فاجعة أخرى تعرفها بلادنا هذه الأيام متمثلة في الفيضانات التي تجرف بعض المناطق المغربية وبالخصوص منها الأقاليم الجنوبية والجنوبية الشرقية. غضب الطبيعة هاته المرة لم يسعف، وكما هو الحال في كثير من الأحيان، ساكنة المناطق المنكوبة التي استيقظ أهلها على منازل تهدم فوق رؤوسهم وطرقات تجرف من تحت عجلات مركباتهم، وما يسمى بقناطر تتهاوى تحت ضغط السيول كقصور من ورق. أصابع الاتهام، وكالعادة في مثل هذه الحالات التي زعزعت مشاعر المغاربة وأثارت حنقهم، اتجهت في كل صوب. فمنهم من يتهم الجماعات المحلية التي لم تقم بما يلزم للتخفيف من آثار وهول السيول الجارفة، عوض تضييع الوقت والجهد والمال في أمور لا تخدم السكان، ومنهم آخرون نحّوا باللائمة على السلطة المحلية التي لم تفعّل ما يعرف بلجن اليقظة، والتي لم تقم بواجبها كسلطة وصاية للحد من تداعيات البرامج غير الموفقة التي تميز عمل الجماعات المحلية في كثير من المجالات. آخرون، وخصوصا لما أضحت صور وفيديوهات الضحايا مادة خصبة لوسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي، لم يتورعوا في لوم الحكومة التي لم تقم بما يكفي لتفعيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة. هؤلاء صوبوا فوهات نيرانهم نحو وزارة التجهيز والنقل، معتبرين أن لها اليد الطولى والمسؤولية الكبرى على ما آلت إليه أحوال طرقنا وممراتنا و أنفاقنا أو ما يمكن أن نسميه بالقناطر. فيما انبرى آخرون في تحميل الوزر الأعظم لمستعملي الطريق، وبالخصوص أصحاب عربات النقل العمومي المرخصين منهم والعشوائيين الذين، حسب رأيهم، يغامرون بتهورهم في المخاطرة بأرواح المواطنين الأبرياء . مما لا شك فيه أن مسؤولية كل هؤلاء قائمة، ولو بدرجات مختلفة. فإسعاف المتضررين والأخذ بيد المكلومين ورعاية المعوزين، كلها حالات تدخل في صميم اختصاصات هاته الدوائر وتحت مسؤولياتها للتخفيف من هول وآثار هذا النوع من الفواجع. المسكوت عنه لكن، ما لا يتكلم عنه الكثيرون في خضم الانشغال الكبير بإحصاء الخسائر الفادحة، المادية منها والبشرية، وهو الموضوع الذي ما زال مسكوتا عنه إلى حدود هذه الساعة، هو تصرف المصالح والإدارات ذات الاختصاص لدرء هذا النوع من الكوارث قبل وقوعها أو على الأقل التخفيف من وطأتها وتبعاتها. بصيغة أخرى أين نحن من البرامج والإنجازات التي ما فتئ بعض مسؤولي الإدارات العمومية يشنفون بها أسماعنا طيلة عقود من الزمن بمناسبة أو بدونها، و يرومون بذلك تسويق منجزات لم ير المغاربة من جدواها وفاعليتها إلا السراب؟ ألم تقم الدولة منذ أكثر من قرن من الزمن بخلق وهيكلة مصالح وإدارات تطورت مع مرور الوقت إلى وزارة منتدبة ثم إلى مندوبية سامية، مهمتها الأولى والأساسية هي العمل على القيام بدراسات، وإنجاز برامج لمحاربة التصحر، وتكثيف الغطاء الغابوي، والحفاظ على التربة، وتنظيم دورات مياه الأمطار عبر تعزيز تسلل الماء إلى باطن الأرض، والحد من تداول المياه السطحية التي تؤدي حتما إلى الانجراف والفيضانات؟ وتطبيقا لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة التي اعتمدتها الحكومة في مختلف خططها، وروجت لها بشتى الوسائل, أما حان الوقت، ولو لجبر خواطر المتضررين والمكلومين، لمساءلة المندوبية السامية للمياه والغابات ومحاربة التصحر عن مآل البرامج الوطني لتهيئة الأحواض المائية الذي شرع في العمل به منذ 1996، والذي هم إنجاز 1.500.000 هكتار من الأراضي المنحدرة على مدى 20 سنة. هذا البرنامج الذي من المفترض أن يكون قد أشرف على نهايته، مع ما خُصص له من موارد وميزانيات ضخمة، وحري بالجهات المسؤولة أن تعكف على تقييم جدواه، وفاعليته في إطار من الشفافية لاستخلاص ما يجب استخلاصه حاضرا ومستقبلا. الأهداف التي سطرها هذا البرنامج كانت غاية في الطموح والتفاؤل وهي : المحافظة على التربة من الانجراف، وإعادة تكوين النظم البيئية, والحد من توحل السدود, وتحسين جودة المياه والحد من الفيضانات، وتنمية الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للساكنة المجاورة. والمعروف علميا أنه يتم عبر مختلف مراحل الإنجاز القيام بتقييمات جزئية قبل اللجوء إلى التقييم النهائي في آخر المطاف لتحديد مدى ملاءمة النتائج للأهداف المتوخاة مسبقا. فما هي نتائج التقييمات المتعاقبة؟ وهل البرنامج كان فعلا يسير في الاتجاه الصحيح؟ وما تأثير التدخلات المبرمجة والممولة من جيوب دافعي الضرائب للحد من الانجراف و الفيضانات؟ الخروج من الضبابية وإذا علمنا أن المندوبية السامية للمياه والغابات تقوم، زيادة على هذا البرنامج وبرامج مماثلة، بأعمال تشجير عشرات الآلاف من الهكتارات سنويا من خلال الميزانية العامة للدولة، أو عبر الصناديق الخصوصية كالصندوق الوطني للغابات أو عبر اللجوء إلى التمويلات الخارجية المختلفة، وهو ما يفترض أن كثافة الغطاء الغابوي في تطور مطرد، وأن المساحات المشجرة الكفيلة بحماية الأراضي المائلة تؤدي أدوارها كما ينبغي للحد من تأثير الظواهر الطبيعية المفاجئة مثلما هو عليه الحال بالنسبة للفيضانات التي عاشتها بلادنا هذه الأيام. ضبابية موقف هذه المندوبية، كمؤسسة عمومية متخصصة وعريقة، احتفلت مؤخرا بالذكرى المئة لخلق أول مصلحة لها بحضور ومباركة السيد رئيس الحكومة، لا يمكن استساغتها أمام ما عاشته بلادنا من فواجع مؤخرا. و هو ما يحتم علينا، تنويرا للرأي العام واحتراما للمواطن المغربي في الإطلاع على ما ينجز من طرف مصالح المياه والغابات، مطالبة المسؤولين عن قطاع محاربة التصحر والحد من الانجراف أن يحيطوا علما إخوانهم المغاربة عن إنجازاتهم في هذا الميدان وفي ميادين أخرى ذات صلة، وعن مدى نجاعة تدخلاتهم للوقاية الآنية والمستقبلية من الآثار السلبية لمثل هذه الظواهر الطبيعية، وكذا عن طرق صرف ميزانيات كبيرة تستنزفها دراسات وأشغال أبانت عن محدوديتها أو عدم جدواها أمام ما عاشه المغاربة من أهوال لم تتناقل منه وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي إلا ما أمكن تحويله إلى أخبار، وهو فقط جزء من كل. *مهندس غابوي مختص في تهيئة المجال