كشفت النتائج الأولية التي توصل إليها تقرير الحالة الدينية في المغرب الذي سيصدره المركز المغربي للدراسات والأبحاث المعاصرة في بداية السنة المقبلة، على ملاحظة أساسية تخص تدين المغاربة، وهي وجود حالة من "التوتر" في التدين عند المغاربة، وهو ما يبرز بشكل واضح في "الإزدواجية" بين ممارسة الشعائر الدينية وانعكاسات ذلك على الأخلاق. أود التأكيد على أنه من الصعب، إن لم نقل من المستحيل أن يكون هناك تطابق تام بين ما يعتقده الناس وبين ما يمارسونه في حياتهم اليومية، فالإنسان ظاهرة مركبة ومعقدة يصعب وضعها في قوالب جامدة، فقد يقوم الإنسان بسلوك معين في وقت يعتقد بعكسه، كما يمكن أن يكون هناك توافق بين ما يعتقده وما يمارسه، وهذا داخل في إنسانية الإنسان ونسبيته، إذن ف"الازدواجية" التي تحصل للناس في حياتهم أمر "طبيعي" ينبغي فهمه في سياقه الثقافي والسياسي والإجتماعي والإقتصادي الذي أفرزه. بالنسبة للمغرب، تؤكد الدراسات السوسيولوجية التي أنجزت خلال العشر سنوات الأخيرة ، -المسح العالمي حول القيم 2001 و 2007، البحث الوطني حول القيم 2005، الإسلام اليومي، 2007، تقرير غالوب 2006 و2008 و2010، تقرير معهد بيو 2005 و2008، تقرير جامعة ماريلاند وزغبي 2010، تقرير مؤسسة أنا ليند 2010- كلها على أن الممارسات الدينية في ارتفاع عند المغاربة باختلاف جنسهم وأعمارهم وأن الهوية الإسلامية أساسية ضمن الهوية الفردية والاجتماعية للمغاربة، وبأن ثقتهم في المؤسسات الدينية مرتفعة ورفض المواقف المتطرفة والمتشددة للدين، ولكن بموازاة ذلك ترتفع أيضا نسب استهلاك المخدرات والخمور والتعاطي للقمار وارتفاع الاستهلاكية والاقتراض من البنوك الربوية، بالإضافة إلى تردي على مستوى أخلاق العمل وحس المسؤولية وارتفاع الرشوة في المؤسسات العمومية. كيف يمكن فهم هذه "الإزدواجية"؟ لفهم هذه "الازدواجية"، تبرز عناصر تفسيرية بعضها ذو بعد داخلي وأخرى ذات بعد خارجي، وهي كالتالي: · أولا: التحولات الأسرية، والتي من أبرز نتائجه تراجع دور وظائف الأسرة في التنشئة على القيم، والدور الذي تلعبه في تلقين القيم والمعايير الاجتماعية، بحيث أن الأسرة المغربية طرأت عليها تحولات عميقة، خصوصا انتقالها من الأسرة الممتدة إلى الأسرة النووية، وتغير العلاقات الزوجية والأبوية، وبروز إشكال جديدة من الأسر، مما أثر على وظيفة الأسرة التربوية والتنشئوية، كما يؤكد ذلك دراسة المجتمع والأسرة والنساء والشباب المنجزة في إطار تقرير الخمسينية. · ثانيا: تأثير وسائل الإعلام الحديثة، فقد عرفت السنوات الأخيرة انفجارا في التقنيات الحديثة للتواصل (الفضائيات، الأنترنيت...) وسهولة الولوج إليها، من دون استعداد قبلي للتعامل معها وأخذ الإحتياطات اللازمة لذلك، خصوصا بالنسبة للقاصرين، وتعارض عدد من المواد المقدمة سواء في وسائل الإعلام العمومية أو الأجنبية مع القيم الدينية للمغاربة، مقابل ضعف على مستوى الإعلام الديني في المغرب، يعكسه نسب المشاهدة المتدنية للقنوات الدينية المغربية مقابل ارتفاعها بالنسبة للقنوات الدينية المشرقية كما تورده مختلف تقارير ماروك ميتري. · ثالثا: تنافر السياسات العمومية الخاصة بقضايا الثقافة والهوية والتدين في المغرب، فالحقل الثقافي والإعلامي والديني في المغرب تتجاذبه عدد من المرجعيات المتنافرة، أبرزها التيار الإسلامي والتيار العلماني. · رابعا: ضعف على مستوى التنسيق والتعاون بين مختلف الفاعلين داخل الحقل الديني نفسه، سواء تعلق الأمر بالفاعل الديني الرسمي ( وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، والمجالس العلمية والمجلس العلمي الأعلى والرابطة المحمدية للعلماء، ودار الحديث الحسنية) أو بالفاعل الديني غير الرسمي (الحركة الإسلامية، الزوايا، الجمعيات الدعوية والدينية...) مما تبرز تعدد رهاناتهم وتعارض مصالحهم في بعض الأحيان، والحاجة إلى بلورة سياسة تشاركية بين مختلف الفاعلين في الحقل الديني لتجاوز تحديات التنافر وتكرار المبادرات وتبديد المجهودات. · خامسا: بروز التيار العلماني وتأثيره في نظام القيم المجتمعي السائد في المغرب، عبر الدعوات إلى سمو المرجعية الدولية على باقي المرجعيات الأخرى، بما فيها المرجعية الإسلامية التي يؤمن بها الأغلبية الساحقة للمغاربة، والعمل على تكسير التوافق على مركزية المرجعية الإسلامية ضمن الهوية الاجتماعية للمغرب، ودعوة إلى الحد من موقع الدين في الفضاء العمومي، والعمل على تقوية كل ما من شأنه التأثير في ذلك كما تؤكده مختلف مواقف التيارات المدافعة عن الشذوذ الجنسي والإفطار العلني في رمضان، إلخ. *باحث في المركز المغربي للدراسات والأبحاث المعاصرة