ماذا نسمي هذا العصر؟ وما هي التغييرات الاجتماعية الواضحة في عصرنا التي تميزه عن العصور السابقة؟ أكيد أنه ليس بعصر المعلومات كما نسمع، بل شيء آخر، إنه عصر الوحدة. قال توماس هوبز إنه في الحالة الطبيعية، أي قبل نشأة السلطة، كنا نشارك في حرب "الإنسان ضد الإنسان"، لقد كنا مخلوقات اجتماعية منذ البداية، ثدييات تعتمد كليا على بعضها البعض، وتختلف بشكل كبير عن أي نوع من الأنواع الأخرى من الكائنات، والسبب حاجتنا للتواصل مع الآخرين، لكن الفترة التي ندخلها آخر العمر، لا تشبه أي سنة من السنوات التي مرت علينا من قبل. قبل ثلاثة أشهر ظهرت أخبار تتحدث عن أن الوحدة أصبحت وباءً بين الصغار والبالغين، أما الآن، فنعلم أنها مجرد فتنة كبيرة تصيب كبار السن. هناك دراسة أجرتها جمعية ''العمر المستقل'' تبيّن أن الشعور بالوحدة الشديدة في انكلترا آفة يعاني منها 700 ألف من الرجال والنساء، وهي نسبة ترتفع بسرعة مذهلة. الإيبولا غير مرجح على الإطلاق لقتل أكبر عدد من الناس كما يفعل مرض الوحدة، فالعزلة الاجتماعية تعتبر سبباً قوياً للوفاة المبكرة، إنها بمثابة تدخين 15 سيجارة في اليوم. كما تشير البحوث إلى أن الشعور بالوحدة يملك انعكاسات مضاعفة لما تفعله السمنة. أما ارتفاع ضغط الدم، وإدمان الكحول وأشياء أخرى كالاكتئاب وجنون العظمة والقلق والانتحار، فتصبح أكثر انتشاراً عندما ينقطع التواصل مع العالم الخارجي والمحيط، فنحن كائنات لا يمكنها العيش وحدها. أُغْلِقت المصانع، وفضّل الناس السفر بالسيارة بدلاً من الحافلات، وفضلوا استخدام اليوتيوب بدلاً من السينما، لكن هذه التحوّلات لا تفسر وحدها سرعة الانهيار الاجتماعي في مجتمعاتنا، فقد رافق هذه التغيرات الهيكلية تغيرات أيديولوجية، وهي غالبا ما تفرض وتحتفل بعزلتنا الاجتماعية. لقد صارت الحرب في هذا الزمن هي حرب من كل رجل ضد كل رجل، هي حرب المنافسة والفردانية، حتى صارت هي الدين الأول في عصرنا، تبرّره أسطورة الحارس الوحيد، والتاجر الوحيد، وتفضيل عيش الحياة بشكل منعزل عن الآخرين. رغم أننا مخلوقات اجتماعية، لا يمكن أن تزدهر بدون الحب. لم يعد طموح الأطفال البريطانيين يرقى إلى أن يكون سائقي القطارات أو ممرضات، فمجموعة كبيرة ممّن شملتهم الدراسة يقولون إنهم "يريدون فقط أن يكونوا أغنياء"، أي أن الثروة والشهرة هي الطموحات الوحيدة ل 40٪ من الذين شملهم الاستطلاع. إن إحدى النتائج الأكثر المأساوية للشعور بالوحدة، هو أن يلجأ الناس إلى أجهزة التلفزيون الخاصة بهم لتمضية الوقت. وقد اعترف عدد كبير من كبار السن ممّن شملتهم إحدى الدراسات، أن الإله ذو العين الواحدة هو شريكهم الرئيسي، وهو التلفزيون. وقد تسبب هذا التطبيب الذاتي في تفاقم شعورهم بالوحدة، رغم أن بحثاً آخر أشار إلى أن التلفزيون يساعد على رفع نسبة الشعور بالطموح التنافسي. كما وجد الباحثون أن أولئك الذين يشاهدون التلفاز كثيراً، يكونون أقل رضا عن مستوى الدخل الخاص بهم من أولئك الذين يشاهدون هذا الجهاز وقتا أقل. فالتلفزيون يسرّع تفريغ المتعة، كما يجبرنا على السعي أكثر وراء البحث عن مستوى معين من الارتياح، لذلك يصبح الإنسان مجبراً على التفكير في الأشكال التي لا تعد ولا تحصى من تحصيل الشهرة والثروة. ما هي الفائدة إذن؟ ماذا نكسب من حرب الجميع ضد الجميع؟ منافسة معدلات النمو مثلا؟ ولكن النمو لم يعد يجعلنا أثرياء. نشرت أرقام هذا الأسبوع، تؤكد أنه في حين ارتفع الدخل لمدراء شركات الولاياتالمتحدة، انخفضت أجور القوى العاملة ككل من حيث القيمة الحقيقية خلال العام الماضي. فحتى لو كانت المنافسة تجعلنا أكثر ثراءً، فهذا لن يجعلنا أكثر سعادة. وقد أكدت دراسة أجرتها كلية بوسطن للأشخاص الذين يربحون قيمة صافية قدرها 78 مليون دولار، أنهم أيضا يعانون من القلق وعدم الرضا والشعور بالوحدة. وكثير منهم أكدوا شعورهم بعدم الأمان مالياً، فللوصول إلى مرحلة الأمان، يعتقدون أنهم في حاجة إلى ما يقرب نسبة 25٪ إضافية من المال الذي يتوفرون عليه. لقد تدهورت أوضاع حياتنا، استسلمت حرياتنا وآفاق اطمئناننا إلى قوى القهر، وصار مذهب المتعة مغموما جدا، فبعد أن يُستهلك كل شيء، نبدأ نحن في افتراس أنفسنا، باختصار لقد قمنا بتدمير جوهر الإنسانية: العلاقات الاجتماعية. نعم، هناك مسكنات ذكية وخطط جديدة مثل وضع الرجال في ملاعب لكرة القدم، وهي حلول أنشأتها الجمعيات الخيرية لعزل كبار السن. ولكن إذا أردنا أن نكسر هذه الحلقة ونعيش معا مرة أخرى بشكل أفضل، يجب علينا مواجهة نظام نحن من صغناه ونحن من تسببنا في استفحاله، إنه نظام الوحدة.