احتضان المغرب للمنتدى العالمي الثاني لحقوق الإنسان شكل في حد ذاته إقرارا من الجماعة الحقوقية الدولية بالخطوات التي قطعها المغرب على درب الإصلاح في أفق تحقيق دولة القانون و المؤسسات كما اشر لذلك دستور 2011 الذي جاء في سياق الانتفاضات التي عرفتها بعض الأقطار العربية . وفضلا عن ذلك ، فقد أعادت الرسالة الملكية الموجهة للمنتدى طرح إشكالية في غاية الأهمية تكمن في نوعية المقاربة التي تسمح بإعطاء الكونية مضمونا حقيقيا يعبر عن إسهام كافة الشعوب في بلورتها وتطويرها . وهكذا في الوقت الذي أكدت الرسالة الملكية على كونية حقوق الإنسان ، و هو أمر لم يعد من الممكن التشكيك فيه ، فإنها اعتبرت أن هذه الكونية لا ينبغي أن تظل مجرد تعبير عن نمط مهيمن أو فكر وحيد ، بل يجب أن تكون في جوهرها نتاجا لدينامية انخراط تدرجي جماعي ، يتطلب إسهاما أوسع لبلدان الجنوب . بمعنى آخر لا يمكن لهذه الكتلة أن تبقى مجرد موضوع للقانون الدولي لحقوق الإنسان، بل من الضروري أن تتحول إلى ذات منتجة للمعايير الدولية لهذا القانون . في العمق ، تحيل هذه الدعوة إلى ظاهرة يشهدها التطور القانوني الإنساني ، و هي المتعلقة بما يمكن وصفه بتدويل الدساتير ، أو ما اصطلح عليه بعض الفقهاء بالقانون الدستوري الدولي . وهذه الظاهرة المتنامية هي ناجمة عن تطور قانون حقوق الإنسان ، وكذلك دولة القانون و بناء الديموقراطية. وقد أشارت الأستاذة مارتي دلماس Marty DELMAS ، وهي من أبرز أساتذة القانون الدولي إلى أن التدويل لا يعني فئة قانونية معينة ، و إنما يتعلق الأمر في العمق بصيرورة و بدينامية تعبر عن تلاقح الأنظمة القانونية بهدف تقليص الحدود بين ما هو داخلي و ما هو خارجي . لذلك ، فإن انخراط المغرب في النظام المعياري الدولي الذي يجسده القانون الدولي بكل مكوناته يعني في العمق اختيار المغرب التفاعل مع هذا الزخم الدولي . لكن لا ينبغي أن يبقى الأمر على مستوى الاستهلاك، أو النقاش المتعلق بإدماج القانون الدولي في المنظومة القانونية الداخلية ، أو ما يطرح مسالة الملاءمة بين التشريع الوطني و النظام المعياري الدولي، بل إن المغرب مدعو اليوم إلى استثمار تراكمه و تجاربه للمساهمة في تملك و إنتاج المعايير الدولية بمعية أقطار أخرى تشاطر نفس الهواجس .. وذلك ما سنفصل فيه في الجزء الأول من هذا البحث قبل الانكباب على كيفية إدراك الدستور لإدماج المعايير الدولية في المنظومة القانونية الداخلية . أولا : من أجل مساهمة مغربية مثرية لقانون حقوق الإنسان ليس ثمة شك في أن دستور 2011 قد شكل نقلة نوعية فيما يتعلق برصد العلاقة بينه و بين القانون الدولي . أكثر من ذلك فقد فتح آفاقا للاشتغال بالنسبة للفاعلين المختلفين في هذا المجال . في هذا السياق فقد نص على : _ الالتزام بحماية منظومتي حقوق الإنسان و القانون الدولي الإنساني و النهوض بهما والإسهام في تطويرهما _ حظرو مكافحة كل أشكال التمييز بسبب الجنس أو اللون أو المعتقد أو الثقافة أو الانتماء الاجتماعي أو الجهوي أو اللغة أو أو الثقافة أو أي وضع شخصي مهما كان . كما أسلفنا فإن القانون الدولي لحقوق الإنسان ، و القانون الدولي الإنساني يشكلان اليوم ما يمكن وصفه بالعمود الفقري للقانون الدولي ، ليس فقط لكونهما يحيلان إلى قضايا حيوية مرتبطة بوجود وكرامة الإنسان ، و لكن لكونهما عرفا إثراء كبيرا بفعل الجهود الدولية الرامية إلى حماية الإنسان ليس فقط في زمن القلق الذي تجسده الكوارث و النزاعات و الآفات و الحروب ، و لكن أيضا في ما يتعلق بمعيشه اليومي حيث تتكرس العلاقة بين تمتع الإنسان بحقوقه ، و ضمان الاستقرار و الأمن و الطمأنينة في المجتمع سواء منه الوطني أو الدولي . فكل إنجاز في هذا المجال هو إثراء للرأسمال اللا مادي للمجتمع . لذلك ، فإن تملك حقوق الإنسان و القانون الدولي الإنساني لا يتم دون محاربة كافة أشكال التمييز التي تجد جذورها في عوامل متعددة و متنوعة من أهمها ما هو ثقافي و منها ما هو مرتبط بالشروط المادية للمجتمع . و يزداد التمييز في شروط الأزمة الاقتصادية حيث يصبح الآخر بمثابة كبش الضحية أو الشماعة التي تعلق عليها إخفاقات المجتمع . وكذلك في شروط النزاعات و الحروب خاصة تلك التي لا يتردد فيها المقاتلون في خرق كل قواعد القانون الدولي الإنساني ، كما نلاحظ ذلك اليوم في مجموعة من المناطق كما هو الأمر بالنسبة لسوريا و العراق و بعض النزاعات في إفريقيا . لكن توسيع وصيانة كونية حقوق الإنسان لا يعني فقط انتقادها أو الانغلاق على الذات بدعوى أنها بضاعة مستوردة كما يردد البعض ، بل إن بلدا كالمغرب محكوم عليه اليوم أن يواصل مسيرته من خلال استثمار مكتسباته في هذا المجال ليصبح أكثر فعالية في المنظومة الحقوقية الدولية . و لا يقتصر الأمر على مؤسسة معينة ، بل إننا أمام ورش ما زال يتطلب مواصلة الجهود لإغنائه و تحسين مردوديته على عدة مستويات : 1 على مستوى تملك المعايير الدولية لحقوق الإنسان ، من المفيد أن نواصل إعطاء إشارة واضحة ومستدامة على ضمان الانسجام بين الخطاب الذي كرسه الدستور و الممارسة بنوع من الثبات و الإصرار . لقد تم تقديم أدوات تصديق المملكة المغربية على البرتوكول الاختياري للاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو المهينة . ولا ريب في أن التفكير في إحداث آلية وطنية للوقاية سيعزز من مكانة المغرب في هذا المجال . لكن فضاء حقوق الإنسان لا نهائي . وعلينا أن نتفاعل مع مجموعة من القضايا التي تثير النقاش . و أهمية مساهمتنا تكمن في الإتيان بأجوبة مجتمعية تشكل مقاربات جديدة . فعلى سبيل المثال لا الحصر ، فإن النقاش حول عقوبة الإعدام لا ينبغي أن يبقى محصورا بين الإبقاء أو الإلغاء ، بل لا مناص من إذكاء النقاش أخذا بعين الاعتبار مجموعة من العوامل من بينها خبرة الممارسة الدولية في هذا المجال ، و نوعية الجرائم ، و فلسفة العقوبة برمتها في سياق مجتمعي . فضلا عن ذلك ، فإن انضمام المغرب إلى المحكمة الجنائية الدولية محتاج إلى نقاش رصين . فالتصديق على معاهدة روما بعد توقيع المغرب عليها في 8 شتنبر 2000 لا ينبغي أن يبقى معلقا إلى ما لا نهاية . و من المستحب أن يفتح نقاش في هذا السياق . لأن المغرب المنخرط في الهواجس الدولية ، و المساهم في الآليات الدولية للمحافظة على السلم و الأمن الدوليين لا خوف عليه من الانضمام حتى يرفع من فاعليته , لا سيما أن المتابعة أمام المحكمة الجنائية الدولية لا تصبح ضرورية إلا إذا بينت الآليات الوطنية عجزها على القيام بذلك . و هو الأمر الذي ينتفي في بلادنا بفعل الإصلاحات التي تتم في مجال القضاء ، و التي ترمي كلها إلى إقرار ثقافة عدم الإفلات من العقاب في كل المجالات . وقد يتطلب قرار المصادقة على النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية إحالة الأمر إلى المحكمة الدستورية للتصريح بوجود ، أو عدم وجود تعارض بينه و بين الدستور وخاصة المادة 27 من ذلك النظام ، والفصل 46 من الدستور الذي ينص على أن شخص الملك لا تنتهك حرمته إن مساهمتنا الفعلية في دينامية الكونية القانونية الدولية يتطلب جهودا متواصلة على مستوى التكوين ، وخلق الخبرات الوطنية الضرورية القادرة على ارتياد الفضاءات الجديدة لحقوق الإنسان . فكما أفرز التنظيم الدولي موظفين دوليين محترفين ، فإن القانون الدولي لحقوق الإنسان قد أنتج خبراءه الدوليين الذين يسهرون على تدبير دواليب و مؤسسات و سلطات حقوق الإنسان التي تتمركز في جنيف حيث المقر الثاني للأمم المتحدة . فنحن اليوم أمام مد جارف يتجاوز النقاش السياسي فقط لحقوق الإنسان . فقضايا مثل الهجرة و البيئة و الهندسة الوراثية و الجريمة Cybercriminalité الآلية ... أصبحت تتطلب معرفة معمقة للتفاعل معها . و هذا يفترض على مستوى التكوين الخروج من الأنماط الكلاسيكية و الاستعانة بالخبرات الوطنية والأجنبية ذات الإطلاع على الإشكالات الجديدة للقانون الدولي لحقوق الإنسان. وعندما نتحدث عن التكوين لا يقتصر الأمر على المؤسسات الأكاديمية فقط , بل إن هذا المجهود ينصرف إلى المؤسسات المعنية سواء بشكل مباشر ، كالمجلس الوطني لحقوق الإنسان الذي اكتسب خبرة لا مناص من تدعيمها ، و البرلمان الذي منحه الدستور اختصاصات مهمة في مجال القانون الدولي مدعو اليوم إلى إنتاج آليات تساير هذا التوسع . و يتطلب هذا لأمر إيجاد موارد بشرية تتوفر على الرصيد و التخصص الضروريين لهذه المهمة . و ينسحب هذا الأمر سواء على البرلمانيين أنفسهم أو على العاملين في هذه المؤسسة البرلمانية . نفس الأمر ينسحب على المجتمع المدني . الذي بات يمثل رافدا فاعلا ومؤثرا في هذه الدينامية الحقوقية الدولية . في هذا السياق يبدو واضحا أن تحسين المساهمة والمردودية ، يفترض توفر دول الجنوب على منظمات غير حكومية قادرة على منافسة مثيلاتها في الغرب ، و التي تكيف من خلال تقاريرها درجة تقييم المسيرة الحقوقية للدول كما هو الأمر بالنسبة لمنظمة العفو الدولية أو هيومن روايت واتس ، أو أطباء بلا حدود .... فالمجتمع المدني ، هو بدوره في قلب المنافسة . و ينبغي أن يتمكن من الاستقلالية و الموضوعية التي تسمح له بأن يكون صوتا مسموعا و قوة اقتراحية في النظام القانوني الدولي . 3 العمل من أجل دمقرطة المنظمات الدولية نفسها المنتجة لمثل هذه المعايير وذلك لتعزيز شرعية المعايير الدولية نفسها ، وفي نفس الوقت الرفع من نجاعة العمل الدولي . . ذلك إن بناء السلم و الأمن الدوليين ليس حكرا على منطقة معينة . فهو يفتح آفاقا جديدة نحو التعاون الدولي تساهم فيه جميع الدول بكل مكوناتها ، و بالتالي قد يتطلب الأمر خلق منظمات دولية جديدة ينبغي أن تتسم بالحكامة الديموقراطية ، و تتحمل عبء الانشغالات الجديدة التي تشغل بال الأفراد عبر العالم . ثانيا : إدماج مقتضيات القانون الدولي دون الرجوع إلى النقاشات النظرية المتعلقة بالعلاقة بين النظام القانوني الداخلي ، و أساسا الدستور والقانون الدولي ، والذي كتب حولها الشيء الكثير ، فإن ما يهمنا هو رصد هذه العلاقة فيما يتعلق ببلادنا. في هذا السياق ، لا مناص من الإشارة إلى أن دستور 2011 ، الذي شكل تقدما ملموسا بالمقارنة مع دستور 1996 ، من حيث أنه أقر نوعا من الدينامية ترتكز على ثلاث محاور أساسية : المحور الأول : يتمثل في توسيع انخراط البرلمان فيما يخص تملك مقتضيات القانون الدولي الاتفاقي . في هذا الإطار نلاحظ أنه لأول مرة منذ بداية حركة الدسترة المغربية ، فقد تم تفكيك الفضل 21 الذي ظل صامدا بشكل إجمالي رغم التغيير الطفيف الذي اعتراه في دستور 1992 . لقد كان هذا الفصل ينص في فقرته الثانية على أن الملك يوقع على المعاهدات و يصادق عليها , غير أنه لا يصادق على المعاهدات التي تترتب عليها تكاليف تلزم مالية الدولة إلا بعد الموافقة عليها بقانون . و هذا يعني أن تبني القانون الاتفاقي برمته كان بين يد الملك . و ربما كان هذا الوضع من الأسباب التي جعلت المساهمة البرلمانية في المجال الاتفاقي الدولي متواضعة . و لم يكن هناك لدى البرلمانيين حماس كبير للاهتمام بهذا القطاع . على خلاف ذلك ، وسع دستور 2011 بشكل ملحوظ حجم انخراط البرلمان في هذا الميدان . فقد عدد المعاهدات التي أصبحت تتطلب الإذن بالمصادقة الضرورية لإدخالها إلى حيز التطبيق . فحسب الفقرة الثانية من الفصل 55 : يوقع الملك على المعاهدات و يصادق عليها . غير أنه لا يصادق على معاهدات السلم أو الاتحاد أو التي تهم رسم الحدود ، ومعاهدات التجارة ، أو تلك التي تترتب عليها تكاليف تلزم مالية الدولة أو يستلزم تطبيقها اتخاذ تدابير تشريعية أو تتعلق بحقوق وحريات المواطنات و المواطنين العامة أو الخاصة إلا بعد الموافقة عليها بقانون . أكثر من ذلك : للملك أن يعرض على البرلمان كل معاهدة أو اتفاقفية أخرى قبل المصادقة عليها . من الواضح أن هذا التحديد للمعاهدات التي تتطلب إذن البرلمان ليس اعتباطيا . بل إن جل الاتفاقيات المشار إليها إما تحيل إلى قضايا جوهرية ترتبط بسيادة و استقلال الدولة ،تتطلب بذلك نقاشا و التزاما من ممثلي الأمة ، أي البرلمان ، أو أنها ترتبط بمسائل مالية ، و هي كما نعرف كذلك من اختصاص البرلمان الذي يتولى الموافقة على القانون المالي للدولة ، أو متعلقة بمجال حقوق الإنسان ، وهي تدخل كذلك ضمن الاختصاص البرلماني كما نص عل ذلك الفصل 71 الذي حدد مجالات التشريع التي يختص بها البرلمان وفي طليعتها الحقوق و الحريات الأساسية المنصوص عليها في التصدير ، وفي فصول أخرى من الدستور . أكثر من ذلك ، فقد منح الدستور للملك إمكانية توسيع هذا الوعاء إذا اقتضى رأيه إشراك البرلمان في إعطاء الإذن بالنسبة لمعاهدات أو اتفاقيات لا تدخل ضمن المقتضيات . ويعني هذا المقتضى رغبة المشرع الدستوري في فتح مزيد من الآفاق في وجه المشرع العادي للانخراط أكثر في الالتزامات الاتفاقية للدولة . لكن هذا التوسيع ا لتدخل البرلمان في المجال الاتفاقي له حدوده . فمن المعروف ، أن مسطرة إبرام المعاهدات و الاتفاقيات هي بالدرجة الأولى من اختصاص السلطة التنفيذية . و لا يتم تدخل السلطة التشريعية إلا في لحظة الإذن بالمصادقة . مما يعني أن السلطة التنفيذية هي التي تقود المفاوضات و تقرر بداية التزام الدولة من خلال مسطرة التوقيع . و من ثم ، فإن هامش البرلمان يبقى ضيقا حيث لا يمكن له أن يقترح تعديلات لكون الأمر يتعلق بتصرف متفاوض عليه . و بالتالي فهو في غالب الأحيان مدعو إلى إعطاء الإذن أو رفضه . أكثر من ذلك ، فإن سلطة المصادقة تبقى حرة في أن تفعل هذا الإذن أو لا تفعله ، بل أكثر من ذلك يمكن أن تمارس المصادقة مع إبراز تحفظات لاحقة على إذن البرلمان . فعلى هذا الصعيد لا يمكن لتدخل البرلمان أن يكون منتجا إلا إذا تم إشراكه في جميع مراحل مسطرة إبرام المعاهدة . و هو أمر ليس سهلا . فضلا عن ذلك ، فإن تخصيب الدور البرلماني في هذا المجال يتطلب من البرلمان التوفر على الدعامات الضرورية لفحص المعاهدة موضوع الإذن بالتصديق في أبعادها و تعقداتها المختلفة . وهو ما يفترض ثقافة برلمانية مغايرة للتعامل بمهنية مع هذا المقتضى الجديد سواء على مستوى اللجن المكلفة بهذا القطاع ، أو على مستوى البرلمان برمته . فالأمر لا ينبغي أن يبقى مقتصرا على قانون الإذن ، بل بات من الضروري الانكباب بالعمق اللازم على دراسة حيثيات المعاهدة أو الاتفاقية ، ومعرفة مدى تواؤمها مع الدستور الذي يعتبر أعلى مرجع قانوني في المغرب . المحور الثاني يكمن في كون الدستور الحالي قد كرس بشكل واضح سمو الاتفاقيات الدولية على التشريعات الوطنية . فقد تم التنصيص في التصدير الذي يعتبر جزءا من الدستور على جعل الاتفاقيات الدولية كما صادق عليها المغرب ، و في نطاق أحكام الدستور وقوانين المملكة وهويتها الوطنية الراسخة تسمو فور نشرها على التشريعات الوطنية و العمل على ملاءمة هذه التشريعات مع ما تتطلبه تلك المصادقة . في الواقع ، فإن هذا المقتضى يطرح مجموعة من الإشكالات التي ينبغي أن نقف عندها :فمن جهة أولى ، فقد شكل تقدما واضحا بالمقارنة مع دستور 1996 الذي بقي شحيحا و متسما بالغموض فيما يتعلق بمركز المعاهدات في الهرمية القانونية المغربية . فهو يكرس مسلسل انخراط المغرب في هذه الحركية الحقوقية العالمية التي تسعى إلى إدماج القانون الدولي في صلب القانون الداخلي . لكن من جهة ثانية ، فقد ظل المشرع الدستوري حذرا . فالسمو ليس مطلقا . فهو لا ينصب إلا على الاتفاقيات التي تتوفر على شرطين : المصادقة عليها من طرف المغرب ارتكازا على المسطرة التي أشار إليها الدستور نفسه ، و التي تعطي للملك هذا الاختصاص باستثناء تلك التي تتطلب إذن البرلمان . ثانيا : النشر في الجريدة الرسمية . ويعني ذلك أن الدولة لا تلتزم إلا بالمعاهدات التي قبلت الخضوع بمحض إرادتها لمقتضياتها . .و قد تقرن المصادقة بتحفظات إذا كانت المعاهدة نفسها تسمح بذلك . من جهة ثالثة ، فإن هذا السمو يوحي ، وكأنه لا ينطبق إلا على شكل من الالتزامات التي تتم في شكل معاهدات و تفرض مسطرة التصديق . مما يعني إخراج نوع آخر من الالتزامات من هذه الدائرة . ويتعلق الأمر بمجموع الالتزامات التي لا تخضع لمسطرة المصادقة لكونها تنتمي الى مجموع الاتفاقيات التي تتم بصيغة مبسطة Accords en forme simplifiée . ومن ثم يطرح السؤال عن ومركز هذا النوع من الالتزامات فيما يتعلق بالهرمية القانونية للمغرب ، علما منا أن اتفاقية فيينا المتعلقة بالمعاهدات لسنة 1969 لم تقر أي تمييز بين هذه الأنواع من الالتزامات الدولية . علاوة على ذلك ، و على شاكلة مجموعة من الدساتير لم يتطرق الدستور المغربي الحالي لمركز بعض التصرفات التي ترتب آثارا قانونية كما هو الأمر بالنسبة للأعراف و التصرفات الانفرادية للمنظمات الدولية ، على شاكلة قرارات مجلس الأمن التي تتخذ بالخصوص في إطار الفصل السابع التي تفرض التزامات دولية على الدول بدون أن تخضع لأية مسطرة للمصادقة . على مستوى آخر ، فإن هناك نوعا من التقييد الذي أحدث نوعا من الغموض و لم يكن ضروريا ، و هو القاضي بأن هذا السمو ينبغي أن يتم في نطاق الهوية الوطنية الراسخة . فهذه صيغة مبهمة قد تفتح المجال أمام تأويلات قد تضعف من قوة هذا المقتضى . ففي اعتقادنا كان من المستحسن الاكتفاء بأحكام الدستور باعتباره المرجع القانوني الأعلى ، و المحدد للهوية المغربية . و أخيرا يكمن المحور الثالث في كون الدستور الحالي قد وضع حدا للغموض الذي كان قائما فيما يتعلق بالجهة الموكول إليها الحسم في المعاهدات التي قد تثير جدلا فيما يتعلق بتلاؤمها مع الدستور . لقد ظلت الدساتير السابقة تشير إلى انه في حالة وقوع تعارض بين مقتضى في التزام دولي و الدستور يتم الحسم فيه بنفس أشكال مراجعة الدستور . لقد وضع الدستور الجديد حدا لهذا الغموض عندما منح المحكمة الدستورية صلاحية الحسم في مقتضى دستوري هل يخالف الدستور أم لا ، و ذلك على إثر إحالة من طرف الملك أو رئيس الحكومة أو رئيس مجلس النواب أو رئيس مجلس المستشارين أو سدس المجلس الأول أو ربع المجلس الثاني . فإذا صرحت أنه غير دستوري ، فلا بد من مراجعة الدستور حتى يتسنى إدماج هذه الاتفاقية في النظام القانوني المغربي . إلى جانب هذا التوضيح المتعلق بالجهة المختصة بالحسم في التعارض المحتمل بين الدستور و اتفاقية دولية ، هناك توضيح آخر يتمثل في كون الهرمية الدستورية باتت متسمة بنوع من الوضوح . فالدستور هو أعلى مرجع قانوني . و لا يمكن للقانون الدولي أن يستنبت في الفضاء القانوني الداخلي إلا إذا كان متلائما مع الدستور . فعلى خلاف ما يردد البعض ، فإن المعاهدات تأتي بعد الدستور و القانون التنظيمي . لكنها تسمو على القانون العادي . على هذا المستوى ، فإن المحكمة الدستورية التي ستعوض المجلس الدستوري بمجرد تنصيب أعضائها لم تعد مقتصرة كما كان الشأن سابقا على البعد الداخلي ، بل أصبحت أداة من أدوات التدبير القانوني للنشاط الخارجي للمغرب . و هذا يتطلب كذلك ضرورة توفير موارد قادرة على استضمار و استحضار هذا البعد الذي يندرج كما أشرنا ضمن الدينامية التي تعرفها علاقة بلادنا بالمجال الخارجي . أكثر من ذلك ، فقد وسع المشرع الدستوري من اختصاص المحكمة الدستورية ، عندما مكنها حسب الفصل 133 من النظر في كل دفع متعلق بعدم دستورية قانون أثير أثناء النظر في قضية ، وذلك إذا دفع أحد الأطراف بأن القانون الذي سيطبق في النزاع يمس بالحقوق و الحريات التي يضمنها الدستور . و تكمن أهمية هذا المقتضى في الإقرار الضمني أنه بالرغم من المراقبة الدستورية للقوانين ، فإنه من الممكن أن تصدر قوانين تكون بعض مقتضياتها غير دستورية ، و ذلك لكون الأطراف التي لها اختصاص الإحالة إلى المحكمة الدستورية( المجلس الدستوري سابقا )لم تقم بذلك . فضلا عن ذلك ، فإن هذا المقتضى ينخرط في ثقافة الملاءمة عبر القضاء الدستوري . وقد يطرح أمام المحكمة الدستورية إشكالية معرفة ما إذا كانت مختصة في النظر في مواءمة قانون ما لمقتضيات معاهدة أو اتفاقية مصادق عليها من طرف المغرب هو أمر قد يضع اجتهاد المحكمة أمام المحك . ويتطلب الأمر التسريع بإصدار القانون التنظيمي الذي ينظم هذه العملية التي قد لا تخلو من تعقيدات ، و لكنها في العمق ترمي إلى ترسيخ الحقو ق و الحريات التي تشكل عماد دولة القانون . صفوة القول ، إن دستور 2011 مثل تقدما واضحا فيما يتعلق بضبط العلاقة بين القانون الداخلي والقانون الدولي . صحيح ، أنه لم يحسم في جميع القضايا الإشكالية ، لكن من الواضح أن الآليات التي قررها ستمكن من التصدي لعدد من الإشكالات إذا تمكن المتدخلون في المجال السياسي و الحقوقي و المدني من طرح تلك المقتضيات تحت مجهر الاجتهاد الدستوري الذي من المؤمل أن تلعب المحكمة الدستورية ضمنه دورا مهما نأمل أن يبقى وفيا لتأويل ديموقراطي لمقتضيات الدستور