عندما كنا عظاما نخرة في قبور تزممارت، لم يكن ذكرنا يثار إلا عند أحد بعض جهابذة القمع حين كان يهاتفه المدير، المسمى قيد حياته القاضي، فيقول له بلغة مشفرة: مون جنرال، تهرست واحد كوكا (أي بمعنى، مات أحد السجناء) فيجيب الجنرال بعد أن يعب الدخان مليا من سيجاره: رموا الشقوفة... (أي ألقوا بالجثمان في حفرة). ثم يرجع إلى كلبه المدلل ليربت على شعره النظيف المعطر، وكأن شيئا لم يكن. هكذا كنا إذن في نظر من كانوا مسؤولين على هذا الوطن، مخلوقات أحط شأنا من كلب زينة يشرب الماء المعدني، ويستحم في الجاكوزي، ويأكل في وجبة واحدة ما كنا نأكله نحن جميعا في أسبوع...وبطبيعة الحال، لما قامت الإدارة المغربية بإحصاء السكان، لم يستطع أحد من الموظفين أن يتخطى عتبة العنبر لسببين اثنين، أولهما أننا كنا كائنات مشوهة، أقرب إلى الموت منها إلى الحياة، تتواجد في بقعة ملعونة من الثلث الخالي المغربي، الداخل إليها مفقود والخارج منها موءود. بمعنى أن الحكم علينا بالإعدام كان قد صدر عقب اجتماع قصير في غرفة مكيفة في الرباط الرسمي، وأن أمر تنفيذه وُكل إلى الزمن كي يكون العذاب أشد وأنكى وهو يدفع على شكل فواتير مقسطة بعدد دقائق الليل والنهار. وثانيهما أن رائحتنا القوية الزاكمة، كانت قمينة بقتل شعب من الخنازير البرية والبحرية... لأجل ذلك لم يطلنا إحصاء لأننا بكل بساطة، كنا في عداد الموتى... ولما مكَر البشر ومكَر الله وهو خير الماكرين، خرج ما تبقى منا إلى الوجود كما يخرج الجمل من سَمّ الخياط، وهنا وقف فضول، شيخ الجلادين، الأستاذ المبرز الخبير في علم تحطيم الأرواح وطحن العقول والأكباد، فأفتى علينا وصاياه السبع: 1)إن سألوكم أين كنتم طوال كل هذا الوقت، فقولوا كنا معززين مكرمين في ثكنة عسكرية دأبنا فيها على حفظ القرآن والأحاديث النبوية الشريفة. 2) من "عميت له الزجاجة" وتكلم بغير ذلك فقد ثكلته أمه إن كانت قد بقيت له أم... 3) إياكم والصحفيين... فإن الصحفيين أعداء من لا أعداء له... 4) إياكم والمنظمات الحقوقية، فإنها تدعو دائما إلى الفتنة والضلال، وهي على عكس المخزن، جماعات مفيوزية لا تضمن لقاصدها حقا ولا ترد عنه ضيما. 4) إياكم أن تتحدثوا مع أقرب أقربائكم عن تزممارت... وإن فعلتم، فإن لنا آذانا حساسة تلتقط دبيب النمل في الليلة الظلماء، ولنا عيون ساهرة ترصد البعوضة إن تثاءبت والبقة عن عطست، ونحن بهذا سنعلم ما توسوس به أنفسكم وما ستصعد به وتهبط أنفاسكم، ويا ويل من حاد عن نهجنا القويم الذي لكم حددناه... 5) آمنوا كما نومن نحن بأن تزممارت لا توجد إلا في أوهام أعداء ديمقراطيتنا الرشيدة، وهي بالتالي غير موجودة في خريطة المغرب، ومن ادعى ذلك فهو كذاب أشر يستحق أن يرجع إليها بغير إبطاء... 6) كلوا واشربوا وتمتعوا بنعم الحياة، ولا تلتفتوا إلى الماضي أبدا، وإنما انظروا إلى المستقبل واستبشروا واضحكوا وتفاءلوا، فإن التفاؤل ينعش الروح ويقوي عضلات القلب. 7) إن التزمتم بما نوصيكم به، فسوف يغنيكم المخزن من فضله إن شاء.وإن بقيتم على ضلالكم القديم، فلقاؤنا معكم سيكون على متن مروحية أو على شفا جرف هار لنرميكم في قرار بحر عميق طعاما شهيا لحيتان مغربية أصيلة. ألا هل بلغت؟... اللهم فاشهد... ومرت الأحداث تباعا ووقع في ساحة المغرب ما وقع، وبقينا نحن ننتظر الذي يأتي والذي لا يأتي بعدما أخلف المخزن وعده وتركنا عبئا ثقيلا على أسر كانت ولا زالت تضمن لقمة يومها بالكاد. ولما تبدل الحال غير الحال، وأصبح المغرب مضرب المثل في الخروقات السافرة لحقوق الإنسان، تحركت المنظمات الحقوقية الوطنية والدولية بقوة ونجاعة، فما كان من المسؤولين إلا أن خفضوا الجناح على مضض، فكان ما كان من أمر صرف 5000 درهم كمبلغ شهري مؤقت. وفي نهاية سنة 2000 قامت الدولة بتعويضنا عبر لجنة كانت بالنسبة لنا الخصم والحَكم، إذ فعلت ما شاءت حيث فكرت وقدرت لوحدها دون إشراك أي طرف من المدافعين عن الضحايا. وذلك ما جعل التفاوت صارخا في بعض الأحيان بين أسيرين يتماثلان في الرتبة ومنطوق الحكم ونوعية الأمراض، هذا دون الخوض في مقارنة عبثية بيننا وبين الإخوان بوريكات الذين جاؤوا إلى المعتقل بخمس سنوات بعدنا، لكنهم عوضوا أكثر منا بعشرات المرات، لا لشيء سوى لأنهم يمتلكون الجنسية الفرنسية. وليس هذا بالغريب علينا بعد ما خبرناه من قضية رفيقنا الملازم الطويل الذي عُبئت في سنة 1983 قافلة طبية كاملة لإنقاذه من دوننا بسبب زواجه من سيدة أمريكية. وما دمنا نتطرق هنا لوسخ الدنيا، فإننا نشير مؤكدين بأن مال الأرض كله لن يعوض شباب إنسان واحد، ناهيك عن أرواح العشرات الذين قُتلوا قتلا جاهليا بعدما نكّل بهم الجلادون تنكيلا مبرحا بُرمج على عدد دقائق العشرين سنة التي قضوها في جحيم الدنيا ذاك. لهذا، مهما تبجح صياصية المجلس الوطني لحقوق الإنسان ومن يوالونهم من المغرضين باستكثار التعويضات التي منحت لنا، فإنهم سيخجلون حتما إذا ما ذكرناهم أمام الملأ بأن ساعتين اثنتين من هز بطن المغنية شاكيرا في إحدى حفلات "موازين"، يعادل تعويض عشرين ضحية في تزممارت... ألم تختل في المغرب الموازين بفضيحة "موازين"؟ فكم يحلو "للمناضلين القدامى" الذين كانوا بالأمس يملئون الأرض صراخا وتهريجا حول المبادئ والقيم، الدخول اليوم ب"شكاراتهم" المنتفخة إلى الأسواق المشبوهة دون أن يرف لهم جفن، للمضاربة في أرصدة الماضي ومقايضة كل قيمة إنسانية نبيلة بمال... نحن أيها السادة، لم نتاجر بماضينا، ولم نفرض على الدولة أن تعطينا لا ملايير ولا ملايين كما يتهمنا بذلك البعض، وإنما طلبنا منها شيئا في حدود الحق والمنطق والمعقول، يتمثل في سكن لائق وتغطية صحية كاملة وتقاعد شهري يحفظ كرامتنا ويقينا شر السؤال. فهل يسمى هذا ابتزازا؟ هل كان الأمر سيكون هكذا لو كنا في بلد ديمقراطي يحترم مواطنيه ويضحي بالغالي والنفيس للحفاظ على سمعته بين الشعوب؟ إن ما صرفه المسؤولون لنا باليد اليمنى، استرجعوه بعد عام باليد اليسرى بعدما حبسوا عنا ال5000 درهم التي قنعنا بها على هزالتها واعتبرناها تقاعدا. وهكذا وجدنا أنفسنا ونحن في أرذل العمر، نبيع كل ما اقتنيناه لكي نسد به رمقنا ورمق أبنائنا، فذاب تدريجيا كل ما لدينا كما تذوب كويرة الثلج تحت لفح الشمس القائظة، وأرجعنا المخزن بذلك إلى نقطة الصفر، وكأنه لم يغفر لنا انفلاتنا من قمقم تزممارت، فآل على نفسه ألا يدعنا إلا ونحن مجاذيب نهيم على وجوهنا من وطأة الخصاص ونأكل خبزا حافيا بمرارة وطعم الدم والوحل والروث. لقد كنا ساذجين حقا لما آمنا بسراب هيأة الإنصاف والمصالحة، وكنا بالأحرى أكبر المغفلين لما اعتقدنا أن مجيء شخص كان يُشهد له بالنقاء والصفاء وحسن الطوية سيضع حدا حاسما لمعاناتنا الطويلة، لكن ما أن قضى منا وطره حتى قلب لنا ظهر المجن بعدما استحلى الأضواء المنافقة والكراسي الوثيرة والأجور الوفيرة. وحين أتى من خلفه، أخذته العزة بالإثم، فتسامى وتعالى وتكبر وتجبر وتضاخم وانتفخ إلى أن أحدث فيه المخزن ثقبا مفاجئا فصغر وتضاءل وانقلب إلى حجمه الصغير ليرمى به بعد ذلك إلى مطرح المتلاشيات منديلا مثقوبا ملوثا بألوان الحسرة وأصباغ الندم. ثم جاء تابعا التابعين وقد كان لهما قبل ذلك الأوان في الدفاع عن حقوق الإنسان رصيد، ولم نستبشر بمجيئهما خيرا قط، لأن الأيام علمتنا أن من يقفز بسرعة من خندق إلى آخر، يكون أشد قسوة وغلظة على أصدقائه القدامى من أي مسؤول ترعرع في حضن الإدارة وشرب لبنها حتى التخمة. وكذلك كان، إذ ما لبثا أن سارا على نهج الأولين وأبانا عن مقدرة كبيرة في المراوغة وتوزيع الوعود الكاذبة، فأعطيا وهما في بداية مشوارهما السعيد، محاضرات مستفيضة حول فضائل التشاور والتواصل والحوار، وما أن استقامت لهما الأمور وبدت عليهما آثار الرفاهية والنعيم، حتى أعرضا بجنبيهما وصار الوصول إليهما يعسر مرة بعد أخرى إلى أن أصبح أمرا عزيز المنال. وبعد سنتين من تعيينهما، تفتقت عبقريتهما العظيمة عن حل لم يتشاورا فيه بالطبع مع أحد، تمثل في قائمة اشتملت على 250 ضحية، جُمع فيها بين من حكموا بالسجن سنة وعشر وعشرين، فوضعوا كلهم على قدم المساواة كما يوضع الفجل واللفت والبطاطس والطماطم والقرع في سوق لبيع الخضر بالجملة، فقضوا بأن يُعطى لكل ضحية شقة من السكن الاقتصادي، هي بالأحرى علبة ضيقة حرجة ارتأوا أن تكون على شكل زنزانة تكمل فيها الضحية ما تبقى من عمرها كما بدأتها في زنزانة. فقبل بها على هونها وما تنطوي عليه من تهكم واحتقار نفر، وزهد بها نفر آخر، وما أن بدءا في توزيعها حتى تعطلت عجلتهما ووقفا في مستهل الطريق شامتين متشفين ولسان حالهما يقول إمعانا في التنكيل والإهانة: حتى هذه لن تأخذوها إلا وأنتم تتوسلون وتزحفون على بطونكم كالحشرات ... "هادا سلا، هادا حوانتو" كما يقول المثل العامي... هذه هي حقوق الإنسان كما يتبجح بها المسؤولون ويطبلون لها ويزمرون فوق السطوح والشرفات وفي كل المحافل والمنتديات... لقد أصبح جليا واضحا أن هيئة حقوق الإنسان وما سبقها من الهيئات واللجن، ما أنشئت إلا بفعل قوة الأحداث وشدة الإكراهات التي أرغمت السلطات على بسط الخد في انتظار مرور العاصفة. أما النية السياسية الصادقة لطي الملف بصفة نهائية فليست سوى سرابا يحسبه الظمآن ماء... وهاهي ذي العاصفة قد أدبرت إلى حين رجوعها في يوم سيكون شره مستطيرا، وها هي ذي جحافل ماضي الرصاص قد عادت بخيلها ورجلها لتدك بحوافرها ما نتأ من الرؤوس المطالبة، ولتمسح بنقعها جميع المكاسب والإنجازات المتواضعة. فلم يبق للتوصيات أثر، ولم يعد للإدماج خبر، وصارت وعود البحث عن هويات المغتالين وإنشاء المتاحف وتأهيل المناطق المتضررة بالقمع مجرد نكتة يقهقه لها المسؤولون في ردهات المجلس الموقر كلما أقيمت حفلة باذخة أو ندوة بائخة... فطيبوا نفسا أيها "المناضلون" القدامى، وعِدونا بالعُلب، واشربوا على جثثنا النخب، واشمتوا فينا، وانعتونا بالمرتزقة، أنتم الذين لا ترتزقون،وامرأوا واهنأوا وتمتعوا إلى أن يأتي يوم ليس عنكم مصروفا... وقولوا لرجال الإحصاء، لا تحصونا فنحن لم نعد من هذا الوطن، إذ أصبحنا أقرب إلى الأموات منا إلى الأحياء، وأرواحنا بفضل غلوكم وعسفكم وتواطئكم بقيت في تزممارت معلقة بين الأرض والسماء... وشكرا جزيلا على نباهتكم وذكائكم ودهائكم وشطارتكم، وتيقنوا أن أرواح من راح ستبقى معلقة في رقابكم إلى يوم الدين...