من التقاليد الدستورية المغربية العريقة و الراسخة في النظام السياسي المغربي أن يقوم الملك بافتتاح الدورة البرلمانية الأولى في مستهل كل سنة سياسية بعد العطلة الصيفية، وبالضبط في الجمعة الثانية من شهر أكتوبر التي تصادف العاشر منه هذه السنة 2014، كما هو منصوص عليه في الفقرة الأولى من الفصل 65، من الدستور الجديد 2011، التي تنص على أنه:" يعقد البرلمان جلساته أثناء دورتين في السنة، ويرأس الملك افتتاح الدورة الأولى، التي تبتدئ يوم الجمعة الثانية من شهر أكتوبر، وتفتتح الدورة الثانية يوم الجمعة الثانية من شهر أبريل"، وكسائر الأنشطة الملكية لا يخلو هذا الحدث من أحكام دستورية تؤطره و دلالات سياسية كبرى، خاصة في ظل المتغيرات الدستورية الحالية، سنحاول مقاربتها في بضعة أسطر من خلال عنصرين أساسيين: أولا: الأحكام الدستورية لافتتاح الملك للدورة البرلمانية الأولى. إن أهم شيء يعنينا في مسألة افتتاح الملك للدورة التشريعية للبرلمان هو الخطاب الذي يلقيه جلالة الملك داخل قبة هذا الأخير أمام نواب الأمة ومستشاريها مجتمعين في قاعة واحدة غالبا ما تكون قاعة مجلس النواب، و الذي جاء كتقنية منحها الدستور للملك بكيفية لصيقة بمخاطبة الملك للأمة، حيث يقرر الفصل 52 منه أن : "للملك أن يخاطب الأمة والبرلمان ويتلو خطابه أمام كلا المجلسين ولا يمكن أن يكون مضمونه موضوع أي نقاش داخلهما". وهو نفس المقتضى تقريبا الذي نص عليه الفصل 28 من دستور 1996، مع تغيير بسيط وهو إضافة كلمة" داخلهما" في النص الجديد، مما يعني أن خطاب الملك أمام البرلمان لا يكون متبوعا بنقاش نواب الأمة على غرار التصريح الحكومي، لكن الإضافة الجديدة أنه يمكن أخذ هذا الخطاب بالتحليل والنقاش خارج قبة البرلمان من لدن وسائل الإعلام بجميع أنواعها، وكذلك من طرف الباحثين والأكاديميين والمهتمين. فالملك له الحق في مخاطبة الأمة والبرلمان في آن واحد، كما أنه قد يخاطب ممثلي الأمة في البرلمان ومن خلالهم يخاطب الأمة برمتها وكيفما كان نوع الخطاب الملكي فتحريم نقاش مضمونه داخل البرلمان أمر دستوري يقتضي الوجوب. وإذا كان البرلمان ساحة للنقاش فإنه يحضر عليه مناقشة الخطب الملكية، كما يفعل بالنسبة للتصريح الحكومي، أو لجلسة الأسئلة حول السياسة العامة التي يقدمها رئيس الحكومة، ولا بأس من التذكير بما قاله الملك الراحل الحسن الثاني بخصوص مخاطبته للبرلمان في افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الثانية، سنة 1997، مخاطبا البرلمان بما يلي: "... الإخلاص هو الذي جعلني دائما أتحدث إليكم في شتى النقط والمواضيع التي أريد أن ينصب اهتمامكم عليها لا فحسب في أيام الدورات المنتظمة والمنظمة بل حتى خارج الدورات لتكون دائما بالنسبة إليكم ناقوسا يدق في عقلكم وفي قلبكم لينبهكم على أن للمغرب مواعيد مع الزمن علينا ألا نخطئها بل علينا ربما أن نسبق إليها...". وهكذا فللملك الحرية في مخاطبة البرلمان أنى شاء وفيما يشاء حسب منطوق الفصل 52 من الدستور، وإذا كان الفصل 65 يجعل الملك ملزما بافتتاح الدورة التشريعية للبرلمان الذي يكون بخطاب، فإنه من حق الملك أن يخاطب البرلمان كلما رأى ضرورة لذلك. والدليل على ذلك أن ورود نصين متفرقين في الدستور المغربي يعطيان الحق للملك في مخاطبة البرلمان لم يكن أمرا اعتباطيا أو نوعا من التكرار الذي لا يمكن أن ينسجم مع غاية المشرع الدستوري أو الوثيقة الدستورية نفسها التي لا مكان فيها للعبث والإطناب لكونها تحمل أساسيات تدبير النظام السياسي للدولة، وهنا لابد من الإشارة إلى مسألة أساسية وهي أن الفصل 65 من الدستور لا يتحدث عن مخاطبة الملك للبرلمان، بل يتحدث فقط عن افتتاح الملك للدورة الأولى للبرلمان الذي قد يكون بمجرد كلمة بسيطة لإعطاء انطلاقة العمل البرلماني السنوي، لكن الملك لا يمكن أن يترك هذه المناسبة الدستورية تمر دون إلقاء خطاب يحمل العديد من التوجيهات والرسائل ، وقبل ختم هذا العنصر لابد من إشارة دستورية مهمة تتعلق بالفصل 65 من الدستور الحالي لسنة 2011، حيث نص بوضوح على ترأس الملك لافتتاح الدورة الأولى التي تبتدئ يوم الجمعة الثانية من شهر أكتوبر، لكنه ترك الأمر يكتنفه بعض الغموض بالنسبة للدورة الثانية يوم الجمعة الثانية من شهر أبريل فاكتفى بالنص على أنه : "وتفتتح الدورة الثانية يوم الجمعة الثانية من شهر أبريل". و ذلك دون ذكر لترأس جلالة الملك لافتتاح الدورة الثانية، رغم أنه لا مانع في ذلك من حيث المقتضيات الدستورية. و تجدر الإشارة هنا إلى أن الصياغة اللفظية للفصل 39 من دستور 1962 كانت أكثر دقة ووضوحا وتدقيقا بنصها على ترأس الملك لافتتاح الدورتين معا، فقد جاء هذا الفصل كما يلي: "يعقد البرلمان جلساته في أثناء دورتين في السنة. يرأس الملك افتتاح الدورتين. تبتدئ الدورة الأولى يوم 18 نونبر والدورة الثانية يوم الجمعة الأخيرة من شهر أبريل...". ومع أنه يمكن للملك افتتاح دورتي البرلمان بخطاب ملكي، فإن الدورة الأولى يفتتحها الملك بموجب النص الدستوري، أما افتتاح الدورة الثانية فجائز دستوريا ولا تثريب عليه، لأنه يمكن لجلالة الملك أن يخاطب البرلمان و الأمة متى و أنى شاء و أراد. وتكون لهذه المناسبة مجموعة من الدلالات السياسية العميقة التي سنحللها في العنصر الموالي. ثانيا: الدلالات السياسية لافتتاح الملك للدورة التشريعية للبرلمان. إن ترأس جلالة الملك لافتتاح الدورة التشريعية للبرلمان في كل جمعة ثانية من أكتوبر، يعتبر من التقاليد الملكية الراسخة التي تكتسي أهمية بالغة، نظرا لكون جلالته موجه العمل التشريعي، كما أنه يعتبر الناصح الأمين الذي يعمل على إيجاد التوازن بين سلطات الدولة بتوجيه كل منها نحو الطريق الصحيح السليم الذي يرتضيه والذي يمليه الصالح العام، فرغم التعديل الدستوري الأخير لسنة 2011، يضل الملك الموجه الرئيسي للعمل البرلماني وتثير خطاباته أمام البرلمانيين الاهتمامات والقضايا الكبرى للبلد. فإضافة إلى كون افتتاح الدورة الأولى من كل سنة تشريعية من الالتزامات الدستورية الملقاة على عاتق الملك الدستوري، فهي كذلك مناسبة للقاء جلالته والاسترشاد بتوجيهاته وتلقي مبادئ العمل البرلماني والتمثيلي على يدي أمير المؤمنين وممثل الأمة والتفاني في خدمتها والإخلاص لها. فباعتبار الملك حكما بين الأحزاب، وبين مختلف الهيئات السياسية، فإنه يعمل على تخفيف حدة ما يقوم بينها من منازعات، ويجمعها أغلبية و معارضة للإنكباب على معالجة القضايا والإشكالات التي تعيق التنمية، ورفاهية المجتمع. ويشكل تدخل الملك أمام البرلمان لمخاطبته بمناسبة افتتاح الدورة التشريعية كذلك مناسبة لثني بعض الأفراد عن عرقلة السير العادي للمؤسسة التشريعية، وتوجيه الأحزاب السياسية نحو العمل الجاد والفعال والابتعاد عن الديماغوجية والحسابات السياسوية الضيقة. وترسم الخطابات الملكية السامية الموجهة إلى البرلمان خارطة الطريق التي يجب أن يسير وفقها العمل البرلماني، كما أنه يجب تجسيدها في شكل قوانين وإجراءات، حيث تتناول مختلف الميادين والمجالات سواء كانت ذات صبغة سياسية، اجتماعية أو اقتصادية، وقد تكون تنظيمية أو مؤسساتية. وهنا يجب أن نتذكر ما جاء في خطاب الملك محمد السادس للسنة الماضية أمام البرلمان في نفس المناسبة، حيث قال: "...فعليكم أن تستشعروا جسامة هذه الأمانة العظمى، التي تستوجب التفاني ونكران الذات، والتحلي بروح الوطنية الصادقة، والمسؤولية العالية في النهوض بمهامكم. ولا يخفى عليكم أن الولاية التشريعية الحالية، تعد ولاية تأسيسية، لوجوب إقرار جميع القوانين التنظيمية خلالها. وباعتبارها مكملة للقانون الأسمى، فإننا نوصيكم، حضرات السيدات والسادة البرلمانيين، بضرورة اعتماد روح التوافق الوطني، ونفس المنهجية التشاركية الواسعة، التي ميزت إعداد الدستور، خلال بلورة وإقرار هذه القوانين التنظيمية. كما ندعوكم لتحمل مسؤولياتكم كاملة، في القيام بمهامكم التشريعية، لأن ما يهمنا، ليس فقط عدد القوانين، التي تتم المصادقة عليها، بل الأهم من ذلك هو الجودة التشريعية لهذه القوانين. وفي نفس السياق، ندعو لإخراج النظام الخاص بالمعارضة البرلمانية، لتمكينها من النهوض بمهامها، في مراقبة العمل الحكومي، والقيام بالنقد البناء، وتقديم الاقتراحات والبدائل الواقعية، بما يخدم المصالح العليا للوطن. كما نشدد على ضرورة اعتماد الحوار البناء، والتعاون الوثيق والمتوازن، بين البرلمان والحكومة، في إطار احترام مبدأ فصل السلط، بما يضمن ممارسة سياسية سليمة، تقوم على النجاعة والتناسق، والاستقرار المؤسسي، بعيدا عن تحويل قبة البرلمان إلى حلبة للمصارعة السياسوية....". وهكذا تكون المؤسسة التشريعية مدرسة ملكية لتعلم الديمقراطية، و تأطير الأحزاب السياسية وتلقي التوجيهات التشريعية عن طريق خطابات ملكية(1) محرمة من النقاش داخل مجلسي البرلمان جائزة لما دونهما حسب إضافة الدستور الجديد -التي سبق لنا ذكرها-، والتي كان منصوصا عليها في دستور 1962، بعد أن كان مضمون الخطاب الملكي في الفصل الثامن والعشرين منه يحدد مجال تحريم المناقشة في البرلمان فقط، وهو ما قد يستفاد منه أن هذا الأمر كان مباحا للصحافة والأحزاب السياسية، حيث لها أن تناقش الخطاب الملكي وتبدي الرأي بخصوصه. وذلك حسب ما جاء في الفصل 28 من دستور 1962 الذي يقرر أنه : " للملك أن يخاطب البرلمان والأمة، ولا يمكن أن يكون مضمون ما يخاطبهما به موضع نقاش من طرف البرلمان". إذن فالخطابات الملكية المنصوص عليها في الفصل 52 من الدستور تنضوي في إطار الحق الذي يستعمله الملك في أي وقت يرى جلالته بأن الدواعي السياسية تستوجب إخبار الأمة والبرلمان بحقائق الأمور سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي، أو ما يجب على البرلمان اتخاذه من تشريعات في مجال من المجالات أو دق ناقوس الخطر بخصوص قضية كبرى من القضايا الوطنية التي تهم الرأي العام الوطني، والتي يريد الملك انصراف الاهتمام نحوها، أما تلك التي ينص عليها الفصل65 من الدستور، فتتعلق بافتتاح الدورة الأولى السنوية للبرلمان، والتي تدعو أعضاءه من نواب ومستشارين، أغلبية و معارضة غالبا إلى العمل على تسريع وثيرة العمل التشريعي و تحسين جودته وحسن تنزيل الدستور،، و ستكون أهم انشغالات هذه الدورة الاستعداد التشريعي للاستحقاقات الانتخابية المقبلة، وإعداد القانون التنظيمي الجديد للجماعات المحلية، و إعداد قانون المالية، وإتمام باقي القوانين التنظيمية، وإصلاح صناديق التقاعد والمصادقة على قانون رفع سن التقاعد الذي هو الآن عبارة عن مرسوم قانون يفرض الفصل 81، من الدستور عرضه بقصد المصادقة خلال هذه الدورة بشكل وجوبي، وعدة أمور أخرى تجعل المؤسسة التشريعية ببلادنا مطالبة بتجاوز الأخذ في تفاهات الأمور، والإنكباب على استكمال الصرح القانوني الدستوري والمؤسساتي من أجل الانطلاق الحقيقي في الإصلاح الذي ينتظره المواطن، الذي ثقلت موازينه بما يحمل من انتظارات، لعل الفرج يأتي قريبا. وتبقى الدلالة السياسية الكبرى لخطاب الملك أمام البرلمان بغرفتيه والخلاصة التي يمكن الخروج بها، هي التأكيد على استمرارية المؤسسة الملكية في رئاسة كل المؤسسات السياسية بالنظام السياسي المغربي رغم مراجعة الدستور المغربي بشكل جدري، فهي فاعل سياسي واقتصادي واجتماعي و ثقافي مستمر، فالحكومة حكومة جلالة الملك، و المعارضة معارضة جلالة الملك، كما يقر بذلك الفاعلون السياسيون أنفسهم، والبرلمان كذلك برلمان جلالة الملك، والحقيقة من ذلك كله أن للملكية بالمغرب مكانتها السامقة، والمقدرة من لدن الشعب المغربي، ولا يمكن تصورها -على الأقل- في الوقت الراهن خارج دواليب الحكم و تسيير الشأن العام، خاصة في ظل الوهن الكبير الذي أصاب الأحزاب السياسية المغربية برمتها أغلبية ومعارضة، حيث يظل الملك قطب رحى النظام السياسي المغربي، وملاذ المغاربة في كل صغيرة وكبيرة. - باحث في علم السياسة والقانون الدستوري الهوامش: 1 - وقد استمرت حمولة الخطابات الملكية التوجيهية في المجال التشريعي على عهد الملك محمد السادس كذلك ففي خطاب صاحب الجلالة الملك محمد السادس بمناسبة افتتاح السنة التشريعية 2000-2001 بتاريخ 13-10-2000، يقول: "... وفي هذا الصدد فإننا ندعو الحكومة والبرلمان إلى الانكباب بروح المسؤولية والحوار المثمر على وضع وإقرار النصوص الكفيلة بتمكين المجالس المحلية من القيام بما ننتظره منها من دور الشريك الفاعل في عملية التنمية. وهكذا فإن إصلاح ميثاق الجماعات المحلية الجماعية والإقليمية والجهوية ينبغي أن تحكمه المقاصد الأربعة التالية: أولا: تحسين نظام ووضعية المنتخب وإيجاد أحسن نسق للتدبير المحلي. وذلك على سبيل المثال لا الحصر، من خلال تحديد تحمل المهام التنفيذية في المرشحين المتوفرين على حد أدنى من المؤهلات والتكوين ومنع تعدد الانتدابات المحلية. ثانيا: تعزيز آليات حماية المصالح العمومية عن طريق الفصل الواضح بين الوظيفتين التداولية والتنفيذية ومنع المنتخب من إقامة علاقات مصلحية وخاصة مع الجماعة التي هو عضو فيها، وتقوية المراقبة الخارجية بواسطة الافتحاص والمجالس الجهوية للحسابات. ثالثا: توسيع مجالس التدبير المحلي من خلال توسيع اختصاصات المجالس المحلية.. رابعا: إحداث نظام جديد لإدارة المدن يكرس مبدأ وحدة المدينة..".