أضحت الديمقراطية قناعة سائدة في عالمنا المعاصر، كونها ثورة في الفكر وفي القيم ونقلة نوعية في الممارسة السياسية الذي تستند إلى إرادة الشعب. هذا ما جعل منها في صيغتها المعاصرة واحدة من أبرز إفرازات القرن العشرين. وقد انجذب المغرب إلى هذا النموذج الساحر وانخرط منذ الاستقلال في هذا الاختيار. غير أنه منذ الستينات برز في الساحة السياسية المغربية موقفان متعارضان اتجاه الديمقراطية: يتمثل الأول في موقف القوى التقدمية حينئذ التي رأت في الديمقراطية أداة لمنح الشعب فرصة المشاركة في الحياة السياسية. في حين رأى الموقف الآخر الذي يمثله المخزن أن الشعب ما زال غير مؤهل للديمقراطية. لذلك سعى هذا النظام إلى خلق ديمقراطية صورية في الواجهة وترسيخ على الأرض حكم مطلق مركزي. وقد خاضت القوى التقدمية منذئذ معركة طويلة وقوية تحت عنوان "استراتيجية النضال من أجل الانتقال الديمقراطي"، انطلاقا من الإيمان بأن الديمقراطية هي الآلية التي يتمكن من خلالها الشعب ممارسة سيادته، وانطلاقا من اعتبار أن الديمقراطية مسلسل يقتضي التدرج والبناء والصبر والنضال الجماهيري الطويل. وقد سعى هذا النضال، من جهة، إلى ترسيخ القيم الديمقراطية وثقافتها وآلياتها سواء داخل صفوف المناضلين أنفسهم أو داخل صفوف عموم الشعب. وسعى، من جهة أخرى، إلى الضغط على النظام المتحكم في الأمور، الذي كان بدوره يؤسس أحزابا تمثل ذراعه السياسي مقابل مصالح تجنيها من علاقتها النفعية بالنظام. كان حلم واعتقاد الشباب آنذاك المؤيد للقوى التقدمية (وأنا منهم) أن إرساء الديمقراطية في المغرب وإبعاد الداخلية وما سمي ب"الحزب السري" عن التدخل في نتائج الانتخابات سيمكن الشعب من اختيار القوى الحية القادرة على قيادة المغرب نحو الازدهار والتقدم، ولا سيما نحو بناء مغرب يستفيد من خيراته كل أبنائه. وقد قدم المناضلون في سبيل ذلك تضحيات جسيمة بدءا بالقمع والتضييق على الحريات ... إلى الطرد التعسفي من العمل ...إلى الاعتقالات دون محاكمة أو محاكمات صورية طبعا... إلى الاغتيال السياسي (بنبركة، بنجلون، المانوزي وغيرهم...). وقد سميت هذه الحقبة بسنوات الرصاص. الآن، وقد تجاوز المغرب هذا المنظور المبني على المقاربة الأمنية، واعتمد مفهوما جديدا للسلطة مبني على المقاربة التنموية، وانخرط بشكل فعلي في بناء نظام ديمقراطي. وقد خطا بالفعل خطوات في هذا الاتجاه، حيث حقق تقدما على المستوى السياسي ( دستور جديد متقدم )، وتقدم على مستوى حقوق الإنسان وحقوق النساء وحرية التعبير وحرية الصحافة واحترام نتائج صناديق الاقتراع... وحقق تطورا على المستوى الاقتصادي (حسب الخطاب الرسمي). السؤال الجوهري الذي يفرض نفسه: من يستفيد من هذا الجو الديمقراطي؟ ومن يستفيد من هذه النتائج التي اعتبرت إيجابية؟ أو بتعبير الخطاب الملكي بمناسبة عيد العرش الأخير: ‹‹هل ما نراه من منجزات ومن مظاهر التقدم قد أثر بالشكل السليم والمباشر على ظروف عيش المغاربة؟››. وقد أكد صاحب الجلالة في نفس الخطاب أن الثروة التي تراكمت في المغرب لا يستفيد منها جميع المغاربة. لماذا إذن هذا التفاوت في الاستفادة من الثروة؟ إن هذا التفاوت في الاستفادة من الثروة يعود، في جزء منه، إلى سياسة الحكومة القائمة التي تقودها أغلبية يمينية محافظة ذات توجه ليبرالي. ولا يخفى أن الليبرالية لها قواعدها وقيمها تتمثل في تدمير قيم التضامن وهيمنة مشروع الفرد على حساب مشروع الجماعة، وبالتالي تطغى المصالح الفردية على حساب الصالح العام. إضافة إلى ذلك فإن أحزاب اليمين تسعى عادة إلى خدمة الطبقة الميسورة باعتبارها ذراعها السياسي، حيث تعمل سياستها على تركيز الثروة بيد هذه الثلة الغنية، وتوظف كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة من أجل البقاء في مواقع القرار السياسي، بهدف تسخير إمكانية الدولة لخدمة مصالحها. ولا تبالي بما نفكر فيه نحن من عدالة اجتماعية سوى عبر الخطاب الذي يتكفل به هذا الذراع السياسي. وهذا ما نراه بارزا في اختيارات هذه الحكومة وإجراءاتها التي تتمثل في التملص من ثقل الدعم الاجتماعي والحد من الإنفاق العمومي في المجال الاجتماعي. هكذا فإن السياسة التي تنبثق عن اختيارات اليمين الليبرالي تفرز حتما أغنياء يستفيدون من ثمار النمو ويزدادون غنى وفقراء خارج مسار التنمية ويزدادون فقرا. ليس غريبا إذن أن ينتج عن اعتماد سياسة ليبرالية تفاوت غير منصف في توزيع الثروة. وقد نادت مؤخرا كثير من الأصوات في العالم الغربي الحر نفسه توضح هذا الأمر وتندد بهذه السياسة (انظر كتاب الرأسمال في القرن 21 للكاتب توماس بيكيتي). غير أن ما لا يبدو منطقيا هو كيف يمكن أن تختار طبقة وسطى واسعة وطبقة أوسع من الفقراء التي تشكل أغلبية الشعب المغربي أحزابا يمينية تعادي مصالحها، سيما تلك الأحزاب التي كانت بالأمس الذراع السياسي للنظام أثناء سنوات الرصاص؟ يمكن تفسير هذه المفارقة بعدة عوامل منها غياب الوعي السياسي لدى فئات واسعة من المجتمع، وضعف مشاركة الطبقة الوسطى في العمل السياسي. إضافة إلى ذلك هناك عامل رئيسي يتمثل في العملية الديمقراطية التي أصابتها بعض الاختلالات، أهمها أن الطبقة المالكة للثروة عرفت كيف تروض الديمقراطية لصالحها بتوظيف النفوذ المالي والقبلي، وتوظيف الخبرة التي اكتسبتها خلال سنوات طويلة من التزوير واستمالة الفئة الفقيرة من المواطنين، فضلا عن توظيف المواقع الاقتصادية والسياسية التي احتلتها في علاقتها النفعية بالنظام. كل ذلك جعلها قادرة اليوم على التحكم في اللعبة الديمقراطية بطرق تبدو في ظاهرها مشروعة، حيث أضحت الأحزاب التي تشكل ذراعها السياسي - التي تشكل أغلبية سواء في المعارضة أو في الأغلبية - قادرة على الهيمنة ديمقراطيا على نتائج الاقتراع دون الحاجة إلى من يزور لصالحها كما كان في السابق. هكذا قد امتلكت الآن هذه الأحزاب شرعية ديمقراطية بدون منازع، وخابت آمال القوى التقدمية (أتحدث عن القواعد) التي كانت تعتقد أن إرساء الديمقراطية سيكون لصالح الفئة العريضة من الشعب. ما العمل إذن؟ بداية لابد من توضيح نظري حول مفهوم الديمقراطية. إن "ديوي" لسان حال الليبرالية الأمريكية وفيلسوف الديمقراطية، لا يدعي أن الديمقراطية نظام تسود فيه العدالة المطلقة. بل يرى أن الكمال الديمقراطي هو ذلك المثل الأعلى والمنهج أو الأداة التي ستمكن العدالة من الانبعاث دون انقطاع عبر تصحيح النقائص والتعسفات التي قد تترتب عن العملية الديمقراطية. ولا يمكن أن يحدث هذا الانبعاث دون أن يعترف الإنسان بضرورة مشاركة كل كائن بشري في تشكيل قيم يمشي على خطاها الناس معا، الضرورية، من جهة، لرعاية الصالح العام للمجتمع، ومن جهة أخرى، لتنمية الكائنات البشرية بما هم أفراد. إن فلسفة "ديوي" لا تقبل الفوضى التي تعني معارضة الإنسان المطلقة للمجتمع، ولا تقبل الديكتاتورية التي تعني سحق الإنسان من طرف المجتمع. وتدعو إلى الديمقراطية كونها تسمح بالتعايش والتوافق بين الإنسان والمجتمع (أنظر كتاب الفلسفة الأمريكية للكاتب جيرار ديليدال 1987) هكذا يبدو أن الديمقراطية في الفكر الليبرالي تعني، نظريا، أنها مسلسل ديناميكي متجدد ومفتوح يسعى باستمرار إلى تجديد قيم وقواعد وثقافة الديمقراطية في اتجاه انبعاث مستمر لعدالة اجتماعية توفق بين مصالح المجتمع ومصالح الإنسان. وذلك عبر تصحيح الاختلالات التي تعيق العملية الديمقراطية، وأهم هذه الاختلالات في ديمقراطيتنا أنها تغني الغني وتفقر الفقير. هذا الأمر يحتم بالضرورة استمرار معركة "النضال الديمقراطي" من أجل تصويب هذا المسار الديمقراطي، لذلك كان دائما يردد سي عبدالرحيم بوعبيد رحمه الله أن معركة النضال الديمقراطي معركة مستمرة. وهذا ما ينبغي استنتاجه من هذه التجربة غير الموفقة على الأقل على مستوى تحقيق عدالة اجتماعية. لأن الديمقراطية التي لا تؤدي إلى تحسين أوضاع الناس تظل "ديمقراطية معزولة" حسب تعبير ديهاميل (مجلة السلطة، رقم 128، 2008.)، أي لا يؤخذ منها إلا الهيكل لإضفاء الشرعية الديمقراطية على الممارسة السياسية، وهذا هو حال تجربتنا الديمقراطية إلى حد الآن. ولا يمكن أن يتقدم مسلسل "النضال الديمقراطي" في اتجاه تطوير الممارسة الديمقراطية دون الرفع من وعي الناس بالجدوى من الديمقراطية، ودون انخراط الطبقة الوسطى والفئة المثقفة في هذا العمل السياسي، ذلك أن البقاء في موقع المتفرج يحتم البقاء في موقع المهانة والضياع، حيث لا يفيد في شيء البكاء والصراخ والشتم المستمر للوضع.