لقد أهدر مداد كثير في تناول قضية وحدتنا الترابية منذ سنة 1975 سنة انطلاق المسيرة السلمية الخضراء المظفرة والفذة والتي لم يشهد التاريخ لها مثيلا . وإذا كان لا بد من وقفات عند حلول المناسبات ، فبحلول ذكرى المسيرة لا بد من وقفة بعيدة عن السياسة وقريبة من الدين والعقيدة . فقضية وحدتنا الترابية باعتبار أمتنا أمة مسلمة مؤمنة هي قضية دين وعقيدة قبل أن تكون مجرد قضية سياسية.فالله عز وجل تعبد المؤمنين بالاعتصام بحبله في قوله تعالى : ((واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا )) وما حبل الله تعالى سوى القرآن الكريم دستور الأمة الإسلامية المتضمن لشريعتها بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل في وصف القرآن الكريم : " هو الذكر الحكيم والنور المبين والصراط المستقيم وحبل الله المتين " فالاعتصام بحبل الله هو بالضرورة التوحد المناقض للتفرق إذ قابل الله عز وجل في الآية الكريمة بين الفعل الدال على الأمر : "اعتصموا" والفعل الدال على النهي " ولا تفرقوا " . ومعلوم أن الله عز وجل قد فطر البشر على طبيعة الاجتماع كما قال سبحانه : (( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير )) فعلم الله تعالى وخبرته بالخلق جعل إرادته سبحانه أن يتعارف البشر الذي أصله ذكر وأنثى. ولقد ورث الناس عن أبيهم آدم وأمهم حواء المودة والرحمة لقوله تعالى : (( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون )) فالتفكر يقتضي منا أن نفكر في أصل نزوع الطبيعة البشرية للاجتماع وما ذلك إلا وراثة المودة والرحمة من الأب الأول والأم الأولى وراثة جينية . وعليه فالأصل في البشر التعارف وتلك فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ، أما ما تعرفه البشرية من تدابر وتفرق إنما هو أمر طارىء على الجبلة والطبيعة البشرية. وانسجاما مع الطبيعة البشرية النازعة نحو التعارف والاجتماع تعبد الله البشر بعبادات ذات طابع جماعي كالصلاة التي لا تؤدى في أصلها إلا جماعية دون أن نذكر الاستثناء وكذلك الصيام والحج وهي عبادات يجمع الله المسلمين عليها زمانا ومكانا . وهذه العبادات تساير الطبيعة البشرية النازعة إلى الاجتماع الذي يفرض التعاون لهذا قال الله تعالى : (( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب )) فالتعارف يقتضي بالضرورة التعاون على البر الذي تؤطره التقوى وهي معيار تفاضل الخلق عند الله عز وجل لقوله سبحانه : (( إن أكرمكم عند الله أتقاكم )) ذلك أن الله تعالى لم يفاضل بين خلق أصله ذكر واحد وأنثى واحدة بالجغرافيا البشرية من حيث أعراقهم وأجناسهم أو الجغرافيا الطبيعية من حيث مواطنهم وإنما فاضل بينهم باعتبار جغرافيا التقوى إن صح التعبير. والتعاون على البر بين الناس أمر أصيل ، بينما التعاون على الإثم والعدوان أمر طارىء ، ومنهج القرآن الكريم أن تتضمن أوامر الله عز وجل ما كان أصيلا في البشر بينما تتضمن نواهيه ما كان طارئا. وعندما ينقسم البشر إلى فئة تتعاون على البر وأخرى تتعاون على الإثم والعدوان تكون النتيجة هي التفرق والاختلاف الذي نهى عنهما الله عز وجل في قوله: ((ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعدما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم )) فالتفرق والاختلاف بعد مجيء البينات وهو دين الله عز وجل يسبب العذاب للبشر في عاجلهم وآجلهم . ولقد برأ الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا إذ قال سبحانه : (( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء )) فهذه براءة صريحة من الله عز وجل للمختلفين المتفرقين في الدين الذي وحدهم الله تعالى به والمتشيعين بعدما جمع الله شملهم . والتفرق إنما هو سمة وصفة الذين يشركون بالله تعالى من خلال تحكيم شرائع أهوائهم عوض شرعه سبحانه لهذا نهى الله تعالى عن التشبه بهم في تفرقهم في الدين حيث قال : (( ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون )) فتحكيم شرائع الأهواء وهو صيغة من صيغ الشرك بالله تعالى يترتب عنه التفرق في الدين والتشيع والتحزب. وتحكيم شرائع الأهواء هو الذي يجعل الجغرافيا الطبيعية والجغرافيا البشرية قبل الجغرافيا الدينية والعقدية . ولقد حذر الله تعالى عباده المؤمنين من اتباع سبل الأهواء المتفرقة عن سبيل شرعه فقال سبحانه : (( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون )) فوصية الله تعالى للمؤمنين هي تنكب سبل الأهواء الصارفة عن سبيل شرعه عز وجل . والتفرق وهو الانقسام بين اعتماد شرع الله عز وجل وشرائع الأهواء البشرية يسبب النزاع المفضي إلى الفشل وإلى ذهاب الريح لهذا حذر من ذلك الله عز وجل بقوله : (( ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين)) فالصبر المنصوص عليه في هذه الآية الكريمة هو صبر على الاجتماع والتعارف والتعاون على البر وهي أمور تقتضي المعاناة والمكابدة لوجود سلوك التنافر الطارىء إلى جانب سلوك التعارف الأصيل في الطبيعة البشرية . ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقرب منا صورة ذهاب الريح بعد النزاع بقوله " عليكم بالجماعة فإنما يأكل الذئب القاصية " كما يقول : " إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم " فمصدر شرائع الأهواء هو الشيطان الرجيم الذي يستدرج القاصي من البشر كما يختلي الذئب بالقاصية من الغنم ، كما يحث عليه الصلاة والسلام على ما نص عليه القرآن الكريم من وحدة وتعاون وتآزر في قوله : " لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخوانا " . هذا التأصيل لما يمكن أن نسميه عبادة التعارف والتعاون ونبذ التفرق يجب أن نضعه نصب أعيننا ونحن نتناول موضوع قضية وحدتنا الترابية . فالوحدة الترابية وهي وحدة الجغرافيا الطبيعية والبشرية تخفي وراءها الوحدة العقدية والدينية الواجبة شرعا بل الوحدة العقدية والدينية هي التي تفرض وحدة الجغرافيا الطبيعية والبشرية كما نص على ذلك قول الله تعالى : (( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه )) فما بين الجغرافيا الطبيعية والبشرية لزمن سيدنا نوح عليه السلام وزمن سيدنا إبراهيم وزمن سيدنا موسى وزمن سيدنا عيسى عليهم السلام ، وزمن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بون شاسع ولكن الجغرافية الدينية قربت بين هذه الجغرافيات الطبيعية والبشرية المتباينة لهذا فالذين يعتمدون الجغرافيات الطبيعية والبشرية للتفريق بين الأمة المسلمة واهمون ومخطئون ومجانبون للصواب . فإذا ما عرضنا قضية وحدتنا الترابية على شرع الله عز وجل وبعيدا عن الطروحات السياسية الصادرة عن شرائع الأهواء البشرية أدركنا أننا أمام عبادة تعبدنا بها الله عز وجل وهي عبادة التوحد والتعاون عوض التفرق لهذا فالذين يريدون الانفصال عنا يعطلون هذه العبادة لأنهم ساروا على نهج المشركين بشرائع أهوائهم وهو ما نهاهم عنه الله عز وجل بقوله : (( ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون )) لقد كانت وحدتنا الترابية ضحية مشركي المعسكر الأمريكي والمعسكر السوفياتي زمن الحرب الباردة حيث كان المعسكران يتنافسان مناطق النفوذ في دول العالم الثالث وخصوصا العالم الذي يدين بشرع الله عز وجل المخالف لشرائع أهواء المشركين . وبعد انسحاب المحتل الإسباني من صحرائنا المغربية أوعز المشرك السوفياتي لحلفائه الأشقاء في العقيدة الجزائريون الجيران الذين استبدلوا شرع الله عز وجل بشرع السوفييت وكونوا عصابة من الانفصاليين المفرقين لدينهم المتشيعين للإيديولوجيا السوفياتية الفرحين بها كما وصفهم الله تعالى ، وصادف ركوب هذه العصابة مصالح الجيران وهي الرغبة في الإطلال على المحيط الأطلسي لشحن ثروة بترولهم إلى الأمريكيتين وإلى دول غرب إفريقيا ، وهي مصالح مرتبطة بمصالح السوفييت الذين كانوا يتنافسون مع الأمريكان على القواعد العسكرية فوق تراب دول العالم الثالث . وهكذا أفرغت قضية وحدتنا الترابية من دلالتها الدينية وتم تسييسها وصارت قضية سياسية في نظر أعداء وحدتنا الترابية مع أنهم بحكم انتمائهم لعقيدة الإسلام كان من المفروض أن يحافظوا على دلالة وحدتنا الترابية الدينية ويتنكبوا تسييسها كما أوعز لهم بذلك حلفاؤهم السوفييت وملتهم الشرك . وبعد أن انهار الاتحاد السوفياتي على يد المقاومة الإسلامية الأفغانية المظفرة التي شعارها لا غالب إلا الله عز وجل ظل أشقاؤنا وجيراننا على تعصبهم للباطل ولم يثنيهم انهيار إمبراطورية الباطل السوفياتية عن باطلهم ، ومع ضياع مصالح السوفيات بانهيارهم تشبث الأشقاء والجيران بمصالحهم الاقتصادية المتمثلة في البحث عن ممر إلى المحيط الأطلسي على حساب وحدتنا الترابية مع أن المغرب طمأنهم بالمرور دون مشاكل في إطار مشروع اتحاد المغرب العربي . وجعل أشقاؤنا في الدين وجيراننا في الجغرافيا الطبيعية والبشرية من قضية وحدتنا الترابية كرة ثلج تضخمت خلال ما يزيد عن ثلاثة عقود ونصف وكانت لها انعاكاسات سلبية على مشروع المغرب العربي حيث أغلقت الجزائر حدودها كإجراء انتقامي لمجرد أن المغرب اتخذ إجراء وقائيا من عدوى العنف الذي حاولت جهات مغرضة في الجزائر تصديره للمغرب ، ولم يكن الإجراء الوقائي أكثر من تأشيرة تميز بين المواطنين العاديين والعصابات الإجرامية ، وكان من مصلحة الجزائر أن ترد على هذا الإجراء الوقائي بالمثل ، وهو إجراء متداول بين دول العالم عوض إجراء انتقامي بإغلاق الحدود وقطع الأرحام لأكثر من عقدين. ولما أحرج هذا الإجراء النظام الجزائري عمد إلى الذرائع الواهية من قبيل إبداء التخوف من تسرب المخدرات التي صارت تصدر عبر حدود الجزائر الجنوبية ومن صنف الهيروين والكوكايين ، وغير ذلك مما يعد محض ادعاءات باطلة وتهم ملفقة للمغرب لا أساس لها من الصحة من أجل التمويه لركوب قضية وحدتنا الترابية من أجل مصالح اقتصادية وتوسعية مكشوفة لا تليق ببلد يدين بدين الإسلام. وفي الوقت الذي تجمع الولاياتالمتحدةالأمريكية بين أطراف جغرافيات طبيعية متباينة ما بين صحراء قاحلة وصحراء جليدية وسهول وجبال وبين جغرافيات بشرية لأجناس مختلفة نجد جيراننا يريدون فصل أرض الوطن الواحد وأبناء الوطن الواحد الذين يدينون بدين الإسلام الموحد للمسلمين والمحرم للتفريق بينهم. وفي الوقت الذي لا توجد حدود بين دول أوروبا وتتوحد عملتها نجد الجيران يغلقون الحدود بالأسلاك الشائكة والألغام ودوريات الجيش المدجج بالسلاح دون الأخذ في الاعتبار شرع الله عز وجل الذي جعل الفشل وذهاب الريح في التنازع ، وهل يوجد تنازع أكبر من إغلاق الحدود وقطع الأرحام والإصرار على الإثم والعدوان. إن جيراننا الذين قدموا خدمة مجانية للمعسكر السوفييتي يقدمون اليوم للمعسكر الأمريكي والأوروبي الغربي نفس الخدمة المجانية بتكريس الطائفية التي يراهن عليها الأمريكان والأوربيون من أجل تحقيق ما يسمونه مشروع الشرق الأوسط والوطن العربي والإسلامي الجديد الذي يمكن للكيان الصهيوني الذي لم يستطع أن يؤمن وجوده بسبب مشروع الشرق الأوسط الذي خلقه الاحتلال الغربي خلال القرن التاسع عشر والقرن العشرين . لقد عمد الغرب إلى كل بلد مسلم وعربي قوي لتفتيته فكما فتت العراق وبثت فيه الطائفية الممقوتة اللعينة يفتت اليوم السودان كما فتت من قبل لبنان وكما شتت شمل الفلسطينيين ، وكما تفتت الباكستان. فأشقاؤنا الجيران ينتظرون من الغرب أن يطبق علينا مؤامرته المطبقة في السودان والعراق ولبنان وفلسطين والباكستان دون أن يدكوا أنهم مستهدفون أيضا بتصدير الطائفية التي بدأت رائحتها المنتنة تزكم الأنوف في منطقة القبائل حيث تنفخ فرنسا في هذه الطائفية منذ زمن احتلال الجزائر. لقد تلقف الجزائريون من الاتحاد السوفياتي فكرة تمزيق وحدة المغرب دون أن يلتفتوا إلى أن الاتحاد السوفياتي سابقا وروسيا حاليا تمنع الشيشان من الانفصال مع أنها دار شرك وكفر والشيشان مسلمون موحدون يحق لهم الانفصال صيانة لدينهم المهدد بالشرك والكفر والإلحاد . لقد ضرب الأشقاء عرض الحائط قول رسول اله صلى الله عليه وسلم : " من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه " فها هم يسفكون دماءنا لعقود من السنين بإغلاق الحدود وقطع الأرحام. ولقد آلمني رد أحد الأكاديميين الجزائريين يا حسرتاه على سؤال مذيعة على قناة مغاربية كيف ترد على حرمان أكثر من 12 ألف امرأة جزائرية تعيش في المغرب محرومة من زيارة أهلها بالجزائر، فقال دون خجل أمام هذه المأساة الإنسانية يجب ألا يتم الضغط على الجزائر بالأمور العاطفية إذ لا بد من حلول سياسية أولا . وما سماه الأكاديمي الجزائري أمورا عاطفية قال عنها الله عز وجل : (( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحد وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام )) فالأكاديمي الجزائري لم يتلق تعليمه في المساجد والمعاهد الإسلامية وإنما تلقى تعليمه في الاتحاد السوفياتي أو على أيدي من تلقوا تعليمهم من الاتحاد السوفياتي الذي هو تعليم السبل المتفرقة عن سبيل الله ، سبل شرائع الأهواء الماركسية اللينينية عوض شرع الله عز وجل . هذه هي وحدتنا الترابية من وجهة نظر شرع الله عز وجل عوض وجهة نظر شرائع الأهواء.