لم يعد التداخل بين الرياضة و السياسة مسألة تحتاج إلى بعد نظر و قوة تحليل لكشفها، و إنما صارت جلية و متعارفا عليها، فالسياسيون يوظفون الرياضة والرياضيين في تمرير الخطابات الإيديولوجية و الدعاية لتوجهاتهم الحزبية، و أولتراسات كرة القدم عبر العالم باتت تعبر عن مواقفها من قضايا سياسية، كما نتابع في مصر مثلا بعد عزل الرئيس محمد مرسي و استبعاد جماعة الإخوان المسلمين من الحكم، حتى اعتبرت جامعة الكرة المصرية بعض تلك الأولتراسات جماعات إرهابية و طالبت القضاء المصري بإدراجها في لائحتها. و ليست كرة القدم وحدها التي تعرف هذا الضرب من التداخل بين السياسي و الرياضي، لكنها الأكثر شهرة نظرا لكونها الرياضة الأقدر على الحشد و التجييش من بين كل الأنواع الأخرى في العالم. لكن الأمر الذي يحتاج إلى بعض التحليل و يثير الإستغراب هو التداخل بين الديني و الرياضي، إذ لطالما شاهدنا اللاعبين يسجدون شكرا لله بعد تسجيل هدف أو تحقيق إنجاز، أو نراهم يؤدون الصلاة المسيحية بإشارة الصليب، أو نشاهدهم يرفعون أكفهم بالدعاء، و كثيرا ما شاهدنا أفرادا من الجمهور، خصوصا المصريين، يفتحون المصاحف و ينهمكون في تلاوتها على مدرجات الملاعب، و إن تحدث لاعب أو مسئول لوسائل الإعلام دبج كلامه بالخطاب الديني و بالدعاء. صحيح أن الإله كائن متعال و مفارق لا يمكن أن يؤيد هذا الفريق أو ذاك، و لا يرتدي أقمصة الفرق الرياضية، فالمسألة مجرد متعة بشرية لا تعني الإله في شيء، و لكن هذا النوع من السلوكات يشكل ملاذا سيكولوجيا للإنسان، و تتصرف عناصره بطرائق لاواعية و لا يتحكم فيها العقل، لأن تمثلات اللاعبين و الجماهير لها تخرجها عن دائرة المتعة إلى صراع من أجل شرف هذه المجموعة او تلك، أو شرف هذا الوطن أو ذاك، أو حتى شرف الأمة أو القارة. كما أن الأصل الذي يحكم تلك التمثلات هو صراع مسلح تم تصريفه في اللعب و المنافسة الرياضية، و هذا النوع من التصريف معروف في تاريخ البشرية منذ القدم، و حقق أحيانا مكاسب سياسية و اقتصادية دون اللجوء إلى القتال في الميدان، فقد أخر ابن عمار وزير المعتمد بن عباد غزو القشتاليين لإشبيلية بكسبه مناسفة في الشطرنج على الملك ألفونسو، و سباق داحس و الغبراء في أصله سباق اقتصادي بين قيس بن زهير ملك عبس و حذيفة بن بدر سيد ذبيان، و كان رهانه حراسة قافلة حجاج الحيرة التي تدر عليهم الأموال من الملك النعمان، و لولا ان عبيدا للعبسيين حثوا التراب في وجه الغبراء فرس حذيفة و عاقوا فوزه على قيس لما تحول الحدث من سباق إلى حرب دامت أربعين عاما. كل ذلك أمر عادي، لكن الذي يستوقف اليوم هو أن تهتف جماهير فريق كروي لتنظيم يعتبره المجتمع الدولي و من ضمنه المملكة المغربية إرهابيا، و تحالفت كثير من الدول لمحاربته، مما يعني أن أي دعاية له أو إعلان عن مساندته جريمة يعاقب عليها القانون بمقتضى قانون الإرهاب. فهل هتافات فئة من جمهور الرجاء البيضاوي لتنظيم داعش تصريف واع لموقف متطرف أم أنه مجرد فورة و لحظة جيشان عابرة انتهت في لحظتها؟ في كتابه "سيكولوجية الجماهير" حلل غوستاف لوبون سلوكات الجماهير، و صنفها إلى أنواع كثيرة مبينا أوضاع الأفراد داخلها، و أشكال اشتغال هذا النوع من التجمعات، و الذي تتشابه فيه هذه الجماهير، باختلاف أنواعها، هو هيمنة اللاوعي و التغييب التام للقوى الواعية في الإنسان، و صعوبة مقاومة الأفراد لتياراتها الجارفة حينما يكونون وسطها، و تتعطل قوى التفكير عند الأفراد حينما يكونون ضمن الحشود مهما كانت مستوياتهم الفكرية و درجات اتزان تفكيرهم، لذا فإن الحكم على هؤلاء الأفراد من خلال الشعارات و الهتافات امر عبثي، فقد لا تجد في حشد جماهيري يتألف من آلاف الأفراد حتى بضع عشرات من الذين يعون ما ينادون به و يملكون القدرة الكافية لقياس درجات شعاراتهم و أبعاد مطالبهم، بل إن كثيرين من هؤلاء المحركين و القادة أنفسهم قد يغلبهم جيشان الحشد الجماهير فيتجاوزون دون وعي حدود المخطط له سلفا. يؤكد علم النفس حسب لوبون أن للجماهير روحا، و تتألف هذه الروح من الإنفعالات البدائية، و مكرسة بواسطة العقائد الإيمانية القوية، و هي أبعد ما تكون عن التفكير العقلاني المنطقي، و تخضع تلك الروح لتحريضات و إيعازات أحد المحركين أو القادة الذي يعرف كيف يفرض إرادته عليها؛ و في خضم فوران الجماهير ينفذ الفرد داخلها أعمالا إستثنائية ما كان أبدا مستعدا لتنفيذها لو كان في حالته الواعية و المتعقلة، فقادة الجماهير يهيمنون عليها بالشعارات البهيجة بدل الأفكار المنطقية و الواقعية. فقد ثارت الجماهير باسم النازية و الفاشية في أكثر الدول الأوربية تحضرا و تقدما، في ألمانيا و إيطاليا اللتان علمتا البشرية الفكر العقلاني، و لم يستطع التنوير أن يمنع ذلك، ناهيك عن بلد في شمال إفريقيا مازال يبحث عن طريقه إلى التنوير و العقلانية. إن هتافات جمهور الرجاء البيضاوي لتنظيم "داعش" يتوفر فيه عنصران اثنان لهما دور خطير في تحريك الجماهير إلى أبعد الحدود الممكنة و دفعها للإستجابة بقوة أكبر، يتمثل العنصر الأول في حالة الغضب و التذمر التي تسود الأفراد نتيجة عدم رضاهم عن أداء فريقهم او عن مسيريه أو عن وضعيته عموما، فالفريق يتمثل في اللاوعي جيشا يحمي الأعراض و الشرف وليس مجرد فريق يلعب الكرة للتسلية و المتعة، أما العنصر الثاني المتوفر في حالة جمهور الرجاء فهو عنصر الدين؛ و قد أثبتت الأحداث التاريخية أنه أكثر العناصر خطورة في تحريك الجماهير و أشدها نجاعة و فعالية، خصوصا ما يتعلق بالجهاد و مواجهة الظلم بالقوة. هاهنا يمكن القول أن "روح الجمهور" اللاواعية قد وجدت في الهتاف ل"داعش" و الجهاد تجسيدا واقعيا للتمثلات الكامنة فيها، و أقرب تجسيد هو هذا التنظيم الذي يواجه ما يصطلح عليه في أدبيات الحركات الإسلاموية ب"قوى الإستكبار العالمية" بقيادة أمريكا التي تجسد الظلم، بينما يجسد التنظيم الشجاعة و الفتوة في مواجهة هذا الظلم و حماية الشرف و الأعراض. إن "روح الجمهور" اللاواعية لا تعرف التسلية و المتعة و إنما تعرف ترسبات من الصراع و الحرب فقط، و تستغل أي منفذ للواقع تجده أمامها لتفريغ تلك الترسبات، و قد وضع البشري ما يصطلح عليه ب"الروح الرياضية" كقيمة أخلاقية لمواجهة "روح الجمهور" المحكومة بالدوافع الغريزية و القوى الغضبية غير العاقلة، و كبح جماحها عن العنف المحتمل أثناء فورانها. لم تأخذ تلك الشعارات حيزا زمنيا كبيرا في هتافات الرجاء، و لم تستمر طويلا لتدفع الجميع للإنخراط فيها كما هو الشان في كل انتفاضة جماهيرية، حيث يكون التكرار وسيلة لابد منها لتوسيع الإنخراط حتى تحقيق هيمنة الشعارات على الأفراد و القضاء نهائيا عن التوجسات العاقلة التي تكون في البداية لديهم، كل ذلك يدل أنها لم تكن تخطيطا مسبقا، و لا تهييئا محكما، و لا يبدو أن أحدا سعى إلى استغلال الجمهور الكروي لتمرير موقف إيديولوجي، بل إن قائد الشعارات الذي بدأ بتلك الهتافات لم يكن بدوره قائدا واعيا في تلك اللحظة. و إضافة لما سبق فإن أهم خاصية تدفعنا إلى القول أن هتافات جمهور الرجاء البيضاوي مجرد فورة ليس إلا، و جيشان عابر لا يمكن اعتباره أمرا خطيرا، هو كون الجمهور الكروي ينتمي إلى الصنف الأول من النوع الأول حسب تصنيف غوستاف لوبون و هو صنف "الجمهور المغفل" الذي ينتمي بدوره إلى الجمهور غير المتجانس، إذ سرعان ما ينفض و معه تنفض كل المواقف التي عبر عنها بمجرد انعزال الأفراد عن الحشود؛ و اعتباره مغفلا ليس تعبيرا قدحيا، و إنما مجرد تصنيف علمي، نظرا لغياب مقومات الإستمرار لديه، و تلك المقومات عادة ما تستمد من عناصر الهوية المختلفة خصوصا العرق و الطائفة و الوطن و غيرها، إضافة إلى غياب قادة يملكون تصورا منسجما و فكرا منظما في الموضوع يدبرون به اندفاعات الجماهير و يطالبون بمكاسب من خلالها. و هكذا فإن جمهور الرجاء البيضاوي يبقى بعيدا عن الجوهر المتطرف و العنيف لتلك الشعارات و الهتافات الجهادية و الداعشية [email protected]