رصد أولي لمواطن القوة ومكامن الضعف إن الرهان على إصلاح منظومة التربية والتكوين هو رهان على إصلاح الدولة والمجتمع. وبالتالي، هو رهان يهم الجميع ويتطلب تعبئة وانخراط الجميع، لأن إصلاحا من هذا القبيل، وبهذا العمق الاستراتيجي، يمكن أن يرهن مستقبل بلد بكامله، ويمس في العمق بناء شخصية التلميذ/المواطن المغربي. وعليه، وجب التأكيد أن إصلاح منظومة التربية والتكوين ليس إصلاحا لقطاع معزول عن البناء الاجتماعي العام، وإنما هو إصلاح لقطاع يتفاعل بنيويا ووظيفيا مع باقي القطاعات السوسيومهنية والاقتصادية والثقافية والسياسية، مما يقتضي اعتماد مدخل النقاش العمومي الواسع والبناء في مقاربة كل قضايا التربية والتكوين عبر التعاطي مع أسئلة الإصلاح بروح تشاركية صادقة منفتحة على مختلف الفاعلين التربويين والمهنيين والاقتصاديين والاجتماعيين والسياسيين...، باعتبارهم الرقم الأثقل في المعادلة المتحكمة في إنجاح أو إخفاق كل تصور أو رؤية للإصلاح. وانطلاقا من التوجيهات الملكية القاضية بضرورة إجراء وقفة موضوعية مع الذات، لتقييم منجزات المنظومة، وتحديد مكامن ضعفها واختلالاتها، واستحضارا لتطلعات وانتظارات مختلف أطياف المجتمع المغربي المشاركة في الاستشارة الموسعة، تمكنت الوزارة الوصية من إعداد معالم أولية لرؤية الإصلاح في أفق 2030، استنادا إلى مشروع تربوي جديد يسمح بتغيير المدرسة المغربية لتمنح، بشكل منصف، لكل المواطنين تعليما وتكوينا ذا جودة، مرتكزا على القيم والمبادئ العليا للوطن، ولتأهلهم للاستعداد للمستقبل، والانفتاح، والمساهمة الفاعلة في بناء الرأسمال البشري. ومساهمة منا في إثراء النقاش العمومي حول هذه الرؤية، سنحاول تسليط الضوء على مواطن قوة هذه الرؤية ومكامن ضعفها، بكل تجرد وموضوعية، آملين في إبراز الجوانب الإيجابية، وإثارة التهديدات والمخاطر التي يمكن أن تعوق الإصلاح المأمول مرة أخرى. إن الوزارة الوصية وهي تبني هذه الرؤية، وفق منهجية مستوعبة للتوجهات الإستراتيجية الوطنية (الدستور، الخطب الملكية، الميثاق الوطني،البرامج الحكومية،...)، ومدمجة لنتائج وخلاصات مختلف التقارير والتقويمات الوطنية والدولية حول اختلالات المنظومة، وبإشراك موسع لمختلف الفاعلين والمتدخلين والشركاء بمن فيهم التلاميذ. وبغض النظر عن المنهجية التي أطرت هذه الاستشارة والنتائج التي أفضت إليها، تكون الوزراة بهذه المبادرة، قد تجاوزت ضعف الإشراك الذي اعترى البرنامج الاستعجالي، وما نتج عنه من ضعف في الانخراط والالتزام بتنفيذ مقتضياته. إن بلورة هذه الرؤية المستقبلية، وفق مدى زمني يتجاوز الزمن الحكومي، يضع ولأول مرة، ورش التربية والتكوين على سكة التدبير الاستراتيجي لقطاع التربية والتكوين، بكل ما يقتضيه الأمر من استقرار وتراكم وترصيد للمكتسبات ومعالجة للاختلالات، ومباشرة لسيرورات الإصلاح عبر منطق الأولويات، وفق مشاريع يتم تصريفها على المدى القصير والمتوسط والبعيد ضمن الأزمنة الحكومية المتعاقبة على تدبير القطاع. ويبقى انخراط الوزارة في تقاسم هذه الرؤية مع مختلف الفاعلين على المستويات الجهوية والإقليمية مصدرا إضافيا لتخصيبها، ومدخلا لبناء صورة ذهنية إيجابية حولها، أملا في تعزيز انخراط مختلف المتدخلين والرفع من معنواياتهم. إن ربح رهان الإصلاح، لن يتأتى فقط بامتلاك رؤى وتصورات مستقبلية، وخير دليل على ذلك، هو ما جاء في مشاريع الإصلاح السابقة المؤطرة بمقتضيات الميثاق الوطني للتربية والتكوين وتدابير وإجراءات البرنامج الاستعجالي ومخطط الوزارة المتوسط المدى، حيث شكلت من الناحية الفلسفية والنظرية مشاريع متكاملة وناجعة لإحداث التغيير المنشود في المجال التربوي، لكن من الناحية العملية والتطبيقية، تبين فيما بعد أن ما ورد في هذه المشاريع كان طموحا أكثر من الإمكانات المادية المرصودة للإصلاح، ومتجاوزا لقدرات وكفاءات الموارد والبشرية في موقع التدبير والتنفيذ والتأطير والمراقبة، وغير مدرك للإشكالات العميقة المتعلقة بالحكامة وفعالية الهيكلة الوظيفية ونجاعة الإطار التشريعي والقانوني المعتمدة في تنفيذ مقتضيات هذه المشاريع. إن استخلاص الدروس والعبر من تمارين الإصلاح، شرط أساسي لتحصين الرؤية المستقبلية للإصلاح من كل طموح أو طوباوية زائدة، تفقدها جوانبها الواقعية وقابليتها للتنزيل والأجرأة، وهنا وجب الإشارة إلى أن هذه الرؤية ، وبالرغم من التصريح بكونها استراتيجية، فإنها لم تنتبه كفاية لأدوات التخطيط الاستراتيجي المتمثلة في التحليلات والاستشرافات والسيناريوهات العلمية والعملية حول صيغ وآليات التربية والتكوين والشغل التي تسكن المستقبل في ظل التحولات الرهيبة التي يشهدها العالم، والتي بإمكانها مساعدة كل من المتعلم والمدرسة على تدبير واستيعاب هذه التغيرات والتحولات المستقبلية والتموقع بداخلها. إن أكبر التحديات التي تواجه مسار الإصلاح ، تكمن في البحث بالشكل المطلوب في الفرص المتاحة أمام النظام التربوي المغربي عبر الاستثمار الأنسب لتلاقي الإرادات حول تخليص ورش التربية من الترهل والتسيب، وإعطائه الأولوية بعد القضية الوطنية الأولى، والتوظيف الأنجع لرأي وخبرة المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي تفاديا لكل تنافس أو مجهودات غير منسجمة ومضرة بالإصلاح، والعمل على ترصيد الإنجازات وتعزيز المكتسبات ...، إضافة لكل ذلك، وجب الانتباه اليقظ للمخاطر والتهديدات التي يمكن أن تعصف بهذا المسار، والمتجسدة أساسا في الوضعية النفسية والاجتماعية لمورد بشري تآكل مخزون الثقة لديه في كل المبادرات الإصلاحية الأخيرة، مما انعكس على معنوياته وقابلياته للانخراط في كل إصلاح مرتقب. إن الانتباه لهذا المستوى، ضمن وسط تربوي تعقدت إشكالاته وتعمقت اختلالاته وتضررت صورته الاعتبارية أمام الرأي العام، يتطلب انشغالا حقيقيا واشتغالا فعالا لتوفير الشروط الكافية والمستلزمات الضرورية المحتضنة والمواكبة لتنزيل مقتضيات مشاريع الإصلاح. وعليه، وضمن هذا الأفق، تبدو المنهجية المعتمدة في تدبير الإصلاح في حاجة للمراجعة والضبط، عبر تقدير الجرعة الإصلاحية المناسبة لواقع المدرسة المغربية، وانتقاء آليات وميكانيزمات التنزيل الملائمة، والتركيز على الجوانب الميدانية بكل ما يتطلبه الأمر من إعداد قبلي وتحفيز للعنصر البشري وتدقيق للمهام وضبط للتعاقدات وتوزيع للمسؤوليات وربطها بالمحاسبة، والإعمال الصارم لآليات المراقبة والتقويم على مختلف المستويات والأصعدة، والحسم في موقع ووظائف وأدوار بعض الأوراش المستعرضة الضامنة للضبط والتتبع والملاءمة وهندسة المسارات، ضمن هذه الرؤية المستقبلية، والمتعلقة أساسا بجهاز التفتيش وبالمنظومة الوطنية للإعلام والتوجيه المدرسي والمهني والجامعي. -باحث تربوي