بايتاس: ارتفاع الحد الأدنى للأجر إلى 17 درهما للساعة وكلفة الحوار الاجتماعي تبلغ 20 مليارا في 2025    "ما لم يُروَ في تغطية الصحفيين لزلزال الحوز".. قصصٌ توثيقية تهتم بالإنسان    إحباط عملية تهريب دولية للمخدرات بميناء طنجة المتوسط وحجز 148 كيلوغراماً من الشيرا    رابطة علماء المغرب: تعديلات مدونة الأسرة تخالف أحكام الشريعة الإسلامية    بايتاس: مشروع قانون الإضراب أخذ حيزه الكافي في النقاش العمومي    كربوبي خامس أفضل حكمة بالعالم    كمية مفرغات الصيد الساحلي والتقليدي تبلغ بميناء المضيق 1776 طنا    وهبي يقدم أمام مجلس الحكومة عرضا في موضوع تفعيل مقترحات مراجعة مدونة الأسرة    وكالة التقنين: إنتاج أزيد من 4000 طن من القنب الهندي خلال 2024.. ولا وجود لأي خرق لأنشطة الزراعة    بايتاس يوضح بشأن "المساهمة الإبرائية" ويُثمن إيجابية نقاش قانون الإضراب    نجاة مدير منظمة الصحة العالمية بعد قصف إسرائيلي لمطار صنعاء    توقيف القاضي العسكري السابق المسؤول عن إعدامات صيدنايا    بورصة الدار البيضاء .. تداولات الإغلاق على وقع الإرتفاع    خلفا لبلغازي.. الحكومة تُعين المهندس "طارق الطالبي" مديرا عاما للطيران المدني    احوال الطقس بالريف.. استمرار الاجواء الباردة وغياب الامطار    السرطان يوقف قصة كفاح "هشام"    الكلاع تهاجم سليمان الريسوني وتوفيق بوعشرين المدانين في قضايا اعتداءات جنسية خطيرة    قبل مواجهة الرجاء.. نهضة بركان يسترجع لاعبا مهما    "الجبهة المغربية": اعتقال مناهضي التطبيع تضييق على الحريات    في تقريرها السنوي: وكالة بيت مال القدس الشريف نفذت مشاريع بقيمة تفوق 4,2 مليون دولار خلال سنة 2024    جلالة الملك يحل بالإمارات العربية المتحدة    ستبقى النساء تلك الصخرة التي تعري زيف الخطاب    مدرب غلطة سراي: زياش يستعد للرحيل    العسولي: منع التعدد يقوي الأسرة .. وأسباب متعددة وراء العزوف عن الزواج    تحديد فترة الانتقالات الشتوية بالمغرب    نشرة انذارية.. تساقطات ثلجية على المرتفعات بعدد من مناطق المملكة    حصاد سنة 2024.. مبادرات ثقافية تعزز إشعاع المغرب على الخارطة العالمية    المغرب يفاوض الصين لاقتناء طائرات L-15 Falcon الهجومية والتدريبية    "زوجة الأسد تحتضر".. تقرير بريطاني يكشف تدهور حالتها الصحية    330 مليون درهم لتأهيل ثلاث جماعات بإقليم الدريوش    أبناك تفتح الأبواب في نهاية الأسبوع    المحافظة العقارية تحقق نتائج غير مسبوقة وتساهم ب 6 ملايير درهم في ميزانية الدولة    بيت الشعر ينعى محمد عنيبة الحمري    المنتخب المغربي يشارك في البطولة العربية للكراطي بالأردن    استخدام السلاح الوظيفي لردع شقيقين بأصيلة    إسرائيل تغتال 5 صحفيين فلسطينيين بالنصيرات    أسعار الذهب ترتفع وسط ضعف الدولار    كندا ستصبح ولايتنا ال51.. ترامب يوجه رسالة تهنئة غريبة بمناسبة عيد الميلاد    أسعار النفط ترتفع بدعم من تعهد الصين بتكثيف الإنفاق المالي العام المقبل    بلعمري يكشف ما يقع داخل الرجاء: "ما يمكنش تزرع الشوك في الأرض وتسنا العسل"    طنجة تتحضر للتظاهرات الكبرى تحت إشراف الوالي التازي: تصميم هندسي مبتكر لمدخل المدينة لتعزيز الإنسيابية والسلامة المرورية    الثورة السورية والحكم العطائية..    "أرني ابتسامتك".. قصة مصورة لمواجهة التنمر بالوسط المدرسي    المسرحي والروائي "أنس العاقل" يحاور "العلم" عن آخر أعماله    مباراة ألمانيا وإسبانيا في أمم أوروبا الأكثر مشاهدة في عام 2024    جمعيات التراث الأثري وفرق برلمانية يواصلون جهودهم لتعزيز الحماية القانونية لمواقع الفنون الصخرية والمعالم الأثرية بالمغرب    مصطفى غيات في ذمة الله تعالى    جامعيون يناقشون مضامين كتاب "الحرية النسائية في تاريخ المغرب الراهن"    هل نحن أمام كوفيد 19 جديد ؟ .. مرض غامض يقتل 143 شخصاً في أقل من شهر    دراسة تكشف آلية جديدة لاختزان الذكريات في العقل البشري    تنظيم الدورة السابعة لمهرجان أولاد تايمة الدولي للفيلم    برلماني يكشف "تفشي" الإصابة بداء بوحمرون في عمالة الفنيدق منتظرا "إجراءات حكومية مستعجلة"    نسخ معدلة من فطائر "مينس باي" الميلادية تخسر الرهان    طبيب يبرز عوامل تفشي "بوحمرون" وينبه لمخاطر الإصابة به    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشعر المغربي المعاصر: سؤال التقاطعات والإبدالات الإسمية المنتجة
نشر في هسبريس يوم 14 - 11 - 2014

عرف الشعر المغربي المعاصر كباقي الشعر العربي، والشعر العالمي، تبدلات، وتغيرات وتحولات، طالت لغته وبناءه، وكيفيات صوغه، ورؤيته، وامتدت تلك الأحوال التي اقتضاها منطق التطور إلى رؤياه. ويمكن تحديد تلك الحقبة التي شهدت هذا التطور اللغوي والجمالي، في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن المنصرم، وفي ما تلاه من عقود بالقوة والفعل. وفيما كانت السبعينات تعرف حراكا غير مسبوق، على مستوى السياسة والاجتماع والثقافة والحقوق الإنسانية، تغلغل إلى المنظومة التعليمية والثقافية، وتسرب إلى الشعر، وأساليب التعبير والتشكيل الأخرى، ما أفرز منظورا جديدا للواقع السياسي، والاجتماعي والثقافي قوامه مصارعة التقليد، وخلخلة البنى المجتمعية المتكلسة، وزعزعة نظام سياسي أحادي لا ديمقراطي لاشعبي، فإن الثمانينات تلقفت منتوج وحصائل هذه الصراعات، وذلك التجديد الذي تحقق في العطش والدم واليأس والأمل والحلم.
أي أن العقد الثمانيني حل، والمهادات ناجزة تقريبا، والمعارك السياسية والثقافية، خافتة نسبيا، والعنفوان الأدبي متحصل ومتمكن من أجناس أدبية وفنية مختلفة وفي مقدمتها الشعر والتشكيل.
لقد تضافرت عوامل ذاتية وعوامل موضوعية من أجل عصرنة برانيات وجوانيات براديغمات مؤسساتية، وأنظمة فكرية، وثقافية، وأدبية، وفنية مختلفة، وانشبكت معطيات واقعية ورمزية لتحدث أثرها في بنيان وعقلية وذهنية المجتمع بعامة، وفي بنيان وعقلية وذهنية النخب الثقافية والنخب السياسية بخاصة.
فالشعر – وهو مجالنا وقيد يدنا – أوتي لغة تصويرية جديدة، وبناء لغويا جماليا مختلفا عما عرفه العقد الستيني تعيينا، إذ لا شعر قبل زمن الستينات عدا نزرا يسيرا جدا، وعدا ركاما من النظم، والتقليدية الفقهية – إذا استثنينا الرومانسيين المغاربة – الذين كانوا صدى "لأبولو" و"للرابطة القلمية"، ولم يخلفوا شعرا رومانسيا ذا طابع مغربي صرف عليه من وعثاء البحث والتنقيب، والتأصيل والبناء، ما لا تخطئه العين. ومع ذلك فإن شعر محمد الحلوي (المشاء تقليديا)، وعبد المجيد بن جلون، وعبد الكريم بن ثابت، وعبد المالك البلغيثي، يشكل مُجْتمِعا، نقطة الضوء في مسير الشعر المغربي.
فالسبعينات هي الحقبة التي تحقق فيها جديد شعريٌّ، وتحديث لغوي، ومضاء ثقافي، وقوة مرجعية، وانصهار لآفاق شعرية مختلفة غذت التجربة الشعرية المغربية، ومنحتها العنفوان والميزان والقياس نظير شبيهاتها العربيات في العراق والشام ومصر. ولا يخفى مقدار العَنَت الذي عاناه شعراء الحقبة المذكورة، إذ الأمر يتعلق ب : "المواجهة والتأسيس"، مواجهة "الفراغ"، وسقوط السند، والنظر بغضب إلى الخلف كما يعبر "جون أوزبورن"، وهو ما دفع إلى التأسيس، التأسيس من البدء، والتأسيس – من وجهة نظر متفائلة وواقعية – على جهد شعري مشع على قلته، وتفرقه، وواحديته، جهد ستيني كان على السبعينيين أن يُبْرُوه، ويفسحوا المجال لأصواتهم حتى ينصهر معهم، وينصهروا ضمنه أخذا بعين البصر والبصيرة، التحولات والإبدالات التي لا مناص منها للتحديث، والتجريب، وكتابة نص شعري مغربي.
واقتضى منطق التطور، وانقلاب المعايير والقيم الفنية، بروز كتابة جديدة ، هي كتابة الجيل الثمانيني، وهو الجيل الذي كثر حوله اللغط، لأنه أكثرَ من اللغط. إذ كانت له الشجاعة والجرأة في أن يكتب نصا شعريا مُبْدلا، ويوازيه بنص نقدي ونظري، حرك الساحة الثقافية، والرأي الشعري العام، وحرك، بالتلازم ، كتابة نصية متعددة انتصرت للذات والأنا، وانتصرت للكتابة الجمالية، أي للشعر، معتبرة أن السبعينية، وإن صنعت فجرا ناجزا للقصيدة المغربية، فإن الجمالي فيها طُمِس تحت أسمال "السياسي"، وزعيق المباشرة الكلامية، و"اليافطات" الشعاراتية. والحال أن رَمْي الشعرية السبعينية كاملة ب "السياسي"، هو تَجَنٍّ وتعالم، أو خطأ في توصيف الثيمة المركوزة داخل النص الشعري السبعيني. فالأمرلاينبغي أن يطول السياسي بقدرما ينبغي أن يطول "الحزبي" الضيق أو "السياسوي". هو، إذن، خطأ مصطلحي، ونُبُوٌّ مفهومي، واصل حضوره في المدونة النقدية الثمانينية والتسعينية، وتلقفه بعض "النقاد" من دون قراءة هادئة ولا تمحيص.
لا نخفي حضور الحزبي والإيديولوجي الفج في نصوص بعض السبعينيين الشعرية بشكل معيب حوَّل القصائد إلى منشورات وبيانات وبلاغات سياسية، غير أن هذا "الشعر" مات، بموت "الإيديولوجيا" الضيقة التي تغنت ب "المركزية الديمقراطية" ، وتهييج المدرجات الجامعية ، والساحات العمومية .
لكن السياسي المنصهر بالجمالي واللذين حققا النص الشعري السبعيني، وكتباه، لم يكن عيبا ولا مثلبة يرمى بها الشعر، أي شعر. فالسياسي، كعنصر بَانٍ، كمضغة كامنة في النص، ضرورة وحاجة ماسة، وتحصيل حاصل، لا يقوم الشعر الرفيع من دونه، إذ هو عمد وعامود، وصوت الذات وهي تواجه جحيم الواقع، وأنينها وهي تداس، وجوهرها وهو يشير ويرمز إلى الحلم الحاف، والرفيف الآتي. يقول سعدي يوسف : "فالسياسي صار أكثر اتصالا بالمعرفة منه بالسياسة كحركة يومية، وصار هذا المفهوم المعرفي يقود النص ولكن من الداخل، أي الباطن، ويمكن اعتباره نهرا خفيا يجري تحت النص".
هو ذا "السياسي" الذي عيب به الشعر السبعيني كاملا، بينما هو رافد وأُسٌّ، ونسغ داخلي يغذي النص الشعري بالرؤية التي لا محيد عنها في التموقف من قضية أو مسألة، مهما صغرت القضية، وضؤل حجمها وقيمتها. ودربة الشاعر، ومراسه، وحذقه، ونباهته الشعرية، هو ما يرفع من قيمة النص الفنية، ويضفي عليها العذوبة والجمالية، ويجعل معناها لا معنى.. غير مطواع للعابر المتعجل.. قريب المأتى على تأبيه من القاريء الذكي، غير مطواع للعابر المتعجل.. قريب المأتى على تأبيه من القاريء الذكي، والناقد الألمعي. ولعل "السياسي" هو ما أعلى تجربة محمود درويش، وأدونيس، وسعدي يوسف، وصلاح عبد الصبور، ومحمد عفيفي مطر، وأوكتافيوباث، و لوركا، وماتشادو، ونيرودا، وناظم حكمت، وبورخيس، وبودلير، وطاغور، ونوفاليس، وهلدرلين، وريلكه، وتراكل، وهوغو، وشار، وأراغون، وإيليار، وغيرهم كثير.
إنه السياسي النبيل، النهر الخفي العميق الذي يسري في أوصال النص فيوصله إلى القُنَّة، ويوفيه على الذروة، ويعليه. فالنبل السياسي هو توأم الحلم والطوباوية والفردوسية، وليس هناك أجمل من الحلم، والحلم جميل لأنه سياسي، لأنه حلم يقشر اللحاء ويكشط الحراشف، ويزيل الحجارة والبؤس من أمام، من الطريق، لتعبر أشعة الشمس، ويأتي الغد المشرق البهي مغردا في وجه الإنسان.
ولئن انتقل المعنى في الشعر الثمانيني إلى ما يتجاوز الدلالة، ويوقع في الحيرة والسؤال والإدهاش : وهي العناصر الضرورية لكل شعر وفي كل شعر، نشدانا للجمالي، وصونا لصوت الذات المكلومة، ونداء الأنا المتحشرج المطموس، ما أضفى غموضا بديعا على هذا الشعر، وكساه جمالا ضمن كتابة أخرى، كتابة مختلفة ومغايرة فإن ذلك لم يكن ليحصل وليتأتى – وهذه سنة الحياة والتطور – لولا قدوم رياح حداثية إلى المغرب، هبت من الشام ومصر والعراق، تحمل في منقارها الأحمر واللازوردي، ماء تنعش به اليباس، وهواء لرئة الإبداع لتتنفس هنيئا مريئا. أما هذه الرياح اللواقح، فهي وفرة الشعر الجديد، التجريبي على أكثر من صعيد، ووفرة البيانات والكتابات التنظيرية في الحداثة الإبداعية، وعن الحداثة.
إذا، إلى جنب المهادات التي ساهم فيها الشعراء السبعينيون المغاربة والعرب، قامت البيانات التي دعت إلى التجديد في كل مناحي الحياة، بدورها في تفتيق الدهشة أكثر، وتفتيح العين على ما يلوح في الأفق القريب، والآفاق الإنسانية الكونية الأخرى، وشحذ اللغة شحذا صار معها الصوغ منحوتا، والشعر منعوتا، والجمالي منفوثا، والمعنى القريب الواضح، ملعونا وممقوتا، أي أن الثمانينيين الحاذقين – وليس كل الثمانينيين- سعوا إلى كتابة أخرى، كتابة "انقلابية" في بعض النماذج القليلة، بعثرت المعنى، وجنَّحت الدلالة، وأحدثت إبدالا ملموسا في لاَ وَعْي النص من حيث إبعاده أو استبعاده للنماذج العليا، واحتضانه للهموم الحياتية، والقضايا الصغرى، والمبتذل اليومي. ما يعني أن الوظيفة الشعرية، أصبحت هاجسا رئيسا لدى الشعراء، تقتضي تكثيف اللغة، وشكلنة الصفحة، والتهليل للبياض وللسواد، وأسطرة الذات المتكلمة، خلف ما به تنصهر الذات بالإيقاع الخفي العام، والإيقاع الشخصي كدال يتحكم في بناء النص وهندسته، والذهاب به إلى أقصى البوح والصمت في آن.
لم يكتب للشعراء الثمانينيين أن يحققوا هذا البعد في نصوصهم، ما خلا قلة، أما الباقي، فدخل دوامة خلافية تأسست على الثرثرة العقيمة، والشعرالسطحي الباهت، والعرضانية التخييلية الميتة، أو المشدودة إلى متخيل سبعيني أخفق هؤلاء في إخفائه ومواراته وطمسه.
إنها حساسية شعرية جديدة –كما هي الحال- فيما يتصل بالحساسية التسعينية والألفية، لكنها حساسية ناسَتْ بين الرسوخية، والتذبذب، وبين التجريبية الموعى بها، والواعية والمتاهية التي تخبط فيها. لا نقول هذا انتصارا للقصيدة السبعينية، وتفضيلا لها. فليس هناك من تفاضل إلا ما حققته أسماء بعينها شعريا، إنْ في السبعينات أو في الثمانينات أو ما بعدهما. ويمكن القول – استنادا إلى ذلك، بأن التجربة الشعرية المغربية بالتكثير، هي تجربة أسماء لا تجربة جيل غامض، جيل هلامي.
وهو ما يفيد أن الشعرية الثمانينية كما الشعرية السبعينية كما الشعرية التسعينية وهكذا.. هي تجارب اسمية، يتفاوت فيها الشعراء ،ويعلو فيها سهم على سهم. ولهذا السبب، نتحدث عادة عن سبعينيين بالإسم، وستينيين كذلك، وثمانينيين أيضا، أي عن تجارب شخصية، وأصوات خاصة، ونصوص مخصوصة. وهي التجارب الشعرية التي تتخطى التجييل والتحقيب، مستمرة بشعرها، نابضة بجمالها، مؤتلقة بمأتاها، متوهجة بدمها وتوقيعها الشخصي.
وإذا كان من فضل للثمانينية الشعرية مغربيا، ففضل تبني قصيدة النثر اختيارا جماليا، ولعله الإبدال الأكبروالأدل إبان الحقبة إياها، حتى لاأقول الإبدال الوحيد. والإنصاف يقتضي القول بأن قصيدة النثر كانت منبوذة سبعينيا أو لم يكن مرحبا بها كفاية في الوسط الثقافي المغربي، وآية ذلك أن "المومني" وهو شاعر سبعيني لم يدخل الأنطولوجيات الشعرية فترتئذ، كما أن الأطاريح الجامعية، لم توسع له مكانا بين شعراء التفيعلة السبعينيين ك: محمد بنيس، ومحمد بنطلحة، وعبد الله راجع، وحسن الأمراني ، ومحمد الأشعري وغيرهم .
وكذا فُعِلَ بتجربة المهدي أخريف الأولى النثرية، إذ لم تحظ بالاعتراف "الأكاديمي"، ولم تنل "شرف" دخول "الأكاديمية" الشعرية المغربية سبعينيا. فاستنادا إلى هذا المعطى، يمكن النظر إلى هذا الإبدال الثمانيني: (تبني قصيدة النثر) بوصفه تقدما، وفضلا وإضافة تحسب له. وبهذا المعنى، يكون الإيقاع الجديد، الإيقاع الداخلي، حاسما في هذا الإبدال، من حيث تحرير اللغة من قيود إضافية، وفك بنيانها من هندسة خارجية مُصْمَتة، وإطلاق العنان للمتخيل يبني أفقه بشكل حر ومسؤول، إذ أن قصيدة النثر – كما ينبغي التذكير- طرحت مسألة تفكيك النظم ..déversification كشرط، من ضمن شروط أخرى، لتحقيق الخروج من كتابة شعرية تتهددها التقليدية والنمطية، والارتطام بالجدار، ذلك الجدارالذي عَناهُ يوسف الخال، وتحدث عنه طويلا والذي أفضى به إلى "التنصل" من الشعر والزهد فيه، وإعلانه نهاية اللغة ، لغة الشعر طبعا .
وبناء عليه، فقد سعى الشعراء الأساسيون في هذه الفترة – وهم قلة على كل حال، إلى بناء نص مركب، مفارق ومغاير، والذهاب بالكتابة الشعرية إلى "فتنة الأقاصي"، إلى "النصنصة" بتعبير الدكتور محمد مفتاح. والقلة فقط هي التي حققت الوعد، ونقلت التجربة الشعرية المغربية إلى أفق جديد، لكن بمعية أسماء سبعينية واصلت الحفر والحضور، تنظيرا ودراسة، وممارسة نصية.
وفي هذا ما يعلمنا "لازمنية" الكتابة من حيث جوهرها المخترق، ونبضها المتعالي، وصوتها القادم من المستقبل. ويعلمنا –من جهة أخرى- أن التجربة الشعرية، تجربة أسماء بالخصوص، لا تجربة جماعية ولا قطيعية ولا يحزنون.
ومن ثمة، فواقع الحال الشعري – كما لا أمل من التكرار – يقول إن هناك تداخلا وتشابكا بين أزمنة شعرية داخل المرحلة إياها، وليس من صفاء ولا نقاء، ولاتجوهر واحدي ونهائي.
بل إن الشعر الثمانيني وما بعده تشَعْرنَ أكثر، واحتاز الجدارة الشعرية، واجترح الآفاق اللغوية والرمزية والرؤياوية المنشودة والمبتغاة، على يد ستينيين وسبعينيين، وثمانينيين طبعا. ولابد من أن تأخذنا الإشارة الموجزة هنا إلى السرغيني والطبال والميموني وبنيس وبنطلحة والأشعري والمهدي أخريف، وأحمد بلبداوي، ورشيد المومني، وعبد الله زريقة وآخرين.
لقد تخطى هؤلاء إلى جنب بعض الشعراء الثمانينيين، شعرية الثمانينيين أنفسهم، ورسخوا وعيا جماليا جديدا، وشعرية فادحة الجهد والبناء والتركيب لغة وإيقاعا (الإيقاع هنا كدال واسع وعريض إلى جانب دوال أخرى)، ورؤية ورؤيا.
ولست أرى ما يوجب التذكير ب : "قتل الأب" و"اليتم الشعري المغربي" ومحو التجارب السابقة، ووصم التجربة الشعرية الستينية والسبعينية بخاصة، بوصفها تجربة شعاراتية، ومنشورا فنيا سياسيا ( بل قل حزبيا )، ونصوص مقاومة ومنازلة للرجعية والأمبريالية والأوليغارشية والكومبرادورية.
لست أرى ما يوجب النبش وإثارة هذه الطروحات المنفلتة التي عممت العمى والوصم، بينما تقول الحقبة السبعينية شعريا غير ما يقولون، غير ما رميت به. فالعقد إياه شهد جملة من نصوص شعرية مبنينة شعريا أي ينبض بناؤها جمالا واتساقا، وصوغا حِرَفيا، وصنعة لامعدى للشعرعنها. فلا أقل من أن نفتح كتاب المجاطي،والطبال والسرغيني، والخمارالكنوني،وبنطلحة،وراجع، وبنيس، والأشعري لنبدل أدوات كتاباتنا النقدية، ونغير نظرتنا إلى هذه المدونة، أو في الأقل، إلى جانب أساس من هذه المدونة.
وكما أسلفنا فإن التجارب الشعرية المغربية هي تجارب إسمية في الأول والأخير، ما يجعلنا نقول مطمئنين إن التجارب إياها متفرقات ومضمومات ، لها صوتها المتفرد المتعدد، تجارب شعراء تنصهر في إبستيم المرحلة التاريخية ، وتتعيش كنصوص وكتابات إبداعية ، على مهيمنات فكرية وشعرية ، وجمالية سادت الظرف، والفترة، والمرحلة المومأ إليها ،لكنها تتفارق حين الصياغة ، وحين البوح ، وحين كيفية إبراز شروخ الذات وكلومها ، وجراح الأنا الشعري أو معافاته .
وبهذا المعنى ، فالشعر المغربي المعاصر يمكن أن يختزل بقليل من المجازفة في سؤال: التقاطعات والإبدالات الإسمية المنتجة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.