إن كانت الذكرى تنفع المؤمنين، فأول ما أذكر به أن الوطن يسع الجميع، وبقبول التعدد والاختلاف نكون قد قطعنا شوطا في مسار التنمية والتقدم، أما الاستمرار في المناكفات المنغلقة، مثل الشنآن المتعلق بأفضلية العربية عن الأمازيغية، أو عن أي لغة أخرى، فهذا هو التهافت الفكري، الذي يولد العقم، والكراهية، والإقصاء. فالمغرب باعتباره قبلة الحضارات الوافدة، التي استقرت أو ذهبت، ينأى بنفسه عن مثل هذه النقاشات التي لا تمت لطبيعته وحقيقته بصلة، فهو مضرب الأمثال في جمالياته اللامتناهية، التي انبثقت عن التعدد والتنوع. إلا أن المؤسف في الأمر، وإن كنا في لحظة انفتاح فكري، ورقي حضاري إنساني، ما زلنا نطالع بين الفينة والأخرى، مقالات تنال من هذه اللغة أو تلك، وتتجاسر عليها، بل تنعت هذا بالعروبي، والآخر بالأمازيغي، بل وصل بها الأمر إلى الحديث عن داعشية اللغة، في فتح فكري لم نعهد له مثيل، فمتى كان الفكر يتوسل بالمصطلحات الإرهابية والدموية للتعبير عن رؤاه واقتناعاته، في سياق النقاش الحر، والدفاع بالحجة الدامغة، لا الجارحة ولا الحمالة لأوجه الإقصاء، ومتى كانت اللغة العربية متطرفة أو مستبدة، وهي لغة مثل نظيراتها الأخرى، على الأقل إن لم تحترم، فلتترك لشأنها، وللتذكير فشأنها شأن. وأشير هنا إلى أن المثقف المحترم، هو الذي يصدر عنه الاحترام لجميع اللغات، ويمكن أن نقول هذا بكل لغات العالم، فالمثقف أكثر من غيره، يعرف منزلة اللغة، سواء كانت قديمة أم حديثة، ميتة أم حية، لأنها ذات أبعاد لا متناهية، إذ ليست مجرد آلية للتحاور والتواصل والتفاخر، بل هي وسيلة لنقل النفائس الحضارية للأمم عبر التاريخ، فهي المشترك لا المقتصر، إذ للغة علاقة وطيدة بالتراث، والمحافظة عليه والمساهمة في إحيائه من أهم شروط التطور الإنساني، سيما وأن كل تطور مستقبلي يجب أن ينبع من أسس حضارية تضمن له التقدم والاستمرار الإيجابي، لذلك تضطلع اللغة بدور كبير في صون التراث والمحافظة عليه من عوامل الزمن. وهنا بالضبط نُذَكر بتخوم الحرية الفكرية الإنسانية، التي تلغي سلط المرجعيات المنغلقة العقيمة، لتطلق نداءاتها الخالدة، حينما تم الاحتفاء بالتراث اليوناني، وسمي أفلاطون بالمعلم الأول، وهذا مثال على قيمة الانفتاح الإنساني، ونتيجته على الإنسان نفسه، هذا الانفتاح يصون التراث ويطور اللغة ويقدم فرصا للاستفادة من تراكماتها وإنتاجاتها، ولا بأس أن نذكر مرة أخرى، بما أننا بصدد التذكير، بإسهامات ابن رشد، وابن خلدون، وغيرهم كثير، أَلا إن زمن الرشدية والخلدونية ليس ببعيد. لذا بدل أن نسدد سهامنا للنيل من لغة ما، – إن كانت لنا نية الاجتماع على مائدة الفكر الإنساني والمساهمة في تشكيلها وإغنائها-، علينا أن نعيد التفكير في سبل رقيها، واستحداث طرائق جديدة لسد ثغراتها، هذا إن ادعينا أن لها ثغرات، ويكون ذلك على مستوى الرؤية المستقبلية، والتعامل المنهجي، والاقتناع الفكري. إن الخصوصيات الثقافية واللغوية، التي تتيحها لنا أي ثقافة أو لغة، تتيح لنا من الإمكانيات والموارد، التي تبين أهميتها، وقابليتها للاستمرار، والتطور، والمسايرة، ومواجهة التحديات، وفي نظري هذا هو الأصح والأسلم والأصدق، عوض أن نشير لأنفسنا بالبنان ونموقع ذواتنا في خانات مغلقة، عروبية، أو عربية، أو أمازيغية، أو فرنسية، أو عرنسية...، فإن كان هناك في المغرب من يدعي، أنه عربي قح، أو أمازيغي خلص، كيف نتعامل مع الحالات المزدوجة وهي كثيرة، مثل العربي من جهة الأب، والأمازيغي من جهة الأم، والعكس صحيح، علما أن المزاوجة والمصاهرة ظاهرة في المغرب، ضاربة جذورها في القدم بين أكثر من جنس أو شعب، وإن تم ذلك بين جَد (أي أصل) بعيد. فنحن بافتخار ننتمي إلى وطن متنوع ممتد، يبلور التعدد والاختلاف إلى وجهة الازدهار، فالمغرب كان وسيظل أنموذجا يحتذى، باعتباره مركزا لاندماج الحضارات وتماوجها، في تشكيل متناغم، يظهر أن الإنسان بحق يتعاون، ويتكامل، ويتطور، ويتقدم، كما يسمو ويحتوي، هذه القيم التي تدل على إنسانية الإنسان. وإن سمحتم لي، في الأخير، أن أقول كلمة عن اللغة العربية، كي أكون منسجما مع اقتناعاتي وتصوراتي، فلن أجد أحسن مما قيل عنها، كما ورد في الأثر، فيما معناه، من أحب الله أحب كلامه، ومن أحب كلامه أحب رسوله، ومن أحب رسوله أحب لغته، كما أن شاعر النيل حافظ إبراهيم قال عنها وأوجز، وبلغ المراد حينما قال على لسانها: أنا البحر في أحشائه الدر كامن فهل سألوا الغواص عن صدفاتي علما أنه ليس كل من لبس ثياب الغوص، مؤهل أن يصبح غواصا، يستطيع التقاط درر البحر، وتلمس جمال مرجانه، واستكناه حقيقة مكنوناته، وفهم ممراته ومداخله، لذا كل أطروحة تدعي قصر اللغة العربية وتخلفها، تفرض علينا مليا أن نقف عند خلفياتها ومنطلقاتها، فاللغة بطبيعتها تعتبر تجليا حضاريا، كلما كانت الحضارة قوية لها أسسها المتطورة، إلا وسادت لغتها وامتد نطاق تداوليتها، لذا إن تعثرت لغة ما فالعيب ليس فيها، بل فيما يقدم لها من خدمات، وأبناء اللغة هم خدامها. فكما أن اللغة هي التي تعبر، فهي تصون وتحتوي، إنها ظاهرة إنسانية كونية تتداولها الأجيال، وكل جيل سيرى الإضافات التي قدمها الجيل الذي سبقه، فهلا كنا خير خلف لخير سلف، حتى نكون خير سلف لخير خلف. [email protected]