أصبح غنيا عن التعريف ؛ وحسبما أكدته التقارير والدراسات السوسيولوجية ؛ أن مؤسسات سوسيوبيداغوجية انحسر دورها إن لم نقل مات ؛ كالأسرة ، والمدرسة ، والمسجد ، والنادي ، والميديا ، والسجن ، والمجتمع ..الخ . كانت هذه المؤسسات ؛ إلى عهد قريب ؛ تضطلع بأدوارها التقليدية ، وبشكل متناغم فيما بينها ، في تنشئة الفرد المغربي ..لكن اختراقات اقتصادية ثقافية طارئة سارعت إلى تعطيلها وبالتالي ترك الحبل على غارب الناشئة المغربية هذه الناشئة ؛ وفي ظل خلو دروبها من منارات ومرجعيات تربوية موجهة ؛ وجدت نفسها بالكاد في مجتمع تضطرم فيه القيم المادية الزاحفة والمتغولة ...أشبه بغابة تحتكم فيها كائناتها إلى قانون وحيد : الغاية تبرر الوسيلة ...! وأصبح مألوفا لدينا معاينة وأحيانا مواجهة عينة من المواطنين المغاربة تنتفي عنهم بالكاد صفة الإنسان بضوابط أخلاقية واجتماعية وتساكنية ، فهم أقرب إلى الفضاضة والعنف والفجاجة والوقاحة والبذاءة والنذالة ...منها إلى الإنسان العادي . وسنحاول ؛ في هذه الورقة ؛ تشخيص ظاهرة الهمجية والتهميج ، وكيف استوطنت مواقف وسلوكات أجيال من المغاربة ... وهل هناك ثمة علاج لها وكيف ..؟ اصطدام الأجيال من المعلوم أن هناك حبلا دقيقا رابطا بين أجيال داخل المجتمع الواحد ، فكل جيل ينقل إلى جيله الموالي منظومة معقدة من المعارف والقيم والتراث والتقاليد عبر مؤسسات سوسيوبيداغوجية متعددة التوجهات والآليات وإن كان يجمعها ؛ في الأخير ؛ قاسم مشترك هو تمرير الموروث الحضاري والإنساني إلى الناشئة من الجيل القادم .. لكن وقوع أي اختلال في أداء هذه المؤسسات عادة ما تترتب عنه نتائج وخيمة تتبدى للعيان في صور ظاهرية شتى كاصطدام بين الأجيال ، وتنكر الجيل الحالي للجيل السابق ، "والجيل العاق" ..الخ . لكن الأسوأ ؛ والذي نحن بصدد دراسته ؛ هو التعطل التام لهذه القنوات الرابطة بين جيلين أو أكثر مما ينشأ عنه ظهور نشء غرائزي خال من القيم والضوابط الإنسانية والاجتماعية .. فهو في عمق تفكيره ومواقفه وسلوكاته إزاء الآخر شخص همجي عدواني. والهمجية ؛ في دلالتها السوسيولوجية ؛ هي الحالة التي يكون فيها سلوك الشخص أقرب إلى البربري اللاحضاري ، الغابوي اللاتربوي ، الفوضوي ، المشاغب ، البدائي ، الغرائزي ، القاسي والمفرط . تمظهرات السلوكات الهمجية في واقعنا يمكن رصد عدة مجالات ومرافق بمقدور الباحث وحتى الملاحظ العابر أن يكون قريبا من أنماط متعددة لسلوكات همجية ، سواء تعلق الأمر بالسلوكات المصاحبة للسير في الطرقات والشوارع ، وما يواكبها من الاستعمال المفرط لمنبهات السيارة والسباب والتراشق الكلامي ... أو النزاعات البينية البسيطة والتي تفضي في أغلب الأحيان إلى أعمال إجرامية وخاصة بين اليافعين أو الذين يتخطون سن المراهقة ، كما يمكن اعتبار المقهى والقطار مرفقين حيويين لمعاينة السلوكات الخرقاء عن كثب ، كالقهقهات المدوية واستعمال الهاتف بأصوات عالية مقززة وفي مواضيع أحيانا باعثة على الغثيان ! هذا وتوجد داخل الحواضر الكبرى مرافق رياضية تشهد ؛ وباستمرار ؛ سواء قبل وأثناء أو بعد انتهاء المباريات ومغادرة الملاعب ؛ عينات عديدة لسلوكات رعناء مصحوبة بأعمال شغب وعنف حتى إن شريحة كبيرة من المواطنين تتخلى عن استعمالها للسيارات مخافة استهدافها من قبل هذه السلوكات المنحرفة والهمجية . أما الولوج إلى المرافق العمومية كالحافلات والقطارات والناقلات وحتى المساجد أحيانا ! فتشهد ؛ هي الأخرى ؛ تدافعا بشتى الوسائل حتى ليخال المواطن العادي أنه أمام حلبة للملاكمة في غياب قواعدها ! ، أما الاصطفاف وانتظارالدور بهدوء فيبدو في أعين هؤلاء المتنطعين هدرا للوقت وباعثا على السأم . وحري بنا الإشارة إلى الجوار وما يمثله من معاناة مؤرقة لفئة غير قليلة من السكان جراء اصطدامهم بسلوكات مستهجنة من قبل جيرانهم ليلا ونهارا... وكلما حاول أحد إقناع جاره بالتزام ضوابط حسن الجوار "الجورة الحسنة" والتساكن خدش هذا الأخير سمعه بأقذع العبارات الشنيعة ... وبتعدد أوجه وأنماط السلوكات الفجة والهمجية وما تؤول إليه من اصطدامات عنيفة وأحيانا دموية ، تعرف المحاكم المغربية ؛ وارتباطا بذات السياق ؛ ارتفاعا في وتيرة القضايا الجنحية والناجمة في مجملها عن سلوكات خرقاء وراءها أسباب تافهة ، لا يمكن صدورها من أشخاص أسوياء منضبطين ومندمجين في الحياة العامة . ولرصد خارطة تواجد هذه الأنماط الهمجية في السلوكات والمواقف ، تكفي الإشارة إلى ظاهرة الهجرة القروية المتعاظمة والتي تتخذ من أحزمة المدن الكبرى كفاس والرباط والدار البيضاء ومراكش مستوطنات لها ... ناهيك عن المدن القصديرية التي تعتبر دوما أوكارا لتفريخ الجريمة بمختلف أشكالها . فمثل هذه المواقع ؛ من المنظور السوسيوثقافي ؛ هي حاضنة لصور فظيعة لأنماط سلوكية خطيرة خارجة عن المألوف ، يتميز الشخص الحاضن لها بمستوى اقتصادي تحت عتبة الفقر مع عدم تمدرسه ، فضلا عن كونه ؛ في أغلب الحالات ؛ ينحدر من أبوين مجهولين أو أسرة مفككة . يتشرب داخلها الناشئ الصغير ألوانا شتى من سلوكات عدوانية منحرفة وجانحة .. تشكل منه ؛ فيما بعد ؛ شخصية عدوانية فضة ميالة إلى العنف والهمجية . سيما إن سقطت في "ملكيته" وبشكل طارئ أموالا لا عهد له بها من قبل . وقد لا نستغرب ؛ ودفعا لمثل هذه السلوكات الرعناء والتي لا تنسجم مطلقا مع قواعد التساكن والتحضر والتآنس والتي تطبع معظم المجتمعات الغربية ؛ أن تقدم بعض المحلات والمرافق الاقتصادية والترفيهية في دول أروبا على منع العرب والمغاربيين خاصة من ولوجها بتعليق إشارات على بواباتها مثل "Interdit d'entrer pour les arabs " ليس عنصرية ، كما قد يتبادر إلى ذهن البعض ولكنها في العمق حرص أصحاب هذه المحلات ألا يعكر أحد الأجواء داخلها كما يحصل في مرات عديدة مع أشخاص ذوي جنسيات عربية ومغاربية . أي علاج لظاهرة آخذة في الاستفحال ؟ إذن المغرب ، يقف الآن في مرحلة تاريخية وسوسيوبيداغوجية خطيرة إذا استمر جمود أدوار هذه المؤسسات في تطعيم النشء وأنسنته وتشكيل شخصيته بدلا من ترك الحبل على غاربه ، فيمسي ؛ في الأخير ؛ إنسانا لاإجتماعيا لاحضاريا ..إنسانا غرائزيا متنطعا همجيا في سلوكاته ومواقفه.. إن إحياء دور هذه المؤسسات أصبح أمرا ملحا قبل فوات الأوان ، وذلك بعقد شراكة فيما بينها متعددة الوظائف والمهام وبتنسيق وتأطير سياسة تربوية حضارية واضحة المعالم ، تسطر على السواء للمناطق الحضرية والقروية ، يشترك في إرساء معالمها كل ممثلي مكونات المجتمع المدني والميديا بمختلف أطيافها ، ووزارت التربية الوطنية والأوقاف والشؤون الإسلامية ، والداخلية ، والمالية ، وممثلو الأحزاب والنقابات والجمعيات بما فيها جمعيات آباء وأولياء التلاميذ . مع إعادة فرض إلزامية التعليم وإنشاء صندوق لدعم الأسر ذات الدخل المحدود ، والتكثيف من مرافق التعاون كالأندية الاجتماعية والثقافية والرياضية . وتخصيص جوائز داخل هذه الأندية والجمعيات والوداديات مع ترك هامش الإبداع وخلق فرص العمل والمواكبة ، دون أن نغفل الإشارة إلى السجون بضرورة إعادة النظر جذريا في سياستها تجاه نزلائها قصد إعادة تأهيلهم وإدماجهم في المجتمع ، بدلا من تكريس واقع أصبح مرادفا لتطبيع الإجرام والقبول به كقدر يومي للمغاربة . - باحث ومفتش منسق بوزارة التربية الوطنية سابقا