يشكل عيد الأضحى، فضلا عن مناسبات أخرى، لحظة تنبعث خلالها عدة حرف تقليدية أصيلة لها امتداد في التاريخ، لكنها في طور الانقراض بسبب تطور أساليب الحياة وتغير نمط عيش المواطن المغربي. وعلى الرغم من بروز وسائل عيش حديثة واقتحامها للمطبخ المغربي لتعوض منتوجات حرفية عريقة، فإن هناك حرف لا تزال أيادي الصانع التقليدي المغربي تمنح لها استمرارية وتميزا وجمالية في شكلها بكثير من الإتقان والإبداع. ومن بين هذه الحرف التقليدية "المنفاخ" أو ما يعرف ب"الرابوز" كأداة يدوية تبدو بسيطة في شكلها لكنها أساسية ولا غنى عنها في المطبخ المغربي، فهي لا تزال تستعمل في أغلب المناطق خاصة بالبوادي والمناطق الجبلية والنائية، وحتى الأسر المقيمة في قلب المدن تتذكر، فجأة أثناء مناسبة خاصة أو خلال الاستعداد لعيد الأضحى، أن هناك أداة تقليدية اسمها "الرابوز" مهملة في إحدى زوايا المنزل فتنفض عنها الغبار وتضعها إلى جانب المستلزمات الأساسية للطهي التقليدي في تلك المناسبة. ويعود ظهور "الرابوز" بالمغرب، والذي يعرف أيضا ب"الكير" خاصة بنواحي خنيفرة وميدلت والريش، لحوالي مائتي سنة على يد اليهود المغاربة الذين كانوا يستقرون بعدة مناطق بالمغرب كمدن فاس ومراكش ومكناس وسلا والرباط والرشيدية وشفشاون ووزان. ويصبح لهذه الأداة التقليدية شأن كبير بمناسبة عيد الأضحى، حيث يزداد الإقبال عليه، وترتفع الطلبيات بشأنه، إذ تعرف ورشات صناعة هذه الأداة البسيطة بعدة مدن مغربية المعروفة بهذا النشاط حركة دؤوبة من قبل الباعة الذين ينشطون في ترويج هذا المنتوج بمناسبة عيد الأضحى. ولعل سوق حي الملاح القديم وحي بريمة بمكناس، وهما من الأحياء المعروفة على المستوى الوطني بصناعة الرابوز "السواقي"، خير دليل على هذا الإقبال المتزايد لاقتناء هذه الأداة من قبل الزبائن المحليين ومن خارج العاصمة الإسماعيلية، الذين يلجؤون لتسويقها هذه الأداة وتوزيعها في الأسواق الأسبوعية بالمدن والبوادي والقرى النائية التي تستعمل "الرابوز" السواقي بلغة الحرفيين باستمرار. وحسب محمد بنكيط، حرفي متخصص في صناعة "الرابوز" بمجمع الصناعة التقليدية بمكناس، فإن صناعة "الرابوز" أصبحت تسترجع، خلال السنوات الأخيرة، مكانتها في المجتمع المغربي، بعد أن طالها التهميش والنسيان بعد أن ولى الزمن الذي كانت فيه هذه الأداة قطعة أساسية في كل مطبخ مغربي، وذلك على غرار حرف تقليدية أخرى هي في طريق الانقراض، مضيفا أن الحرفي التقليدي، سواء بمكناس أو مدن أخرى، منح لهذه الصناعة حياة وجمالية كبيرة بكثير من الإتقان والإبداع لتصبح لها، على الرغم من بساطتها، وظائف متعددة. وقال هذا الحرفي، الذي يمتهن هذا النشاط لأزيد من أربعين سنة، في حديث لوكالة المغرب العربي للأنباء، أن "الرابوز" الخاص بالطهي التقليدي لا يزال محافظا على مكانته، من خلال الطلب المتزايد عليه، خصوصا في فترة الصيف وعيد الأضحى، مستدلا على ذلك بقوله "إنني أصنع حوالي 140 قطعة رابوز في الأسبوع، أي بمعدل 20 قطعة في اليوم الواحد" ذات أشكال متعددة من النحاس والفضة والزخرفة والنقش ومسامير "قليلان" بلغة الحرفي المكناسي. وأضاف أن الصانع لم يعد يقتصر على صناعة "الرابوز" التقليدي المخصص للاستعمال المنزلي فقط وإنما أصبح يتفنن في صناعة "رابوز" لأغراض فنية متعددة منها الديكور والاستعمال في الصناعة والمطاعم المتواجدة بالخصوص في الهواء الطلق وفي معارض الصناعة التقليدية والمنازل الفخمة والفنادق وقاعات الاستقبال. واستعرض بنكيط، بالمناسبة، بعض المشاكل التي تقف أمام تطور هذه الحرفة، من قبيل غياب التكوين بالتدرج في هذه الحرفة، وتراجع عدد ورشات التصنيع التي تقلص عددها إلى ست ورشات تضم ما بين 10 و15 حرفيا فقط تتواجد بسوق بريمة وسوق الملاح القديم وورشة واحدة بمجمع الصناعة التقليدية، فضلا عن غلاء المواد الأولية المستعملة في صناعة الحرفة، وغياب مراقبة من طرف المصالح المختصة لأثمان بيع هذه المواد، إضافة إلى غياب الجودة المرتبط، أساسا، بالوسطاء الذين أصبحوا يحتكرون هذه الحرفة مما يؤثر على جودتها. ولولا تشبث بعض المهنيين بهذه الحرفة التي تنبعث مع مناسبة كل عيد أضحى لساهمت كل هذه العوامل، يضيف بنكيط، في الانقراض الكلي لهذا النشاط منذ سنوات. من جهته، يرى علال صدقي، النائب الأول لرئيس غرفة الصناعة التقليدية بمكناس، أن سبب تراجع وتقهقر هذه الحرفة هو تغير نمط عيش المواطن المغربي وتفريطه في الوسائل التقليدية التي كان يستعملها في الطهي التقليدي خاصة مع ظهور وسائل حديثة تعتمد على الوسائل الكهربائية بالمدن واستعمال قنينات غاز من الحجم الصغير بالعالم القروي. غير أن من ساهم في إحياء هذه الحرفة مؤخرا، يضيف صدقي، هو "بروز أمراض ناتجة عن استعمال وسائل حديثة في الطبخ، وما أصبح يخلفه استعمال قنينات الغاز من أضرار جسيمة داخل الأسر المغربية، إضافة إلى أن هناك دراسات علمية أكدت أن المواد المستعملة في صناعة أواني الطبخ أصبحت تتسبب في ظهور أمراض مستعصية لدى الإنسان". وللمحافظة على هذا المنتوج التقليدي وضمان استمراريته التي تشتغل في إطارها حرف تقليدية أخرى كالجلد والنجارة والحدادة، أصبح من الضروري، حسب صدقي، إعادة النظر في طريقة التكوين بالتدرج في عدة حرف تقليدية هي في طريق الانقراض منها "الرابوز" كأداة لا يمكن الاستغناء عنها في الطبخ المغربي، والمشاركة في معارض الصناعة التقليدية لترويج هذا المنتوج وتسويقه، ودعم الحرفيين وتكوينهم وإعداد دراسة لمعرفة سبب عدم إقبال الشباب على هذه المهنة. كما دعا إلى هيكلة هذه الحرفة وتجميع الحرفيين في إطار جمعيات وتعاونيات، نظرا لأهمية هذه الحرفة التي لا يمكن الاستغناء عنها، مشيرا، بهذا الخصوص، إلى أن هناك حوالي 60 في المائة من سكان البوادي وحوالي 10 في المائة لا يزالون يستعملون هذه الأداة التقليدية. * و.م.ع