دور الصحافة يقتضي تمكين الجمهور من حقه في الحصول على المعلومة أو الخبر الإعلامي كحق من حقوق الإنسان نظمت محكمة النقض الدورة التواصلية الثانية، بمراكش، تحت شعار: « ضوابط الخبر الإعلامي..حرية، مهنية ومسؤولية»»، مؤخرا، لفائدة الصحافيين المنتمين لمختلف المنابر الوطنية، حيث أشرف على تطيرأطيرأطير هذه الدورة نخبة من الممارسين والمتخصصين في المجالين القانوني والإعلامي. وبعد نشرنا في عدد سابق، لمداخلتين هامتين، نعود في عدد اليوم،لمواصلة نشر باقي المداخلات، ويتعلق الأمر بمداخلة الأستاذ جمال سرحان، الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف بخريبكة، في موضوع : «الخبر الإعلامي خلال مرحلة التحقيق الإعدادي»، أكد فيه، أن الصحافة تستمد حقها في الحرية انطلاقا من حق الفرد والمجتمع في الحصول على الخبر الإعلامي ومعرفة ما يجري في مختلف المناحي الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وحتى القضائية، غير أن حرية الصحافة في نقلها للخبر الإعلامي للجمهور- يضيف المتدخل- ليست مطلقة بل مقيدة بمجموعة من الضوابط القانونية التي أقرتها المواثيق الدولية نفسها. حيث تسمح الفقرة الثانية من المادة العاشرة من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان بوضع بعض القيود على الحق في حرية التعبير لحماية المصالح المختلفة، شريطة أن تكون القيود منصوص عليها في القانون، وضرورية في مجتمع ديمقراطي، وتستهدف واحدا من الأهداف المنصوص عليها كحماية «الأمن القومي» ، أو»سلامة أراضي الدولة» ، أو»السلامة العامة»، أو الحماية من الجريمة، أو لحماية الصحة العامة أو الآداب العامة، أو لحماية سمعة وحقوق الآخرين، أو لمنع الكشف عن المعلومات التي تتمتع بالسرية، أو الحفاظ على سلطة ونزاهة القضاء. وفيما يلي الجزء الأول من مداخلته. يعتبر الحق في الصحافة والإعلام حقا إنسانيا خالصا لمختلف الأفراد والجماعات كفلته سائر الاتفاقيات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان وضمنته مختلف دساتير وقوانين العالم، حيث أكدت على سبيل المثال الاتفاقية الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان المدنية والسياسية، التي وافقت عليها الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1996 على هذه الحقوق، في مادتها التاسعة، والتي تضمنت الإشارة بشكل صريح لما يلي: 1. لكل فرد الحق في حرية الرأي. 2. لكل فرد الحق في حرية التعبير، وهذا الحق يشمل: حرية البحث عن المعلومات، أو الأفكار، من أي نوع، وتلقيها، بغض النظر عن الحدود، إما شفاهة، أو كتابة أو طباعة، وسواء كان ذلك، في قالب فني، أو بأية وسيلة أخرى يختارها. 3. ترتبط ممارسة الحقوق المنصوص عليها، في الفقرة الثانية، من هذه المادة، بواجبات ومسؤوليات خاصة، وتخضع لقيود معينة، ولكن فقط بالاستناد إلى نصوص القانون، وشرط أن تكون ضرورية: أ. من أجل احترام حقوق الآخرين أو سمعتهم. ب. ومن أجل حماية الأمن الوطني، أو النظام العام، أو الصحة العامة، أو الأخلاق. وتعتبر حرية الصحافة أحد أشكال حريتي التعبير والرأي، والتي ينبغي لوجودها توفر ثلاثة مقومات رئيسية، وهي: حرية المعرفة: وهي الحق في الحصول على المعلومات اللازمة حتى يستطيع المجتمع تنظيم حياته والحصول على قدر من المشاركة في الحكم، وهو حق اجتماعي لعامة الجماهير. حرية القول: وهي الحق في نقل المعلومات، بحرية، وتكوين رأي، في أي موضوع، والمناقشة حوله. وهو بدوره حق المجتمع، تؤديه عنه وسائل الإعلام. ثم حرية البحث: وهي الحق في اتصال وسائل الإعلام بمصادر المعلومات، التي يجب معرفتها، ونشرها. وهو حق للمجتمع كذلك، تؤديه عنه وسائل الإعلام. وبناء على ما تقدم، يمكن القول أن الصحافة تستمد حقها في الحرية انطلاقا من حق الفرد والمجتمع في الحصول على الخبر الإعلامي ومعرفة ما يجري في مختلف المناحي الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وحتى القضائية، غير أن حرية الصحافة في نقلها للخبر الإعلامي للجمهور ليست مطلقة بل مقيدة بمجموعة من الضوابط القانونية التي أقرتها المواثيق الدولية نفسها. حيث تسمح الفقرة الثانية من المادة العاشرة من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان بوضع بعض القيود على الحق في حرية التعبير لحماية المصالح المختلفة، شريطة أن تكون القيود منصوص عليها في القانون، وضرورية في مجتمع ديمقراطي، وتستهدف واحدا من الأهداف المنصوص عليها كحماية «الأمن القومي» ، أو»سلامة أراضي الدولة» ، أو»السلامة العامة»، أو الحماية من الجريمة، أو لحماية الصحة العامة أو الآداب العامة، أو لحماية سمعة وحقوق الآخرين، أو لمنع الكشف عن المعلومات التي تتمتع بالسرية، أو الحفاظ على سلطة ونزاهة القضاء . وهو نفس المسلك سلكه المشرع المغربي بمناسبة تنظيمه لحرية الصحافة دستورا وقانونا، حينما نص في المادة 1 من قانون الصحافة المؤرخ في 15/11/1958 على: - إن حرية إصدار الصحف و الطباعة و النشر و ترويج الكتب مضمونة طبقا لهذا القانون. - للمواطن الحق في الإعلام. - لمختلف وسائل الإعلام الحق في الوصول إلى مصادر الخبر والحصول على المعلومات من مختلف مصادرها ما لم تكن هذه المعلومات سرية بمقتضى القانون. - تمارس هذه الحريات في إطار مبادئ الدستور وأحكام القانون وأخلاقيات المهنة، وعلى وسائل الإعلام أن تنقل الأخبار بصدق وأمانة.» ونص في دستور 2011 في الفصول: 25-: «حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها» 27-: «للمواطنات والمواطنين حق الحصول على المعلومات الموجودة في حوزة الإدارة العمومية والمؤسسات المنتخبة والهيئات المكلفة بمهام المرفق العام . لا يمكن تقييد الحق في المعلومة إلا بمقتضى القانون بهدف حماية كل ما يتعلق بالدفاع الوطني وحماية أمن الدولة الداخلي والخارجي والحياة الخاصة للأفراد وكذا الوقاية من المس بالحريات والحقوق الأساسية المنصوص عليها في هذا الدستور وحماية مصادر المعلومات والمجالات التي يحددها القانون بدقة.» 28-: «حرية الصحافة مضمونة ولا يمكن تقييدها بأي شكل من أشكال الرقابة القبلية. - للجميع الحق في التعبير ونشر الأخبار والأفكار والآراء بكل حرية ومن غير قيد، عدا ما ينص عليه القانون صراحة. - تشجع السلطات العمومية على تنظيم قطاع الصحافة بكيفية مستقلة وعلى أسس ديمقراطية وعلى وضع القواعد القانونية والأخلاقية المتعلقة به. يحدد القانون قواعد تنظيم وسائل الإعلام العمومية ومراقبتها ويضمن الاستفادة من هذه الوسائل مع احترام التعددية اللغوية والثقافية والسياسية للمجتمع المغربي. وتسهر الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري على احترام هذه التعددية وفق أحكام الفصل 165 من الدستور.» وإذا كان دور الصحافة يقتضي تمكين الجمهور من حقه في الحصول على المعلومة أو الخبر الإعلامي كحق من حقوق الإنسان في كل ما يهم مناحي تنظيم حياته في مختلف المجالات والميادين الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، فإن هذا الدور يصبح دقيقا ومعقدا، عندما يتعلق الأمر بالمعلومة القضائية الموجودة حصرا لدى السلطة القضائية المؤتمنة بحسب الدستور نفسه على حماية الحقوق والحريات الأساسية للأفراد والجماعات ومفروض فيها الحياد والاستقلال في مواجهة باقي السلط وخاصة سلطة الإعلام – أو السلطة الرابعة أو صاحبة الجلالة كما يحلو للبعض أن يطلق عليها- وحماية سرية الأبحاث، وخاصة عندما يتعلق الأمر بمرحلة التحقيق الإعدادي، التي يحكمها مبدأ السرية طبقا لمقتضيات المادة 15 من قانون المسطرة الجنائية. حيث إنه إذا كان قاضي التحقيق يعمل في صمت ويعتمد على عنصر الوقت والسرية لإظهار الحقيقة وتحقيق العدالة الجنائية، فإن الصحفي في بحثه عن الخبر الإعلامي والسبق الصحفي يسابق الزمن ويكسر الصمت لإعلان الخبر للرأي العام، وهو تناقض يؤدي أحيانا بالصحفي إلى الوقوع في أخطاء قانونية قاتلة في حالة عدم تحريه المصداقية والموضوعية والأمانة عند صياغة ونقل الخبر إما بنشره أنباء زائفة حول قضية معينة أو توجيهه السب والقذف في حق أطراف القضية أو مؤسسة التحقيق أو قاضي التحقيق نفسه، أو بنشره لوثائق الاتهام وخرق سرية التحقيق وما يترتب عن ذلك من مساس بحقوق الدفاع وقرينة البراءة. وانطلاقا مما ذكر، فإن ممارسة الصحافة لحقها في صياغة ونقل الخبر الإعلامي القضائي خلال مرحلة التحقيق الإعدادي، وتمكين الجمهور من المعلومة القضائية بشأن مجريات ملف قضائي معين في إطار الحق في الإعلام، ينبغي أن يراعي مجموعة من القيود القانونية، منها ما هو متعلق بمصلحة المتهم، ومنها ما هو متعلق بمصلحة التحقيق والعدالة. المطلب الأول: القيود القانونية المتعلقة بمراعاة مصلحة المتهم كفل المشرع للمتهم في مرحلة التحقيق الإعدادي في إطار ضمانات المحاكمة العادلة نوعين من الضمانات القانونية في علاقتها بالإعلام، الحق في قرينة البراءة والحق في الصورة الفقرة الأولى: الحق في قرينة البراءة لقد كرست المواثيق الدولية قرينة البراءة، حيث نصت المادة 11-1 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان المؤرخ في 10 ديسمبر 1948 على أن كل شخص متهم بجريمة يعتبر بريئا إلى أن تثبت إدانته قانونا وفق محاكمة عادلة تؤمن له فيها الضمانات الضرورية للدفاع عنه . ونصت أيضا المادة 14-2 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي دخل حيز التنفيذ في 23 مارس 1976على انه: « لكل فرد متهم بتهم جنائية الحق في أن يعتبر بريئا ما لم تثبت إدانته طبقا للقانون «. وعلى الصعيد الأوروبي نصت المادة 6-2 من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان على أن كل متهم ارتكب جريمة يعد بريئا حتى تثبت إدانته وفقا للقانون ولكل شخص الحق في التمتع بالحرية والأمن وانه لا يجوز أن يحرم فرد من حريته إلا في الحالات الاستثنائية، ويشترط أن يكون ذلك طبقا للقانون. كما أكد المؤتمر الثاني عشر لقانون العقوبات الذي عقد في هامبورغ سنة 1979 أن قرينة البراءة هي مبدأ أساسي في العدالة الجنائية . وقرينة البراءة قرينة دستورية حيث نص الفصل 23 من دستور المملكة على أن قرينة البراءة والحق في محاكمة عادلة مضمونان، كما اعتبر الفصل 119 من نفس الدستور أن كل متهم بارتكاب جريمة يعتبر بريئا إلى أن تثبت إدانته بمقرر قضائي مكتسب لقوة الشيء المقضي به، وهو نفس المعنى الذي كررته مقتضيات المادة 1 من قانون المسطرة الجنائية. ويفرض واجب احترام قرينة براءة المتهم في مرحلة التحقيق الإعدادي، على سلطة الإعلام عند معالجتها للخبر الإعلامي حول قضية معينة، الامتناع عن إصدار أحكام مسبقة وجاهزة على المتهم الجاري التحقيق في مواجهته، ولو تعلق الأمر بالقضايا الإجرامية الخطيرة التي تستأثر أحيانا باهتمام وتتبع الرأي العام، كقضايا المال العام، لأن في احترام الصحافة لقرينة براءة المتهم احترام للجهة القضائية التي تحقق معه، وعوض أن تنجرف الصحافة وراء مشاعر الجمهور وتصدر أحكاما مسبقة بالإدانة في حق المعني بالأمر يجب أن تلعب دور الموجه والمؤطر على النحو الذي يشيع في نفس الجمهور الثقة بالعدالة والجهة القضائية التي تحقق مع المتهم. وكما يقال، في أدبيات الصحافة: «يجب أن يعبر الصحفي دون أن يضر وان يبين دون أن يصدم أو أن يشهد دون أن يعتدي أو يستنكر دون أن يحاكم.» ولقد أعطى المشرع الفرنسي بموجب القانون رقم 2-92 المؤرخ في 04/01/1993 الحق لكل فرد انتهكت براءته اللجوء للقضاء للمطالبة بوقف انتهاك قرينة البراءة، حيث يحق للقاضي أن يطلب فورا إدخال تصحيح الأخبار التي نشرت في حق شخص أو وقائع ما زالت محل تحقيق قضائي وذلك بغية إيقاف انتهاك قرينة البراءة. وحماية لقرينة البراءة أسست محكمة النقض الفرنسية قضاءها بإدانة إعلامي نشر في التلفزيون تقريرا يفيد القطع بإدانة المتهم بموجب الحكم المؤرخ في20 يونيو سنة2002 علي اعتبار أن ذلك يعتبر مساسا بقرينة البراءة. وفي غياب نص خاص يعطي للمتهم في القانون المغربي الحق في المطالبة قضائيا بوقف انتهاك قرينة البراءة، يبقى من حق المتهم طبقا لقانون الصحافة التقدم في مواجهة وسائل الإعلام التي مست ببراءته إما بشكاية جنحية أمام القضاء الزجري من اجل القذف والسب أو نشر أنباء زائفة أو رفع دعوى المسؤولية التقصيرية أمام القضاء المدني. وتجب الإشارة إلى انه انطلاقا من كون الممارسة العملية أثبتت أنه غالبا ما يتم التشنيع بالمتهم قبل انتهاء التحقيق، فقد ارتأى المشرع الفرنسي أن يتجاوز هذا الوضع بهدف حماية قرينة البراءة، وذلك في حالة انتهاء التحقيق بإصدار أمر بعدم المتابعة، بأن أجاز لقاضي التحقيق أن يأمر بناء على طلب صاحب العلاقة إما بنشر قراره بعدم وجود وجه لإقامة الدعوى كليا أو جزئيا, أو نشر أسباب الحكم ومنطوق هذا الأمر في واحد أو أكثر من الصحف الدورية والإذاعات التي يحددها. وهو الاتجاه نفسه الذي كرسه المشرع المغربي بموجب المادة 216 من ق م ج التي نصت صراحة على ضمانة أكيدة للمتهمين الذين يسفر التحقيق عن عدم متابعتهم كليا من جميع الأفعال التي التمست النيابة العامة التحقيق معهم فيها أو بعضها، حيث أكدت على ما يلي: « يمكن لقاضي التحقيق أن يأمر بنشر القرار بعدم المتابعة كليا أو جزئيا بناء على طلب الشخص المعني أو بطلب من النيابة العامة بصحيفة أو عدة صحف» الفقرة الثانية: الحق في الصورة تعد صورة المتهم امتدادا للحق في قرينة البراءة، حيث إن التزام الصحافة بواجب عدم إصدار أحكام مسبقة على المتهم الجاري التحقيق في مواجهته، يفرض عليها عدم تصويره أو تسجيله أو نشر صوره دون موافقة منه، أو حتى نشر تحقيق أو تعليق أو استطلاع للرأي عنه، حيث نصت في هذا الشأن مقتضيات المادة 303 من قانون المسطرة الجنائية بشكل صريح على ما يلي:»يمكن للرئيس بعد أخذ رأي النيابة العامة أن يأذن باستعمال آلات التصويرأو التسجيل أو الإرسال أو الالتقاط أو الاتصال المختلفة، بقاعة الجلسات أو في أي مكان آخر يجري به تحقيق قضائي. ويعاقب عن مخالفة هذه المقتضيات بغرامة تتراوح بين خمسة آلاف وخمسين ألف درهم، وتصادر المحكمة الآلات والأشرطة عند الاقتضاء. يعاقب بنفس العقوبة كل من يقوم بتصوير شخص في حالة اعتقال أو يحمل أصفادا أو قيودا دون موافقة منه. وكل من يقوم بنشر صورة أخذت في الظروف المذكورة دون إذن صاحبها. يتعرض لنفس العقوبة كل من يقوم بأية وسيلة كانت بنشر تحقيق أو تعليق أو استطلاع للرأي يتعلق بشخص تجري في حقه مسطرة قضائية بصفته متهما أو ضحية دون موافقة منه، سواء كان معينا باسمه أو بصورته أو يمكن التعرف عليه من إشارات أو رموز استعملت في النشر. تجري المتابعة في الحالتين المشار اليهما في الفقرتين السابقتين بناء على شكاية من المعني بالأمر. يعاقب عن الأفعال المشار إليها في هذه المادة إذا تم ارتكابها قبل إدانة الشخص المعني بالأمر بحكم مكتسب لقوة الشيء المقضي به.» المطلب الثاني: القيود القانونية المتعلقة بمراعاة مصلحة التحقيق والعدالة تدور القيود القانونية المتعلقة بمراعاة مصلحة التحقيق والعدالة جملة وتفصيلا مع أهم مبدأ وخاصية تحكم مرحلة التحقيق الإعدادي، وهي سرية التحقيق التي تناولها المشرع في المادة 15 من قانون المسطرة الجنائية على النحو التالي: « تكون المسطرة التي تجري أثناء البحث والتحقيق سرية. كل شخص يساهم في إجراء هذه المسطرة ملزم بكتمان السر المهني ضمن الشروط وتحت طائلة العقوبات المقررة في القانون الجنائي.» حيث إنه إذا كان من حق الصحفي تنوير الرأي العام حول قضية معينة تستأثر باهتمامه، فإن هذا الحق غالبا ما يصطدم بسرية التحقيق التي تمنع على جميع الأشخاص المساهمين في مسطرة التحقيق الإعدادي تحت طائلة الجزاء الجنائي المنصوص عليه في الفصل 446 من القانون الجنائي إفشاء الأسرار المهنية المتعلق بملفات التحقيق الرائجة، مما يصعب من مهمة الصحفي في نقل الخبر الإعلامي للجمهور، خاصة أمام غياب نص خاص يسمح بإمكانية إشعار الرأي العام بمعطيات حول ملف من الملفات المعروضة على القضاء دون أن يؤدي ذلك إلى المساس بسرية التحقيق. وعموما يبدو أن سرية التحقيق في المغرب كما في غيره من الدول تعاني من أزمة على مستوى الفهم والممارسة. الشيء الذي بات معه من الضروري إعادة بنائها كمفهوم ومحاولة إيجاد صيغة تشريعية كفيلة بالتوفيق بين الرغبة المتزايدة في الاستجابة للخبر والحق في المعلومة وبين كفالة قرينة البراءة التي تعتبر سرية التحقيق أبرز ضمانة لها. فعلى الرغم من كون سرية التحقيق مقررة منذ أن تم سن أول تشريع للمسطرة الجنائية في المغرب إلا أن ما يجري تداوله في مغرب اليوم من معلومات، وما يتم نشره من أخبار ومقالات وصور تتعلق بملفات رائجة أمام التحقيق يدفع إلى الاعتقاد أن التحقيق على غرار المحاكمة أصبح علنيا ومفتوحا أمام الجمهور.فلا تكاد تخلو جريدة أو مجلة من تناول مستفيض لأسماء ووقائع، بل ونشر صور أحيانا للأشخاص المتهمين المعروضين على قضاة التحقيق. وتبعا لما ذكر، يكون من المفيد التطرق بشكل مركز لأحكام سرية التحقيق من حيث مفهومها وعناصرها ومبرراتها وجزاء الإخلال بها. الفقرة الأولى: مفهوم سرية التحقيق وعناصرها أولا: مفهوم سرية التحقيق كرست المادة 15 من قانون المسطرة الجنائية المغربي سرية التحقيق الابتدائي كمبدأ من المبادئ الهامة التي سارت عليها معظم التشريعات الإجرائية المعاصرة، وتنبع أهمية السرية من أنها ترمي إلى حماية المتهم البريء من الزج به ظلما وعدوانا في السجن، فضلا عن كونها أمرا لازما لاكتشاف الحقيقة، ولذا كانت السرية مقررة لصالح المتهم ولصالح العدالة في آن واحد. وبالرغم من هذه الأهمية المزدوجة للسرية فإن موقف التشريعات الإجرائية تأرجح بين سرية الإجراءات وعلانيتها في مرحلة التحقيق الابتدائي وفقا للنظام الإجرائي الذي ينتمي إليه التشريع وبسبب الفكر السياسي الذي تعتنقه الدولة. ويجمع الفقه على أن فكرة سرية التحقيق الابتدائي تزامن ظهورها مع ما يعرف بالنظام التفتيشي في القانون الروماني ، ثم أخذ به القانون الكنسي ابتداء من القرن الثاني عشر، حيث كانت المحاكم الكنسية تباشر إجراءات التحقيق في سرية مطلقة، سواء بالنسبة للخصوم أو الجمهور، وكان يتم سماع كل شاهد في جلسة سرية على انفراد، ولم يكن من حق المتهم الاطلاع على أوراق التحقيق، وطبق هذا النظام بعد ذلك أمام المحاكم المدنية وانتشر في فرنسا وغيرها من دول أوربا في القرن الثالث عشر.وبالرجوع إلى التعريفات التي أعطيت لسرية التحقيق يمكن أن نميز من خلالها بين ثلاث اتجاهات على النحو التالي: الاتجاه الأول : يرى أنصاره أن السرية تتحقق بمباشرة التحقيق وإجراءاته في غيبة المتهم ومحاميه .وهو الأمر الذي سائدا في القوانين القديمة، إذ كانت إجراءات التحقيق تتم في غيبة المتهم، وفي سرية مطلقة بالنسبة للجمهور. إلا أن التشريعات الجنائية المعاصرة سرعان ما تركت هذا المفهوم، وقررت وجوب مباشرة إجراءات التحقيق الإعدادي في مواجهة المتهم كقاعدة عامة، مع الاحتفاظ بسرية هذه الإجراءات بالنسبة للجمهور،بمعنى أنها أخذت بالسرية النسبية، مما دفع البعض إلى وصف هذا الاتجاه بأنه قاصر عن وضع تعريف واضح لسرية التحقيق يتماشى مع النصوص القانونية التي تؤكد على قاعدة سرية التحقيق من ناحية، و تقرر وجوب إجراء التحقيق في حضور المتهم ومحاميه من ناحية أخرى الاتجاه الثاني : يذهب هذا الاتجاه إلى التمييز بين نوعين لسرية التحقيق: الأولى وتسمى بالسرية الداخلية (أي بالنسبة للمتهم)، والثانية سريته بالنسبة للجمهور وتسمى بالسرية الخارجية. وهذا التقسيم لا يثير أي مشاكل حيث جعل التحقيق بالنسبة للمتهم علنيا في الأصل، والاستثناء هو سريته في حالات معينة نص عليها على سبيل الحصر، وبعدها يباح له الاطلاع على ما تم من إجراءات في غيبته، أما بالنسبة للجمهور فهو سري حيث جعل التحقيق يجري في سرية مطلقة. الاتجاه الثالث : يرى أن المقصود بسرية التحقيق هو عدم السماح للجمهور بحضور إجراءاته،وحظر نشر أخباره ومحاضره وما يسفر عنه من نتائج وما يتصل به من أوامر. ونرى مع العديد من الفقهاء، أن هذا الاتجاه في تعريف سرية التحقيق هو الأولى بالتأييد، حيث إن المقصود بسرية التحقيق هو ما يطلق عليه بالسرية الخارجية للجمهور، تأسيسا على كون المشرع عندما نص على سرية التحقيق، فإنه يقصد بذلك سريته بالنسبة للجمهور وامتناع اطلاعه على مجرياته،حماية لسمعة المتهم وحفاظا على قرينة البراءة المفترضة فيه وصونا لحقوق الدفاع من جهة. ومن جهة أخرى أن المشرع خرج على استثناء السرية بالنسبة للمتهم ودفاعه حيث سمح لهذا الأخير بالاطلاع على ملف التحقيق تطبيقا للمادة 139 من ق م ج وعلى هذا الأساس يكون المقصود بسرية التحقيق أن جمهور الناس لا يصرح لهم بالدخول في المكان الذي يجرى التحقيق فيه، ولا أن تعرض محاضر التحقيق على الكافة للإطلاع عليها، كما لا يجوز لوسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية إذاعتها. غير أن السرية تبقى نسبية، بحيث يستثنى منها أطراف الدعوى ودفاعهم ثانيا: عناصر سرية التحقيق من خلال التعريفات التي أعطيت لسرية التحقيق يتبين أنها تقوم على عنصرين اثنين أولهما منع حضور الجمهور لمجرياته، وثانيهما حظر نشر إجراءاته وما أسفر عنه من نتائج، وكل ذلك كفالة لقرينة البراءة المفترضة للمتهم من ناحية، وخدمة للتحقيق والعدالة من ناحية أخرى. 1 - منع حضور الجمهور أثناء التحقيق من الآثار المرتبة على مبدأ سرية التحقيق منع الجمهور من الحضور أثناء التحقيق، فباستثناء المتهم والمطالب المدني ودفاعهما وكذلك الشهود الذين لا يجوز لقاضي التحقيق تلقي شهادتهم في جلسة علنية، فإنه يحظر على أي كان الدخول إلى مكان التحقيق, والغاية من وراء ذلك بطبيعة الحال هو حسن سير التحقيق وحماية لسمعة الفرد من التشهير به خاصة إذا انتهى قاضي التحقيق إلى إصدار أمر بعدم المتابعة. لذلك يترتب عن علانية التحقيق إهدار لمبدأ قرينة البراءة التي نصت عليها معظم دساتير العالم وتشريعاتها ومواثيقها. ولما كانت سرية التحقيق تدور وجودا وعدما مع التحقيق الإعدادي فإن الالتزام بها يلازم التحقيق إلى حين إصدار أمر بالإحالة مادامت المحاكمة تكون علنية اللهم ما استثناه القانون. أما إذا صدر أمر بعدم المتابعة فإن ملف القضية يحفظ في مكتب التحقيق وتبقى نتائجه سرية إلى حين ظهور أدلة جديدة بمفهوم المادة 229 ق م ج التي اعتبرت أدلة جديدة شهادة الشهود والمستندات والمحاضر التي لم يكن في الإمكان عرضها على قاضي التحقيق لدراستها، والتي من طبيعتها إما أن تعزز الأدلة التي تبين أنها جد ضعيفة، وإما أن تعطي للأفعال تطورات مفيدة لإظهار الحقيقة. والأمر نفسه لو ارتأت المحكمة اللجوء إلى التحقيق التكميلي على النحو المقرر في المادة 439 من ق م ج حيث يكتسي التحقيق المباشر من طرف المستشار المعين من طرف الهيئة طابعا سريا إلى حين إحالة القضية للمحاكمة التي تتسم إجراءاتها بالعلانية للجمهور. 2 - منع نشر وتداول معطيات التحقيق عبر وسائل الإعلام أو غيرها لا يكفي لتحقق مبدأ سرية التحقيق الاقتصار فقط على منع الجمهور من حضور التحقيق فقط وإنما يستلزم علاوة على ذلك حظر نشر معطيات التحقيق بأية وسيلة من الوسائل، حيث يتعين منع الصحفيين وكافة وسائل الإعلام من التواجد أثناء التحقيق. وقد أثير التساؤل بخصوص الطبيعة القانونية لسرية التحقيق حيث يتفق المشرع المغربي على غرار نظيره المصري والفرنسي من اعتبار إجراءات التحقيق من أسرار المهنة التي يعاقب على إفشائها وفقا لأحكام القانون الجنائي. فإلى جانب المادة 15 ق م ج التي تعد نصا عاما يخص الملزمون بسرية التحقيق ممن أشرفوا أو ساهموا في مجرياته فقد عاقب المشرع على خرق سرية التحقيق بموجب الفصل 446 من القانون الجنائي.ويذهب البعض إلى أن الالتزام بالمحافظة على أسرار التحقيق يعد من أسرار المهنة, ويكفي للإخلال بالالتزام بالمحافظة على سرية التحقيق أن يقع الإفشاء على إجراء واحد من إجراءات التحقيق,حتى لو لم ينشر في الصحف، ويظل هذا الالتزام قائما على الرغم من رضاء المتهم بإفشاء السر حيث إن الأمر لا يتوقف على مصلحة المتهم وإنما يمتد إلى مقتضيات أمانة الوظيفة ذاتها.على أن حصانة نشر الإجراءات القضائية تبقى مقصورة على مرحلة المحاكمة التي تتسم دائما بالعلانية، أما قبل ذلك فقد استقرت محكمة النقض المصرية على أن مجرد نشر التهمة يعد جريمة قذف وسب وتطبيقا لذلك قضت بأن «نشر التهمة المسندة إلى المتهم يعد قذفا ولو ثبت أنها كانت موضوعا للتحقيق». كما قررت في حكم آخر لها أن حصانة النشر مقصورة على الإجراءات القضائية والأحكام التي تصدر علنا.ولا تمتد إلى التحقيق الابتدائي ولا إلى التحقيقات الأولية أو الإدانة لأنها ليست علنية ولا يشهدها غير الخصوم ووكلائهم ومن ينشر وقائع مع هذه التحقيقات أو ما يقال فيها فإنما ينشر ذلك على مسؤوليته وتجوز محاسبته جنائيا عما يتضمنه النشر من قذف وسب وإهانة. -وعليه يبدو أن من شأن تطبيق المقتضيات القانونية المتعلقة بخرق سرية التحقيق في المغرب أن يؤدي إلى متابعة العديد من الصحفيين الذين يعملون بدافع من الرغبة في إخبار الرأي العام إلى خرق المقتضيات القانونية والمس بقرينة البراءة، وبالأسس التي تم الاستناد عليها لتقرير سرية التحقيق. غير أن سلطة الملاءمة التي تملكها النيابة العامة تجعلها تتغاضى عن المتابعة، اللهم إلا إذا تقدم المعنيون بشكاية في الموضوع أو كان خرق السر المهني من شأنه أن يلحق ضررا بالغا بمجريات التحقيق فإنها تكون ملزمة بتحريك الدعوى العمومية، غايتها في ذلك تحقيق الردع الخاص المتمثل في إيقاع العقوبة على من عمد إلى إفشاء أسرار التحقيق من جهة، والردع العام المتمثل في توجيه رسالة إلى العموم لتذكيرهم بأن سرية التحقيق واجبة الاحترام تحت طائلة العقوبات والجزاءات المقررة لذلك قانونا. الفقرة الثانية: مبررات سرية التحقيق وجزاء الإخلال بها أولا، مبررات سرية التحقيق دفعت الممارسة الإعلامية في مختلف الدول فقهاء القانون إلى التأكيد على أن مبدأ سرية التحقيق يكاد يصبح عقيما وذلك نتيجة للانتهاكات التي يتعرض لها يوميا وخاصة من قبل القائمين عليه والصحفيين، إلى الحد الذي جعل أنصار هذا الاتجاه يصفون السرية بأنها مهزلة كنتيجة ما تنشره الصحافة عن إجراءات التحقيق والتي يجب أن تظل في سرية. ولذلك ارتأى اتجاه آخر في الفقه الفرنسي،أنه يتعين رفع السرية عن إجراءات التحقيق، على سند من القول بأن العلانية من شأنها إنارة الطريق أمام سلطة التحقيق في إجراء التحقيق وأن تجنب هذه العلانية غير قانوني, لتعارض ذلك مع طبائع الأخلاق والعادات المعاصرة فضلا عن كون العلانية تستمد مشروعيتها من «حرية المعلومات» والحق في الوصول إلى الخبر الذي نصت عليه العديد من المواثيق الدولية.غير أن هذه المبررات لا تصمد أمام الأسس التي يعتمد عليها القائلون بوجوب الأخذ بسرية التحقيق والتي يمكن أن نفصل القول فيها على النحو التالي: 1 - حماية حقوق المتهم من المجمع عليه قانونا وفقها أن للمتهم حقوقا يحميها القانون ويقرر العقاب على إهدارها والمساس بها, ومن هذه الحقوق «الحق في الخصوصية» الذي أكدت عليه المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، وما يتفرع عنه من حق الإنسان في الحفاظ على سمعته من التشهير به. وما يجعل مجريات التحقيق مع المتهم تكتسي طابع الخصوصية كون الاتجاه المعاصر في التحقيق لا يكتفي فقط باتخاذ جميع الإجراءات التي تكفل جمع الأدلة عن التهمة, وإنما تتعداها إلى التحري عن ظروف المتهم الشخصية والاجتماعية والنفسية والمادية والعائلية وهو ما يعرف بملف الشخصية .والذي نصت عليه مقتضيات المادة 87 من ق م ج بقولها : « يقوم قاضي التحقيق إلزاميا في مادة الجنايات، واختياريا في مادة الجنح بإجراء بحث حول شخصية المتهم وحالته العائلية والاجتماعية.»ولذلك ذهب الفقهاء إلى أن من شأن اعتماد العلانية في التحقيق أن يؤدي إلى ترك انطباع سيئ لدى الرأي العام حيال المتهم, وأن هذا الانطباع يصعب محوه ولو انتهى التحقيق بصدور قرار بعدم المتابعة، لكون الاعتقاد في الغالب يميل إلى أن عدم المتابعة ترجع إلى عدم كفاية الأدلة أكثر منه إلى براءة المتهم الحقيقية.لذلك اعتبرت محكمة النقض المصرية في عدة أحكام مشهورة عنها في هذا الخصوص, أن «مجرد نشر التهمة المسندة إلى المتهم يعد جريمة ولو ثبت أنها كانت موضوعا للتحقيق». 2 - حماية المتهم من تأثير الرأي العام: لعل من بين أهم الأسباب التي دعت إلى الأخذ بنظام سرية التحقيق هو الحيلولة دون أن يتم التأثير على المتهم أو القاضي أو الشهود من طرف الرأي العام، الذي غالبا ما يتم تكييفه بل وتهييجه أثناء وقوع بعض الجرائم من طرف وسائل الإعلام التي تهوى نشر الفضائح، الأمر الذي دفع جانبا من الفقه المصري إلى القول أن التجربة العملية تشير إلى تعاظم الإخلال بهذا الالتزام,وعلى وجه التحديد من قبل وسائل الإعلام المعاصرة لما تتميز به من جرأة وقوة ضاغطة، وسعي وراء الإثارة لأغراض تجارية غالبا للأسف الشديد, بل إن بعض جهات التحقيق ذاتها غالبا ما تبدي عدم رضائها عن الإطار السري للتحقيق وبعض المحققين يذهب إلى حد عقد «مؤتمرات صحفية» بخصوص الجرائم التي يجري التحقيق بشأنه لأن الناس تهوى الشهرة في هذا الزمان. ومن هنا شرعت السرية خشية من تأثير الرأي العام في سلطة التحقيق فيضطر المحقق إلى إصدار قراره متأثرا بالرأي العام مما يرتب على ذلك آثار سلبية تلحق بالمتهم الأمر الذي جعل بعض الشراح يقول إن علة مباشرة التحقيق في سرية عن الجمهور تتحقق في أن الدعوى الجزائية في مرحلة التحقيق تهتم بجمع أدلة الإثبات مما يقتضي العمل فيها بعيدا عن الجمهور ضمانا لجدية الإجراءات التالي, وعدم تأثرها بانفعال الجماهير.ومن هنا نقول إن سرية التحقيق تعتبر وسيلة فعالة لحماية الأفراد المتهمين من الإساءة لهم, أو كما وصفها البعض أنها وسيلة إجرائية لحماية الخصومة من التأثير. 3- عدم عرقلة إجراءات التحقيق: من المؤكد أن مباشرة إجراءات التحقيق في سرية تامة من شأنه أن يساعد سلطة التحقيق على تأدية مهامها بفاعلية والتوصل إلى الحقيقة في أقصر وقت وفي يسر, خلافا لو تم نشر معلومات عن التحقيق وإجراءاته فإن ذلك قد يؤدي حتما إلى عرقلة سير التحقيق خاصة عندما تظهر أقوال في الصحف, غير التي أدلى بها الشهود في التحقيقات, أو عندما تنشر الصحف بعض سوابق المتهم. ذلك أن وسائل الإعلام لا تقنع ولا تقف عند حد نشر أخبار التحقيق بل إنها تنسج الروايات حول المتهم, ثم هي تجري تحقيقها الخاص بها وتقوم بعمل سيناريو للمتهم والشهود قبل أن تفرغ سلطات التحقيق من سؤالهم الأمر الذي يؤدي إلى عرقلة سير التحقيق ويزعزع اطمئنان الناس حول صحة الإجراءات القضائية التي اتخذت. ولكون إلمام الصحافة في كثير من الحالات بالإجراءات المسطرية يبقى محدودا فإنها تسيء من حيث لا تعلم إلى التحقيق، بل وتخلط في نسبة بعض الإجراءات المتخذة إلى غير مصدرها، وتعلق على تلك الإجراءات بنوع من السطحية، مما يخلق البلبلة لدى الرأي العام، وتنقل إليه صورة مضللة عن العدالة الجنائية. 4- الحفاظ على قرينة البراءة: تبقى الغاية المثلى من وراء اعتماد سرية التحقيق حماية قرينة البراءة والتي تعد من الضمانات الدستورية الأساسية لحماية الحرية الشخصية للمتهم في مواجهة سلطات الدولة، فتحريك الدعوى العمومية في مواجهة شخص ما لا يعني بالجزم أنه مذنب، إذ يتمتع بقرينة البراءة التي تقتضي عدم المساس بحقوقه التي كفلها له الدستور والقانون ولا يثبت الاتهام الفعلي ضد الفرد إلا بعد جمع كافة الأدلة ضده وإثباتها, وانتهاء محاكمته بصدور حكم نهائي بات. وعلى هذا الأساس، تم تقرير سرية التحقيق، لأنه عندما تطبق العلانية ويباح نشر تفاصيل الحوادث ومرتكبيها والتعرض لحياتهم الخاصة, فإن ذلك يعد تعديا خطيرا على قرينة البراءة. فالإجماع منعقد على أن الالتزام بالحفاظ على سرية التحقيق يحقق الضمانة القانونية المقررة للمتهم وهي « قرينة البراءة» والتي لا يمكن أن تتحقق إلا إذا كان التحقيق سريا. ثانيا: جزاء الإخلال بسرية التحقيق لم يكتف المشرع بالتنصيص على وجوب أن تكون مسطرة التحقيق سرية وإنما رتب عن خرقها جزاء جنائيا من الناحيتين الموضوعية والإجرائية وآخر تأديبيا. 1 - الجزاء الجنائي على غرار التشريعات المقارنة أحاط المشرع الفرنسي سرية التحقيق والأسرار المهنية بحماية قانونية سواء في قانون المسطرة الجنائية أو القانون الجنائي، كما تدخل الفقه والقضاء لتسليط الضوء على مختلف الجوانب المتعلقة بسرية التحقيق والأسرار المهنية. وبالنظر للتراكمات القضائية التي تحققت على مستوى القضاء الفرنسي والتقدم التشريعي فيما يخص تنظيم جريمة خرق السر المهني، وأخذا بعين الاعتبار لواقع الممارسة الإعلامية فيما يتعلق بتناول القضايا المعروضة على التحقيق حيث هناك نوع من التسيب في تناول ملفاته، نرى من المفيد أن نقف على القانون الفرنسي الذي استطاع تعديل المادة 11 من قانونه الإجرائي والتي تقابلها المادة 15 من ق م ج المغربي،بما يستجيب للرغبة في إخبار الرأي العام وتجاوز ترويج الإشاعة، ولوضع حد لكل اضطراب في الرأي العام، حيث سمح لوكيل الجمهورية تلقائيا أو بطلب من قضاء التحقيق أو الأطراف أن ينشر للعموم بعضا من المعطيات الموضوعية المستقاة من المسطرة ودون أن يتضمن ذلك أية إشارة إلى الأدلة أو الدلائل التي تدين المشتبه به. كما نرى من الواجب في المغرب وعلى ضوء تنامي ظاهرة الترويج لمعطيات مغلوطة اتجاه الملفات التي يجري التحقيق بشأنها أن نستلهم نص الفقرة الثانية من المادة 11 من قانون المسطرة الجنائية الفرنسي، وندخل تعديلا على المادة 15 من ق م ج وذلك بإضافة فقرة ثالثة يتم من خلالها السماح لوكيل الملك أو الوكيل العام للملك تلقائيا و كلما رأى ذلك ضروريا، أو بناء على طلب من جهة رسمية أن يعمل إلى نشر بيان يتعلق ببعض من المعطيات المستقاة من ملف التحقيق ( كالأفعال الملتمس إجراء تحقيق بشأنها، وعدد المتهمين دون أسمائهم، ) دون أن يؤدي ذلك إلى المساس بقرينة البراءة أو سرية التحقيق.وذلك حتى نظفي طابع المشروعية على العديد من البيانات التي تصدرها النيابات العامة بين الفينة والأخرى. ومن التطبيقات القضاء الفرنسي لسرية التحقيق ما ذهبت محكمة رين في بعض أحكامها، ولقد سبق لمحكمة النقض الفرنسية، أن اعتبرت أن نشر وثائق تم الحصول عليها بطريقة غير مشروعة يشكل خرقا لسرية التحقيق حتى ولو انتهى الأمر إلى عدم المتابعة، إلى جانب العقوبات المنصوص عليها في قانون المسطرة الجنائية الفرنسي بشأن خرق سرية التحقيق من قبيل المادة 58 التي تنص على منع نشر أية وثيقة تم الحصول عليها أثناء التفتيش. ولقد حددت محكمة النقض الفرنسية الغاية من وراء تجريم خرق السر المهني في تأمين الثقة في مزاولة بعض المهن، كما أكدت في قرار آخر على أن المصلحة المتوخاة من وراء تجريم خرق السر المهني هي حماية الأسرار التي يضطر الأشخاص إلى البوح بها لبعض ذوي المهن، وأن لذلك ارتباط بالنظام العام . وفي نفس السياق، ذهبت المحكمة الابتدائية الكبرى بباريس في قرار صادر عنها بتاريخ 5يوليوز 1996 إلى التأكيد على أن إفشاء سر مهني يشكل مساسا بمصلحة محمية بموجب القانون الجنائي، ويجيز للضحية أن يتقدم بطلب التعويض عن الأضرار التي لحقته جراء الإخلال بالتزام السر المهني، وأن حق المطالبة بالتعويض ينتقل إلى ورتثه بصرف النظر عما إذا كان الضحية قد باشر إجراءات التقاضي بشأنه في حياته أم لا. كما تولت محكمة النقض الفرنسية تحديد الأشخاص الذين يمكن متابعتهم بخرق السر المهني في قرارات متواترة عنها، فذهبت في العديد من قراراتها إلى أن المعنيين بالسر المهني إما بموجب قانون مهنتهم أو أن السر أودع لديهم تحت القسم . وفي نفس السياق، ذهبت محكمة باريس بالنسبة للسر المهني للمحامي حيث اعتبرت أنه يعد خرقا للسر المهني قيام المحامي بتزويد الشرطة بمعلومات عن مؤازر محامي الخصم حتى ولو حصل عليها بطريقة غير مباشرة. ولقد سبق لمحكمة النقض أن اعتبرت إفشاء للسر المهني الضابط الذي قام خارج مهام التحقيق بإخبار المسؤول عن الضرر بوجود شكاية توصل بها في إطار مزاولة مهامه .كما سبق لها أن قررت بأن خرق السر المهني لا يستدعي نشره على العموم وإنما يكفي أن يطلع عليه شخص وحيد، وذهبت إلى التأكيد على أن السر المهني يمكن أن يتجدد خرقه بعدد الأشخاص الذين أفشي لهم وأن الركن المادي يتحقق بمجرد الإفشاء. 2 -الجزاء الإجرائي إلى جانب الجزاء الجنائي المترتب عن خرق سرية التحقيق أثير التساؤل حول الأثر الإجرائي المترتب عن خرق سرية التحقيق خاصة أن قانون المسطرة الجنائي المغربي على غرار المشرع الإجرائي في فرنسا ومصر, لم ينص صراحة على البطلان كجزاء للإخلال بقاعدة سرية التحقيق, الأمر الذي أدى إلى احتدام الخلاف الفقهي والقضائي في هذا الشأن. فالرأي الغالب في الفقه والقضاء الفرنسيين، كان يعتبر أنه لا يترتب على الإخلال بقاعدة سرية التحقيق الابتدائي بطلان الإجراء أو العمل المخالف لهذه القاعدة. وتأكيدا على ذلك قضت محكمة النقض الفرنسية في حكم لها أن السرية وإن كانت شرطا يتطلبه قانون الإجراءات إلا أن المشرع لم يضع لمخالفتها جزاء البطلان, وهذا الاتجاه للقضاء الفرنسي كان سائدا في ظل قانون تحقيق الجنايات القديم حيث قضت محكمة النقض الفرنسية في ظل قانون تحقيق الجنايات بأنه لا يترتب البطلان على عدم مراعاة نصوص المادتين 302 – 303 من قانون تحقيق الجنايات المتعلقة بسرية التحقيق، كما اعتبرت في قرار آخر بأنه لا يترتب بطلان على إبلاغ الصحافة بعد قرار الإحالة بملخص وقائع الجريمة. فكل إجراء وقع إفشاؤه على النحو الذي من شأنه أن يمس بما للمتهم من حقوق وضمانات وخاصة قرينة البراءة لا يمكن إلا أن يترتب عنه جزاء البطلان وهو الاتجاه الحديث لمحكمة النقض الفرنسية المشار إليه أعلاه. 3 - الجزاء التأديبي من المقرر أن إفشاء سرية التحقيق من طرف المساهمين في إجرائه إلى جانب الجزاء الجنائي فإنه يرتب جزاءا تأديبيا باعتباره يعد إخلالا بما تفرضه المهنة من وجوب الالتزام بالحفاظ على الأسرار المحصل عليها بمناسبة مزاولتها. وهكذا فقد قضى المجلس الأعلى للقضاء الفرنسي بإحالة قاضي إلى المعاش وذلك لأنه أفشى سرية التحقيقات الموكولة إليه, بأن ترك صورة من تحقيقات إحدى القضايا إلى أحد مراسلي الصحف لنشرها. أما عن المسؤولية المدنية المترتبة عن إفشاء أسرار التحقيق فقد اعتبرها الفقه مسؤولية تقصيرية ،كما أن رجوع المضرور بالتعويض يكون على المتسبب في الضرر مباشرة، دون أن يمنع ذلك المضرور من الرجوع على الإدارة في حالة إذا كان المتسبب في الضرر معسرا, هذا من جانب، ومن جانب آخر يرجع على الإدارة في إطار مسؤولية المتبوع عن أعمال تابعة وهو الموظف وذلك وفقا لنظرية الخطأ المرفقي. ونظرا لأهمية سرية التحقيق في علاقتها بوسائل الإعلام، عمل وزير العدل والحريات على توجيه دورية عدد 2 س 3 بتاريخ 28/01/2013 إلى السادة الرؤساء الأولين بمحاكم الاستئناف والوكلاء العامين للملك لديها ورؤساء المحاكم الابتدائية ووكلاء الملك لديها تهدف إلى الحفاظ على سرية البحث والتحقيق والتي من خلالها، أكد معاليه على ضرورة اتخاذ كل التدابير التنظيمية للحفاظ على سرية البحث والتحقيق وعدم التردد في فتح البحث في شان كل إخلال بذلك بعدما لوحظ استشراء ظاهرة تسريب معلومات تتعلق بقضايا لا زالت مشمولة بسرية البحث أو التحقيق طبقا للمادة 15 من قانون المسطرة الجنائية على نحو يؤثر سلبا على حسن سير العدالة ويمس بقرينة البراءة. وإن كان من خلاصة يمكن الخروج بها من خلال هذه الورقة البحثية، انطلاقا من كل ما تقدم أعلاه، هي أن الإعلام يمكن له في إطار الحقوق المكفولة له دستورا وقانونا أن يمارس حقه في صياغة ونقل الخبر الإعلامي للجمهور، لكن مع مراعاة الضوابط القانونية المتعلقة بضمان مصلحة المتهم والتحقيق وخاصة احترام قرينة البراءة وسرية التحقيق، باعتبار أن العلاقة بين الإعلام والسلطة القضائية عموما, يجب أن تكون تكاملية، فمن خلالها يستطيع الإعلام نشر معلومات محايدة تتعلق بنشاط المحاكم، فتسهم في شفافية أداء القضاء دون التأثير في مجرياته, وهو ما يدعو إلي توفير ما يسمي بالإعلام القضائي الذي يجب أن يتسم بالمعرفة الواسعة بالمعلومات القانونية والقضائية، فالإعلام من ناحية يكشف الانحرافات، فإذاما عرضت على القضاء يعمل عليها حكم القانون، كما أن القضاء يرد عن الصحافة كل عدوان عليها، وكل نيل من حقوقها أو حريتها، فلا يتأتي لأحد أيا كان هواه أو مبتغاه أو لأية جهة أيا كان شأنها أو مرامها أن تتدخل في أمورها بما يوهن عزائم رجالها، إما اعتداء أو إرغاما أو ترغيبا أو ترهيبا.ولعل الحاجة أصبحت اليوم ماسة أكثر من ذي قبل إلى وجود صحافة قضائية متخصصة تعمل جنبا إلى جنب مع السلطة القضائية بمختلف مكوناتها في إطار الضوابط القانونية، طالما أن الهدف واحد هو خدمة المواطن ولو اختلفت الوسائل.