بعيْنٍ مِلْؤها الرضا، ينظرُ الروائي المغربيّ أحمد الكبيري إلى واقعِ الرواية المغربيّة، ويرَى أنّها بألف خير، وإنْ قلَّ إقْبالُ القارئ المغربيّ على المكتبات وشكاوى الكٌتّاب والروائيين والشعراء من قلّة المبيعات. في هذا الحوار، يتحدّث صاحب ثُلاثيّة "مصابيحُ مُطفأة"، "مقابر مشتعلة"، أرصفة دافئة"، عن واقع الرواية المغربية، وعن السياسة الثقافية في المغربِ عموماً، ويشرح،من وجهة نظره، أسبابَ عزوف المغاربة عن القراءة.. مَا تقْييمُكمْ لوضْعِ أو "حال" الرواية المغربية في الوقت الراهن؟ يُمكن أن نقول، ودون تردد، إذا ما وضعنا الرواية المغربية، سواء المكتوبة باللغة العربية أو بلغات أخرى، في سياقها التاريخي: "إن الرواية المغربية اليوم بألف خير". وحسب بعض الدراسات النقدية الرصينة للناقد المغربي حسن المودن، يشير إلى أن ما نُشر منذ الثمانينيات إلى الآن، من نصوص روائية باللغة العربية، يفوق عشرَ مرات ما نشر منذ الأربعينيات إلى نهاية السبعينيات؛ أي ما يفوق حوالي خمسمائة رواية. هذا على مستوى الكمّ، أما على مستوى الكيف والنوع فقد سَجلت الرواية المغربية حضورا لافتا في المنتديات والمعرض واللقاءات الثقافية العربية، بل وحصدت العديد من الجوائز، كجائزة نجيب محفوظ وجائزة البوكر العربية وجوائز عديدة. فضلا عن هذا يُسجّلُ كل سنة بلوغ أسماء روائية مغربية للائحة الطويلة أو القصيرة لجائزة البوكر، وهو مؤشر يدل على حيوية ودينامية روايتنا المغربية وقُدرتها على التنافسية مع كُتّاب المشرق العربي، الذين كانوا إلى زمن قريب هم أصحاب الريادة في هذا المجال. لكنَّ هذا التطور، الكمي والنوعي، الذي عرفته الرواية المغربية يطرح علينا العديد من الأسئلة، كسؤال النشر والتوزيع والمواكبة الإعلامية والقراءة والأثر ودعم التجارب الفتية... في المغرب ثمّة قلّة في الانتاج الأدبي (في فرنسا مثلا تصدر مئات العناوين سنويا)، لماذا هذا الشحُّ في الانتاج الأدبي عندنا؟ أعتقد أنه لا مجال للمقارنة بيننا وبين فرنسا في هذا المجال. يكفيك أن تطلع على الميزانية المخصصة للثقافة في فرنسا (حوالي ثمانية مليار أورو في السنة) وتلك التي تخصّصها الحكومة عندنا لهذا المجال (لا تتعدى 600 مليون درهم في السنة)، ليظهر لك كم هو شاسع البون بينهم وبيننا. زيادة على ذلك، نحن في المغرب بخلاف الدول التي لها تقاليدُ عريقة في صناعة الكتاب وتداوله، لا زلنا، رغم النقاش الدائر وإعلان النوايا الحسنة، لم نرسم بعد استراتيجية شمولية وتكامُلية تساهم في منسوب الإنتاج والنشر والتداول، لدرجة أنه حتى الآن، إذا ما استثنينا حدث المعرض الدولي السنوي للكتاب، لا يمكننا، كما هو الشأن بفرنسا، أن نتحدث عن أي دخول ثقافي نقيّم من خلاله إنتاج كل سنة من الروايات وباقي أصناف الإبداع الأخرى. وأودّ أنْ أشيرَ هنا إلى أن جُلَّ الكتَّاب المغاربة يجدون أنفسهم أمام خيارات محدودة، فإمَّا أنّهم يُلقون بإنتاجهم لدُور نشر مغربية صغيرة، همُّها الوحيد أن تقتات وتتعيش على هامش الربح الذي تجنيه من دعم وزارة الثقافة، وإما يضطرُّون للهجرة، "كالحرَّاكة" إلى دُور نشر عربية، فلا تصل كتبهم إلى المغرب إلا بكمّيات قليلة كأنها سلع مهربة، وإما يختارون طبْعَ كتبهم على نفقتهم ويتحملون بالتالي كل الخسارات والإحباطات، نكاية في كل سياسة مُذلة في مجال النشر والتوزيع. ودائما من باب المقارنة جوابا على سؤالك، أردد ما أصبح متداولا: "هُمْ، في الغرب، يدعمون الفاشل حتى ينجح، ونحن نحارب الناجح حتى يفشل". والدليل أن الأغلبية من الكتاب والمبدعين ينتهون، بعد محاولة أو محاولتين، إلى الصمت. المغاربة، حسب دراسات عدّة، ومنها بحثٌ لمندوبية التخطيط، لا يقْرؤون؛ لماذا برأيْكم؟ شخصيا لا أعتبر فعل القراءة فعلا منعزلا عن باقي المكونات الأساسية لحياة كريمة للمواطنين، كالتنشئة الاجتماعية السليمة والمستوى الاقتصادي والمعيشي للأسرة وكذا تصالح المركز بالهامش؛ وخلق شعور عامّ بالمواطنة الصادقة عند كل فرد مغربي. القراءة بهذا المعنى، مجال يدخل ضمن استراتيجية الدولة في المجال الثقافي. وهنا تُطرح علينا مجموعة من الأسئلة الجارحة والحادة كنصل سكين. أوّلا هل المغاربة يعيشون سواسية في مجال التنشئة الاجتماعية؟ فاليوم أضحى واضحا في المغرب، أننا نسير بمستويين للسرعة التي يفرضها العصر. هنالك طبقة تسير بسرعة "التيجيفي" على جميع المستويات، التعليم، الصحة والقدرة الشرائية.... وهذه الطبقة لا أعتقد أنها لا تقرأ. وإن كانت تقرأ ببراغماتية كبيرة ووفق مناهج فرانكوفونية أو أنجلوساكسونية، تخدم في الغالب ثقافة ومصالح البلدان المصدرة لها. بينما نجد طبقة أخرى، تعيش شظف العيش وتسير بسرعة الدواب التي كان يتنقل عليها أجدادنا. فلا المدرسة ولا الصحة ولا المستوى المعيشي الذي تتخبط في صعوباته، يسعفونها لتعيش بكرامة، فبالأحرى أن يكون لها بذخ الجلوس إلى القراءة. فهي تحارب الأميّة بمفهومها العتيق والسلام. ثم هنالك، سؤال آخر، يفرض نفسه علينا، هو هل فعلا هنالك نية صادقة لدى الدولة كي تخلق من المجتمع المغربي مجتمعا قارئا؟ أعتقد من خلال الكيفية التي لا زالت تتعاطى بها الدولة مع الشأن الثقافي، وما يتخبط فيه قطاع التربية والتعليم، ناهيك على غياب شبه تام للأحزاب السياسية والنقابات والجامعات والمعاهد والمؤسسات الأخرى المعنية بالشأن الثقافي، في القيام بدورها وتحمل مسؤولياتها، لا أعتقد أننا فعلا، نفكر في مجتمع شعاره: "خد الكتاب بقوة واقرأ"، وكذلك هنالك سؤال الجدوى، الذي يظل مطروحا في ذهنية عموم المغاربة وهو: ما الجدوى من القراءة؟ "طفروه اللي قراوا....راهم قراوا وجالسين كيكلوا العصا حدا البرلمان؟" لقد ساد لعقود ولا زال سائدا، من خلال مناهج التدريس، أن فعل القراءة مرتبط بسنوات الدراسة، التي تنتهي بالحصول على شهادة ثم عمل أو عطالة، لينتهي معها فعل القراءة للأبد. لهذا نجد الأمية الحقيقية والفظيعة مستشرية بين الطبقة المتعلمة. تلك التي منذ يوم تخرجت من معهد أو كلية لم تفتح كتابا. حتى أنك إذا أردت أن تنوم مغربيا، من بين هؤلاء، ناوله كتابا واطلب منه قراءته. بعد الصفحة الأولى ستراه بدأ يفْركُ عينيه ويتثاءب ويتمطط كقط كسول، ويبحث له عن أي ذريعة، حتى وإن كانت تلك الذريعة هي إخراج سطل القمامة من البيت. المهم هو أن يتخلص من الكتاب. ثمّة من يرْبطُ عزوف المغاربة عن القراءة بضعْف القدرة الشرائية، هلْ تتفق مع هذا الرأي؟ يمكن اعتبار القدرة الشرائية للمغاربة كأحد الأسباب البسيطة في عزوفهم عن القراءة، لكني لا أتفق أن تكون هي الحاجز بين المغاربة والكتاب، ربما هي ذهنية المغاربة وعدم وعي الأغلبية، للأسباب المشار إليها أعلاه، بدور القراءة في التنمية والتربية والتكوين والتنمية، هو ما يجعل أغلبهم لا يضع القراءة ضمن أولوياته. المغربي قد يعبّئ هاتفه أكثر من مرة يوميا، لكنه يعتبر شراءَ جريدة أو كتاب حتى ولو كان ثمنه لا يتجاوز خمسة دراهم تبذيرا أو أمرا ثانويا وغير ذي فائدة. وأحيانا يعتبر القراءة إزعاجا. أذكر أنني كنت جالسا ذات صباح في مقهى، فجاء النادل ببعض الجرائد لزبناء يجلسون غير بعيد عني، لكن أحدهم قال له نيابة عن الباقين: "دبا حنا جْمّاعين... خلي الجرائد ديالك عندك ما تبرزطناش الله يخليك..". بْلاش وما بغاوش يقراوا. وهنا لابد أن أشير إلى سطوة ثقافة الاستهلاك والماديات على ما هو قيمي وثقافي وغير مادي. ولكم أن تلاحظوا الهجوم الكاسح الذي تمارسه بشكل يومي، الشركات والمؤسسات التجارية من إشهارات ودعاية لتسويق منتوجاتها عبر كل وسائط التواصل، ( تلفزة راديو، هواتف، جرائد...)، بالمقابل لا نجد ولا وصلة إشهارية واحدة في اليوم، تروج للكتاب. عندنا برنامج ثقافي واحد هو برنامج "مشارف" الذي يقدمه الشاعر والصحفي عدنان ياسين على القناة الأولى، لكنه يقدَّم في وقت لا يسمح بمتابعته إلا لفئة قليلة من المشاهدين وهم في الغالب من المهتمين. ومثل هذه الأمور تضاعف من إحساس المواطن البسيط بتفاهاته، وتجعله يعتقد بأن أهميته وقيمته، تكمن في مستوى وقيمة تلك المنتوجات التي يستهلك وليس في مستواه الفكري والثقافي. برأيكم، ما الحلّ، لتجاوز هذه المعضلة، وإقامة "صُلح" بيْن المواطن المغربي والقراءة؟ أنا من الناس الذين لا يؤمنون بالمستحيل. أؤمن بأنَّ ثمة أشياء صعبة. لكن عندما تكون لنا إرادة حقيقية ونعي جيدا ماذا نريد، نحدد أهدافا ونرسم خريطة طريق في إطار استراتيجية شمولية وننطلق. أكيد ستصادفنا عوائق ومشاكل وستعوزنا أحيانا الوسائل، وقد نتعثر وقد نسقط، لكن إذا كانت عزيمتنا قوية وتضافرت جهودنا، من المؤكّد أننا سنحقق الهدف ولو بنسبة محترمة. وبالنسبة لمعضلة القراءة، أرى أن أهم نقطة ينبغي الانطلاق منها هي التنشئة السليمة وعلى رأسها الأسرة وإصلاح منظومة التربية والتعليم. مع إشراك كل الفاعلين والمتدخلين في الشأن الثقافي، سواء أتعلق الأمر بالدولة، ممثلة في وزارة الثقافة وباقي مؤسساتها، أو بهيئات المجتمع المدني والأحزاب السياسية والنقابات والإعلام. لكن السؤال هو هل فعلا نريد أن نخلق من المجتمع المغربي مجتمعا قارئا؟