الحقيقي فيما مضى يفهم ويقرأ بسهولة ويسر. قال الشّاعر المكسيكي "أوكتافيو باث": "لا خوف على الشّعر من الزّوال، إنّه سيظل موجوداً ما دام للإنسان وجود في هذه الأرض". *كاتب وباحث من المغرب عضو الأكاديمية الإسبانية-الأمريكية للآداب والعلوم-بوغوطا-كولومبيا