بعد التغيير الحكومي الجذري والمهم الأخير الذي حدث في إسبانيا، كان لابد لنا أن نتوقف عند هذا الحدث المهم بالتمعّن أولا ثم بالتحليل المنهجي الأكاديمي ثانيا. لعله من سوء حظ الحكومة الاشتراكية في إسبانيا، و من سوء طالع رئيسها "خوسي لويس رودريغيز ثباثيرو" أن رئاسته للحكومة الإسبانية تزامنت مع الأزمة الاقتصادية العالمية و التي عانت و تعاني منها إسبانيا الأمرّين، و لو لم يكن هذا التصادف فربما لأعتبر "ثباثيرو" بأحسن و أنجح رئيس إسباني في تاريخ الديمقراطية في إسبانيا. وأمام هذا الوضع اضطر رئيس الحكومة الإسبانية أن يقوم بتعديل حكومي هو الأول من نوعه بهذا الشكل و بهذه الأهمية، رغم أنه سبق و أن أدخل تعديلات جزئية وزارية إلا أنها لم ترقى إلى أهمية التعديل الأخير نظرا لظرفية تزامن هذا التعديل أولا، ثم لحجمه و وجوهه الجديدة ثانيا. فلماذا هذا التعديل الحكومي و الآن بالضبط ؟؟؟ أغلب توقعات مكاتب الدراسات في إسبانيا تعطي فوزا ساحقا للحزب الشعبي المعارض و بأغلبية مطلقة إذا ما تمت الإنتخابات الآن، و الدراسات الإحصائية في مثل هذه الدول هي المحرار الذي تقاس به حرارة و فعالية السياسات الحكومية و أثرذلك على شعوبها، و على أساس هذه الدراسات التوقعية ترسم السياسات الجديدة و تتخذ القرارات المصيرية و الهامة للأمة. وأمام هذه النتائج و الأرقام السلبية للحزب الإشتراكي الحاكم إضطر الرئيس للقيام بتغيير حكومي جذري ، هو الأهم في تاريخ و لاية الرئيس "خوسي لويس رودريغو ثاباثيرو". فماذا يعني هذا التعديل ؟؟ هذا التعديل يمكن قرائته من خلال مقاربتين إستخلاصيتين. المقاربة الأولى: و تتمثل في جرأة هذا التعديل الحكومي نفسه و الذي شكل مفاجئة كبرى لكل المتتبعين بدون إستثناء، حيث ثم إخراج وجوها قيادية من الحكومة مثل وزير الخارجية "موراتينوس" و نائبة الرئيس "دي لافيغا" و اللذان يعتبران من صقور الحزب الإشتراكي، و شكلا الأساسات و الدعامات الرئيسية لسياسة الحكومة الإشتراكية بقيادة "ثاباثيرو" منذ البداية، هذا التعديل المفاجئة و الإستثنائي في الحكومة الإسبانية فهو إن دل على شيئ فإنما يدل على أن رئيس الحكومة الإسبانية، الذي هو نفسه رئيس الحزب الإشتراكي، يحكم و يقرر و يملك زمام الأمور في حزبه و في الحكومة الإسبانية التي يشكلها، يدل على أن الرئيس كاريزماتي الطبع و يتحمل المسؤولية الكاملة، على غير العادة في أحزاب بعض الدول المتخلفة التي لا يجرأ الرئيس فيها على المس ببعض الوجوه و إلا إنقلبو عليه و فكو الحزب أو إلتحقو بحزب آخر. كما أنها شجاعة و جرأة كبيرة ل "ثاباثيرو" في تعيين إمرأة شابة في 34 من عمرها حقيبة وزارية جد صعبة كوزارة الصحة، الأمر يتعلق بوزيرة الصحة الجديدة "لييري باخين"، و لعله درس لبعض أحزاب الدول المتخلفة التي مازالت تصنف مناضليها في قطاع الشباب حتى سن الأربعين. المقاربة الثانية: هو الهدف و المسعى من هذا التغيير، فهذه الحكومة نعتبرها حكومة طوارئ إنتخابية بكل المعايير، سواء في تقليص عدد الحقائب الوزارية أو من خلال الوجوه الجديدة الملتحقة، فمن خلال هذا الفريق الحكومي يتأهب الحزب الإشتراكي لقلب التوقعات لصالحه، خصوصا و أن الوزراء الجدد في الحكومة هم أشخاص يتميزون بالنشاط و روح التواصل مع فئة عريضة سواء داخل الحزب أو خارجه، و يعول عليهم بشكل كبير في الفوز بولاية إنتخابية أخرى، ومن هذه الوجوه الجديدة وزير العمل و الهجرة "خوسي رامون خاوريغوي" الذي تربطه علاقات وطيدة مع قادات نقابات العمال في إسبانيا كما أنه مناضل نقابي متحرف في نقابة الإتحاد العام لشغالين في إسبانيا منذ 17 سنة، و هذا ما سيؤهله بأن يكون رجل المرحلة و المناسب لإخراج إسبانيا من النفق المظلم للأزمة الإقتصادية. إن السياسات الإجتماعية لمثل هذه الدول و التي تمس المواطن بشكل مباشر في حياته اليومية هي التي تحدد مصير الحكومات و تقرر من سيتولى شؤون الأمة من عدمه، و لهذا فإن الحملات الإنتخابية كلها تركز على ما يمكن تقديمه للمواطن من شغل و عمل و صحة و أمن حتى تستطيع إقناعه لتصويت لصالحها، و أي إستراتيجية إنتخابية خارج عن هذا السياق فمصيرها الفشل بدون شك. و هذا في إعتقادنا هو ما يميز الشعوب المتحضرة الواعية بصالحها العام عن أخرى مازالت تعتمد في خطاباتها الإنتخابية و برامجها على إستراتيجيات إيديولوجية نفسية و عاطفية و التي تكون نتائجها على المواطن لا شغل و لا عمل و لا كرامة و أزمة إيديولوجية نفسية إقتصادية مركبة.