تكاد آراء الفقهاء أن تجمع على صعوبة تحديد مفهوم المحاكمة العادلة لدرجة أن اعتبرها البعض سرابا قانونيا يصعب تحقيقه. فالمحاكمة العادلة ليست رهينة باحترام القانون فحسب، بقدر ما هي رهينة بمدى ملائمة القانون للحالات التي يعالجها من جهة، و مدى قدرة القضاة على التجرد من العوامل الذاتية التي قد تؤثر على استقلالية قراراتهم. و رغم الصعوبة الموضوعية التي تعترض إقرار المحاكمة العادلة، فإن جميع التشريعات الدولية اجتهدت في وضع الشروط التقنية لضمانها، و يتجلى ذلك من خلال النصوص التالية : التصريح العالمي لحقوق الإنسان (الفصل 10 ) الميثاق الدولي للحقوق المدنية (الفصل 14) ميثاق الحقوق الأساسية للإتحاد الأوربي (الفصل 47) الاتفاقية الأوربية لحماية حقوق الإنسان بتاريخ 4 نونبر 1959. و يعتبر الفصل (6) من هذه الاتفاقية الأوربية أهم نص يتعلق بالمحاكمة العادلة من حيث أولوية تطبيقه على القوانين الداخلية و كذا من حيث التأويل الواسع في تطبيق مضمونه من طرف المحكمة الأوربية. و إدا كانت المحاكمة العادلة تهم كلا من القضايا المدنية و الجنائية، فإنها تحظى بأهمية خاصة في الميدان الجنائي اعتبارا للطبيعة الزجرية للمادة الجنائية و مساسها بالحريات الفردية. في هذا الإطار تلعب مؤسسة قاضي التحقيق دورا أساسيا في تحقيق شروط المحاكمة العادلة من خلال المهمة المنوطة بها قانونا، و التي تقتضي مراعاة مصلحتي الفرد و المجتمع و الموازنة بينهما. بالنسبة للمتقاضين في القضايا الجنائية، تكمن أهمية هاته المؤسسة القضائية في كونها ذلك الفاصل الرفيع بين الحرية و الاعتقال، و هذا ما يحتم على قاضي التحقيق التزاما صارما بالقانون، و تحكيما موضوعيا و أخلاقيا للضمير نظرا لخطورة القرارات التي يتخذها و التي تنتهي بالإحالة على القضاء أو بعدم المتابعة. من الأكيد أن المشرع المغربي أرسى ترسانة قانونية قوية و حديثة تضبط بإحكام عمل قاضي التحقيق و تضمن لهذا الأخير الاستقلالية في اتخاذ قراراته، لكن واقع الحال أتبث غير ما مرة أن هاته المؤسسة ذات الأهمية القضائية القصوى تكون أحيانا رهينة عوامل ذاتية و غير موضوعية تؤثر بشكل سلبي على مصالح المتهمين كما على سير المحاكمة. والسبب في ذلك هو انتصار هاجس" إنقاذ المسطرة " على قيم العدالة التي تقتضي البحث عن الحقيقة بشكل مجرد وبعيدا عن كل التأثيرات الخارجية. هذا الهاجس يجعل بعض القضاة المكلفين بالتحقيق يركنون إلى الاكتفاء بإعادة صياغة محاضر الضابطة القضائية و العمل على تزكيتها دون احترام قواعد التحقيق القضائي التي يتضمنها قانون المسطرة الجنائية و يقتضيها احترام المبادئ الأساسية لدستور المملكة، مما يسلك بالتحقيق مسلك الإدانة لا غير. و تتعدد هاته الإختلالات- التي تم رصدها من خلال دراسة بعض القضايا الجنائية- بين: إنكار العدالة من خلال عدم الاستماع إلى شهود النفي، و عدم القيام بإجراء مواجهات يتطلبها منطق بعض القضايا. عدم الاهتمام بادعاءات التعذيب أو الممارسات اللاإنسانية أو غير القانونية التي يصرح المتهمون أنهم كانوا ضحايا لها لدى الشرطة او الدرك، لانتزاع اعترافاتهم أو تضمين المحاضر تصريحات مزيفة لتوريطهم في جرائم هم أبرياء منها و عدم الأمر-احيانا- بإجراء الخبرة الطبية. - صياغة تهم بجرائم تنتفي أركانها القانونية. ناهيك عن التأخير في إصدار قرار الإحالة،و عدم إخطار المتهم بتجديد مدة إيداعه السجن أو تعليل ذلك. و لعل هذه الأسباب هي التي جعلت مؤسسة قاضي التحقيق محط جدل و نقاش بين مقتنع ببقائها و مؤمن بضرورة التخلي عنها كما هو الحال في مجموعة من الدول مثل ألمانيا منذ 1975، و إيطاليا منذ إصلاح 1988، و هولندا 1926، و انجلترا التي تسهر شرطتها على إنجاز التحقيقات تحت الإشراف المباشر للنيابة العامة. في انتظار حسم المشرع المغربي في هذا الأمر- بما يخدم حماية الحريات في إطار قانوني سليم-لابد من التأكيد أن المغرب يتوفر على دستور متقدم وعلى قوانين متطورة يضمن احترامها وتطبيقها توفير كل مقومات دولة الحق والقانون.فالمشكل إذن لا يكمن في قلة القوانين أو كثرتها بقدر ما يكمن في العقليات التي يجب أن تؤمن بتنفيذ هذه القوانين بطريقة سليمة حتى يقطع المغرب الطريق على من يزايد على أهلية سلطته القضائية في تحقيق الأمن القضائي.