لقد أثارت « مسودة مشروع القانون التنظيمي للجماعات الترابية» ، التي قدمتها في الآونة الأخيرة وزارة الداخلية إلى الأحزاب السياسية المغربية لطرح مقترحاتها،جدلا واسعا؛ إذ بمجرد وضعها رهن إشارة العموم حتى توالت التعليقات وتناسلت التحليلات بخصوص مضامينها، وانتفض رؤساء الجماعات الترابية المنضوون تحت لواء الجمعية المغربية لرؤساء مجالس الجماعات في وجه مضامينها معتبرين أنها جاءت في غير السياق ولا تخدم الدستور وأنها تحمل "تراجعات " تمس بالاختصاصات المنوطة بهم . ويعطي هذا الجدل الواسع انطباعا إيجابيا على مدى التعاطي المتزايد لمختلف الفاعلين مع قضايا الشأن العام ولكنه عند تحليل طبيعة هذا النقاش والتعمق في حيثياته نجده سطحيا وشكليا ولا يتناول جوهر وعمق المواضيع المطروحة ولا يطرح مقترحات عملية ولايقدم البدائل الكفيلة التي تهدف إلى إعطاء مزيد من الفعالية لنظام الحكامة المحلية ببلادنا وتستجيب في نفس الوقت لمختلف الانتظارات المتزايدة للساكنة المحلية. وإسهاما في هذا النقاش الحالي ، نقدم رؤيتنا للموضوع من خلال هذه القراءة النقدية، وذلك بتسليط الضوء على مقتضيات ومضامين هذا المشروع تحليلا ونقدا وتقييما لمدى استجابتها لمعايير الحكامة الجيدة . وإذا كان الأمر كذلك فما هي إذن المقتضيات الايجابية التي أتت بها مسودة القانون التنظيمي الأنف الذكر؟ وهل تنضبط هذه المقتضيات لمعايير الشفافية والمساواة والإنصاف والجودة والمبادئ الديمقراطية التي أقرها دستور 2011؟ وهل هذه المقتضيات ستسد ذرائع المحسوبية والمزاجية والشطط في استعمال السلطة وشخصنة القرارات أم ستفتحها على مصراعيها؟ هل تستجيب هذه المسودة لمطالب وانتظارات رؤساء وموظفي الجماعات الترابية؟ وكيف يمكن لقانون تنظيمي لا يستجيب لطموحات المنتخبين المحليين أن يستجيب لطموحات المواطنين في مجال التنمية المحلية ؟ وللإجابة عن هذه الأسئلة و غيرها ، سنحاول من خلال هذه القراءة فك بعض طلاسم خبراء وزارة الداخلية واضعي مسودة هذا المشروع، و الكشف عن نقائصها المتخفية بين السطور و الساعية إلى الإجهاز على المكتسبات التي أقرها مسلسل اللامركزية الذي اعتمدته بلادنا منذ عقود و الرامية إلى تحديث الإدارة المحلية والتي تعتبر امتدادا للأوراش الكبرى للإصلاحات التي تعرفها بلادنا قصد إغناء مكتسبات الديمقراطية المحلية ، وذلك عن طريق تقديم مجموعة من الملاحظات . من خلال قراءة متأنية لمشروع هذا القانون التنظيمي أو ما يصطلح عليه مشروع الميثاق الجماعي الجديد، سنكتشف للوهلة الأولى أن هذا المشروع هو تقريبا نسخة طبق الأصل لمشروع القانون التنظيمي للجهة، والفارق بينهما هو التسمية فقط. وتتكون هذه المسودة من 252 مادة موزعة على عدة أقسام وأبواب وفصول ، منها مواد مأخوذة من قانون المالية المحلية و أخرى من قانون الجبايات المحلية وقانون أملاك الجماعات المحلية ... وعموما ، تتضمن هذه المسودة إجراءات ومقتضيات ايجابية هامة تستهدف تكريس مبادئ الديمقراطية المحلية وقواعد الحكامة الجيدة في تدبير الشأن المحلي وأخرى يمكن تصنيفها كعيوب ونقائص . ومن بين أهم المستجدات والمقتضيات الايجابية التي أتت بها نذكر ما يلي : مبادئ التفريع والتدبير الحر: إن ما يثير الانتباه عند قراءة هذه المسودة وهو لأول مرة يتم التنصيص على مبدأي التفريع (المادة 6) و التدبير الحر (المادة 3) طبقا للمواد 136و140 من الدستور لما لذلك من دلالات فقهية ودستورية لتمكين الجماعات الترابية مزيدا من الحصانة والاستقلالية لتقوم بأدوارها في تحقيق التنمية المحلية المستدامة لإرساء وتعزيز اللامركزية واللاتمركز اللذان يمثلان ورشا حيويا لتعزيز الديمقراطية، وتطوير وتحديث ههياكل الدولة، والنهوض بالتنمية المستدامة والمندمجة اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا و بيئيا، وتعزيز سياسة القرب. وهو ما يعكس الوعي التام بالرهان الذي يشكله هذا الورش مع ما يتطلبه ذلك من عمل من أجل تفعيله، كما تقدم المسودة مجموعة من الآليات الجديدة لتدعيم التعاون و الشراكة بين مختلف الجماعات. انتخاب أعضاء مجلس الجماعة بالاقتراع العام المباشر: انسجاما مع المقتضيات الدستورية، تؤكد مسودة المشروع الجديد على أن أعضاء مجلس الجماعة سيتم انتخابهم بالاقتراع العام المباشر (المادة 11)، ويتم انتخاب رئيس مجلس الجماعة بالاقتراع الأحادي الاسمي بالتصويت العلني في الجماعة التي ينتخب أعضاء مجلسها بالاقتراع الأحادي الاسمي عن طريق اللائحة من بين الأعضاء المرتبين على رأس لوائح المرشحين التي فازت بمقاعد داخل المجلس المعني)المادة 12) و بالأغلبية المطلقة للأعضاء الحاضرين ( المادة 14) و تدخل هذه الاقتراحات المهمة في خانة تحصين الديمقراطية المحلية من كل ما يمكن المس بنزاهتها. منع الترحال السياسي مدة الانتداب : تفعيلا لمبدأ الحكامة السياسية وحسب مقتضيات المادة 52 من هذه المسودة،فقد أصبح ممنوعا على كل عضو منتخب بمجلس الجماعة التخلي طيلة مدة الانتداب عن الانتماء السياسي الذي ترشح باسمه لانتخاب المجلس المذكور،وذلك بهدف منع الترحال السياسي والقطع مع سماسرة الانتخابات. في حالة مخالفة أحكام الفقرة أعلاه، يرد العضو المعني من صفة العضوية في المجلس بقرار تصدره المحكمة الإدارية داخل أجل شهر من تاريخ إحالة الأمر عليها من طرف الرئيس أو أحد أعضاء المجلس أو لحزب السياسي الذي قام بتزكية المعني بالأمر. توسيع حالات التنافي: حسب مقتضيات المادة 60 من هذه المسودة ، تتنافى مهام رئيس مجلس الجماعة الحضرية أو القروية مع مهام رئيس مجلس جماعة ترابية أخرى أو مهام رئاسة غرفة مهنية ، وكذا تتنافى مهمة رئيس مجلس الجماعة مع صفة عضو في مجلس النواب أوفي مجلس المستشارين أو في الحكومة، وفي حالة الجمع بينهما يستقبل من احدهما. التصريح بالممتلكات بالنسبة لرئيس الجماعة وباقي أعضاء المكتب : تبعا لمقتضيات المادة 51 من هذه المسودة يجب على رئيس مجلس الجماعة وباقي أعضاء المكتب التصريح بممتلكاتهم طبقا للقانون الجاري به العمل خلال مدة أقصاها شهرين تبتدئ من تاريخ انتخابهم . تفعيل دور القضاء الإداري : من الاقتراحات الهامة التي جاءت بها هذه المسودة مسألة تفعيل القضاء الإداري وجعله يقوم بدوره الدستوري لفض النزاعات بين الجماعة وباقي المؤسسات، ولهذا أصبح للقضاء سلطة عزل أعضاء المجلس وكذا التصريح ببطلان مداولات المجلس ووقف تنفيذ المقررات الجماعية التي قد تشوبها عيوب قانونية طبقا لأحكام المادة 57 .كما يتم البت في النزاعات المتعلقة بالمراقبة الإدارية من طرف المحكمة الإدارية المختصة تختص المحاكم الإدارية كذلك بالبت في النزاعات التي تكون الجماعة طرفا فيها (المادة 10) . تقديم عرائض لمجلس الجماعة: تطبيقا لأحكام الفقرة الثانية من الفصل 139 من الدستور، يحق للمواطنات والمواطنين وجمعيات المجتمع المدني تقديم عرائض لمجلس الجماعة قصد إدراج نقطة تدخل في اختصاصه ضمن جدول أعماله( المادة 44)لكنها تقدم العرائض وفق شروط (المادة 45) من هذه المسودة. إجراءات تتعلق بتحديث الإدارة المحلية : حسب أحكام المادة 97 من هذه المسودة تتوفر كل جماعة على إدارة تتألف من مديرية للمصالح، غير أنه يمكن لبعض الجماعات التي تتحدد لائحتها بمرسوم يتخذ باقتراح من السلطة الحكومية المكلفة بالداخلية، التوفر على مديرية عامة للمصالح. تتولى إدارة الجماعة، ممارسة المهام المنوطة بها تحت مسؤولية رئيس المجلس ويخضع تنظيمها وتدبيرها والتعيين في الوظائف العليا ونظام التعويضات الخاص بهذه الوظائف لمقتضيات تحدد بمرسوم يتخذ باقتراح من السلطة الحكومية المكلفة بالداخلية. وحسب المادة 98 تم استبدال اسم الكاتب العام بالمدير أو المدير العام الذي يساعد الرئيس في ممارسة مهامه ويتولى تحت مسؤولية الرئيس ومراقبته، الإشراف على إدارة الجماعة، وتنسيق العمل الإداري بمصالحها والسهر على حسن سيره. يتم اقتراح المدير من طرف الرئيس على المجلس للتداول والموافقة عليه بواسطة مقرر يتخذه لهذا الغرض، ويعين بعد ذلك المدير بقرار للسلطة الحكومية المكلفة بالداخلية أو من تفوض له. وبناء على مقتضيات المادة 99 يجوز لرئيس المجلس تحت مسؤوليته ومراقبته، أن يفوض إمضاءه بقرار إلى المدير أو المدير العام حسب الحالة في مجال التسيير الإداري، كما يجوز له أن يفوض إمضاءه إلى رؤساء أقسام أو مصالح الجماعة المعينين طبقا للقوانين والأنظمة الجاري بها العمل، وذلك باقتراح من المدير. ويمكن للرئيس أن يفوض بعض مهامه للمدير ، تحت مسؤوليته ومراقبته كآمر بالصرف. والملاحظ من خلال هذا كله تعزيز دور الكاتب العام الذي أصبح في هذه المسودة يسمى (بالمدير) من خلال تحديد دقيق للمهام الموكولة إليه والتي سيمارسها تحت سلطة رئيس المجلس الجماعي، ولهذه الغاية ستناط بالكاتب العام(المدير) المهام المتعلقة بالتدبير الإداري وعلى الخصوص ما يلي: - تنفيذ قرارات الرئيس التي تدخل في صلاحياته، - اتخاذ القرارات المتعلقة بتدبير شؤون الموظفين والقيام بتحديد مهام الأعوان والموظفين، - مساعدة رئيس المجلس، من الناحية التقنية في إعداد مشروع الميزانية، - تمثيل رئيس المجلس في الاجتماعات التقنية، - توفير المساعدة التقنية لللجان الدائمة للمجلس وفقا لما يقرره الرئيس، - السهر على حفظ أرشيف الجماعة ومسك سجل محتويات أملاك الجماعة، - السهر على حفظ الوثائق والقرارات التي تتخذ في حالة حل المجلس وتسيير شؤونه عن طريق اللجنة الخاصة. اعتبار مقتضيات النظام الداخلي للمجلس ملزمة لأعضاء المجلس: وبناء على مقتضيات المادة 23 من مسودة هذا المشروع يقوم الرئيس بإعداد النظام الداخلي الذي يعرض على المجلس لدراسته والتصويت عليه خلال الدورة الموالية لانتخاب مكتب المجلس وتعتبر مقتضيات النظام الداخلي ملزمة لأعضاء المجلس. تلك إذن أهم المقتضيات الايجابية التي جاء بها مشروع القانون التنظيمي للجماعات الترابية غير أن المتأمل في سطور المسودة الأنفة الذكر وبتمعن، لا بد وأن تستوقفه حتما مجموعة من الملاحظات الجوهرية والتي يمكن اعتبارها كنقائص وسلبيات نذكر من بينها على سبيل المثال لا الحصر: تقوية منطق الوصاية و الرقابة القبلية : وسع المشروع بشكل غير مسبوق نفوذ العمال ، اللذين سيصبحون ، في حالة ما إذا صادق البرلمان عليه بما فيه من علل وفخاخ ، ذوي سلطة أقوى على رؤساء الجماعات الترابية الواقعة في دائرة نفوذهم ، حيث خول لهم صلاحية توقيف أي رئيس لم يخضع لتعليماتهم في ظرف 24 ساعة ، ناهيك عن التحكم بسلاسة متناهية في مصير ميزانيات الجماعات عبر آلية التأشير عليها من جانبهم ، وكذا آلية المراقبة القبلية لشرعية قرارات ومقررات المجلس ، فضلا عن إمكانية إدراجهم كل مسالة يريدونها بجداول أعمال دورات مجالس الجماعات التابعة لهم ، وحقهم في الاعتراض على كل مسألة أدرجت بتلك الجداول ، سواء من قبل الرؤساء أو أعضاء المكاتب أو أعضاء المجالس ! ورغم أن الرقابة على شرعية مقررات وقرارات المجلس وعزل أعضائه تظل من اختصاص القضاء ، إلا أن هذا الإجراء لا يمثل حصانة ضد انحراف السلطة من جانب العمال ، سيما في ظل استمرار الحديث عن عدم استقلالية القضاء ببلادنا. واضح إذن أن وزارة الداخلية تتجه عبر هذا المشروع إلى تقوية سلطة عمالها على المجالس البلدية والقروية ، إذ أسندت إليهم اختصاصات واسعة وهامة ، بالإضافة إلى الاختصاصات التي لوزريها بمقتضى الميثاق الجماعي الحالي ، و أحاطتها كلها بضمانات قانونية زجرية للحيلولة دون خرقها ، في حين قلصت من السلطات الممنوحة للرؤساء والمجالس معا ، وأضافت لها مهاما طالما شكلت حملا ثقيلا على كاهل السلطة الإدارية المحلية ، من قبيل تنظيم ومراقبة نشاط الباعة كاختصاص صرف لها طبقا للمادة 49 من الميثاق الجماعي. والملاحظ أن الوصاية أصبحت حاضرة وبقوة من خلال هذه المسودة، إذ أن سلطة الوصاية تمارس المراقبة الإدارية على الجوانب المرتبطة بشرعية قرارات ومقررات الجماعة طبقا للمادة 09 من المسودة وهذا مناقض لمبدأ التدبير الحر واستقلالية الجماعة. لقد نص الفصل 136 من الدستور على أن " التنظيم الجهوي والترابي يرتكز على مبادئ التدبير الحر، وعلى التعاون والتضامن، ويؤمن مشاركة السكان المعنيين في تدبير شؤونهم، والرفع من مساهمتهم في التنمية البشرية المندمجة والمستدامة"وهو ما يلغي مفهوم الوصاية على عمل الجماعات الترابية و كل أشكال الرقابة المتعلقة باختيارات الجماعات الترابية، بحيث أن أدوار الإدارة وجب أن تقتصر على الدعم والمساعدة كما هو منصوص عليه في الفقرة الثالثة من الفصل 145 من الدستور " يساعد الولاة والعمال رؤساء الجماعات الترابية، وخاصة رؤساء المجالس الجهوية، على تنفيذ المخططات والبرامج التنموية" وبالتالي حتى في حالة ملاحظة اختلالات في تدبير الجماعات، فوجب أن تشكل موضوع طعن لدى المحاكم الإدارية احتراما لمبدأ التدبير الحر. غموض في الاختصاصات الذاتية للمجلس الجماعي : إن القارئ لهذه المسودة يجد صعوبة في فهم مقتضياتها ومحتواها وأبعادها، والسبب في ذلك كونها جاءت بصيغ فضفاضة وعمومية، تضفي نوعا من الصعوبة في تحديد المقصود مما يفتح الباب لكثرة التأويلات واختلاف الاجتهادات، بحيث قد يحمل الاعتقاد أن لكل جماعة محلية إمكانية التدخل بلا حدود في كل المجالات والميادين، وهو ما سيؤدي إلى تشابك وتداخل واختلاف الأدوار وإلى ازدواجيات في إنجاز مختلف المشاريع والاستثمارات والأشغال. وقد يحدث العكس بحيث تتقاعس الجماعات عن القيام بوظائفها وممارسة اختصاصاتها، معتقدة في ذلك أنها من اختصاصات جماعات أخرى أو هيأت عمومية أخرى. فهذه الصيغة في تحديد الاختصاص العام، كثيرا ما كانت سببا في سوء تدبير الشأن العام المحلي إذ أضاعت فرص حقيقية للاستثمار والتدخل الاقتصادي والعمل التنموي. كما أن الغموض في الاختصاصات الذاتية لمجلس الجماعة قد يؤدي إلى تداخل في الاختصاصات مع الجماعات الترابية الأخرى ، بحيث أنه من بين الانتقادات التي كانت قد وجهت للميثاق الجماعي و للقانون 47.96 المتعلق بتنظيم الجهات والقانون المنظم للعمالات والأقاليم هو عدم وضوح اختصاصات كل جماعة ترابية ما ينتج عنه تداخل وتضارب الاختصاصات بين كل المتدخلين في مجال ترابي معين "جماعة – إقليم/عمالة – جهة"، وهو الراجح أن يقع مع المشروع الجديد، حيث تم التنصيص على اختصاصات فضفاضة وغير محددة، نذكر منها على سبيل المثال: دعم المقاولات، إنعاش السياحة، جذب الاستثمار، إنعاش الاقتصاد الاجتماعي والمنتجات الجهوية، الإسهام في المحافظة على المواقع الأثرية والترويج لها...، الأمر الذي يتعارض مع مبادئ الحكامة الجيدة التي أفرد لها القسم الأخير من مسودة المشروع والتي تقتضي تدقيق الاختصاصات من أجل تفعيل مبدأي المساءلة والمحاسبة الدستوريين. رصد غياب عبارة "تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية"، إعمالا لمبدأ التدبير الحر المقيد: في مقارنة مبسطة بين الميثاق الجماعي الحالي والمسودة نستخلص مايلي : يلزم الميثاق الجماعي رؤساء الجماعات بتقديم مخطط جماعي للتنمية على المستوى المحلي يا خد بعين الاعتبار حاجيات الجماعة وإمكانياتها، أما المسودة ففي قسم صلاحيات مجلس الجماعة ورئيسه نجد فقط العبارات التالية : يعد وينفذ برنامج عمل الجماعة. (المادة 68) دراسة برنامج عمل الجماعة والمصادقة عليه(المادة 65) وهي هزيلة بالمقارنة مع مقتضيات المادة 36 من الميثاق الجماعي الحالي التي نذكر منها على سبيل المثال : دعم المقاولات - إنعاش السياحة - جذب الاستثمار - إنعاش الاقتصاد المحلي ... عزل الرئيس في منتصف الولاية : تعيد المادة 18 نفس الفصل الملغى بمقتضى القانون 17-08 و القاضي بإمكانية تقديم ثلث أعضاء المجلس المزاولين مهامهم طلب التصويت على مقرر يقضي بإقالة الرئيس من مهامه ، بعد مرور ثلاث سنوات على انتخابه ، أي عند منتصف الولاية، ولا يعتبر الرئيس مقالا إلا إذا وافق على المقرر ثلثا الأعضاء المزاولين مهامهم ، الشيء الذي يذكرنا بالفصل السابع في الميثاق الجماعي القديم والذي كان بمثابة سيف ديمقريطس على عنق رئيس الجماعة و هو ما لن يساعد على استقرار المجالس و سيعمق منطق الابتزاز و الحسابات الضيقة خاصة و انه توجد مقتضيات تحمي المجالس من حالات (البلوكاج) عند فقدان الرئيس لأغلبيته (المواد 62و 63)قد يتم إيقاف المجالس 3 أشهر أو حلها لدى قاضي المستعجلات بالمحكمة الإدارية الذي يقضي بالحل ويعقبه الحلول. إلغاء شرط التوفر على مستوى تعليمي لتولي منصب رئيس الجماعة : في الوقت الذي كان الكثيرون ينتظرون من وزارة الداخلية أن تشترط ضرورة التوفر على مستوى نهاية الدروس الثانوية على الأقل في كل من يتولى منصب الرئيس من أجل قطع الطريق على الأميين والجهلة... ، تجاهل المشروع بالمرة الإشارة إلى الموضوع فا تحا بذلك باب الرئاسة على مصراعيه في وجه كل من هب ودب. إلغاء جلسة الحساب الإداري: والأمر نفسه ينطبق على الحساب الإداري الذي يدرسه ويصوت عليه المجلس في الدورة العادية لشهر فبراير من كل سنة ، حيث تمثل هذه الدورة المخصصة للتداول بشأنه فرصة سنوية سانحة للأعضاء من أجل محاسبة الرئيس على تدبيره المالي والجبائي طيلة السنة المالية المختتمة ، حيث ألغى أيضا المشروع بالمرة جلسة الحساب الإداري ليحرر الرئيس من المراقبة والمحاسبة الداخلية للمجلس ، ما يعد ردة صارخة عما تحقق وعن التنزيل السليم للدستور فيما يخص المبادئ العامة للحكامة الجيدة. طبعا . إغراق معظم المواد الأساسية للمشروع بعبارات تعلق تنزيل مقتضياتها إلى أجل غير مسمى: لقد تعمدت كالعادة وزارة الداخلية إغراق معظم المواد الأساسية للمشروع بعبارات تعلق تنزيل مقتضياتها إلى إشعار غير مسمى ، نذكر على سبيل المثال لا الحصر : " تنفيذ إجراءات تسليم السلط وفق الشكليات التي تحدد بقرار للسلطة الحكومية المكلفة بالداخلية." ، و " يحدد بنص تنظيمي شكل العريضة وطبيعة الوثائق الاثباتية التي يجب إرفاقها بها حسب كل حالة. " ، و" يتقاضي رئيس مجلس الجماعة ونوابه وكاتب المجلس ونائبه ورؤساء اللجان الدائمة ونوابهم تعويضات عن التمثيل والتنقل تحدد شروطها ومقاديرها بمرسوم يتخذ باقتراح من السلطة الحكومية المكلفة بالداخلية. " ، و " دراسة الهيكلة الإدارية للجماعة طبقا للشروط المحددة بقرار السلطة الحكومية المكلفة بالداخلية والموافقة عليه. "، و "وضع نظام العنونة المتعلق بالجماعة، ويحدد مضمونه وكيفية إعداده وتحيينه بموجب قرار للسلطة الحكومية المكلفة بالداخلية. " و "يمكن في الجماعات ذات نظام المقاطعات إحداث وكالة محلية لتنفيذ المشاريع، بمثابة مؤسسة عمومية محلية يحدد كيفية إنشائها ونظام اشتغالها وتسييرها وقواعد المالية والمحاسبية بقانون." ، و "تحدث بموجب مرسوم يتخذ باقتراح من السلطة الحكومية المكلفة بالداخلية الأتاوى والأجور عن الخدمات المقدمة المشار إليها في المادة 141 أعلاه. " ، و" تخضع عمليات الاقتراضات التي تقوم بها الجماعة لقواعد تحدد بنص تنظيمي يتخذ باقتراح من السلطة الحكومية المكلفة بالداخلية والسلطة الحكومية المكلفة بالمالية." و" وتحدد بمرسوم يتخذ باقتراح من السلطة الحكومية المكلفة بالداخلية كيفية تطبيق مقتضيات هذه المادة " ... وهو ما يستلزم وضع آجالا محددة لصدور تلك المراسيم والقرارات والقوانين المشار إليها في هذا المشروع حتى لا تبقى أحكاما وتدابير هامة منه مجرد حبر على ورق كما وقع في القوانين القديمة ، وقد تمر سنوات بل عقود دون أن ترى النور تلك المراسيم والقرارات والقوانين ، وخير دليل على هذا عدم صدور المرسوم الذي يحدد مقادير التعويضات عن المهام والتنقل لفائدة نائب كاتب المجلس ونائبه ورؤساء اللجن الدائمة ونوابهم بالرغم من مرور ست سنوات على ترسيمه في الميثاق الجماعي الحالي ! وعلاوة على ذلك ، هناك مواد بحاجة إلى توضيح وتدقيق لإزالة ما يكتنفها من لبس وغموض ، فمثلا تنص المادة 70 على أنه " إذا تغيب الرئيس أو عاقه عائق لمدة من شأنها أن تلحق ضررا بسير شؤون الجماعة، أو بمصالحها خلفه مؤقتا وبحكم القانون، في جميع مهامه أحد النواب حسب الترتيب. " ، لكنها لم تحدد مدة التغيب أونوع الإعاقة التي من شأنها أن تلحق ضررا ، وهنا تطرح إشكالية الرؤساء اللذين يتغيبون دوما عن جماعاتهم ، ويكتفون بتسييرها عن بعد بالهاتف . كما تنص المادة 64 على أنه " إذا وقع حل مجلس الجماعة، وجب تعيين لجنة خاصة للقيام بمهامه.." ، غير أنها لم توضح بدقة هويات الأشخاص العموميين الخمسة المكوننين لها باستثناء العامل والمدير ! فهل يعقل ألا يعرف ساكنة الجماعة سلفا من سيسهر على تدبير شؤونهم في حالة ما إذا تم حل مجلسهم المنتخب ؟ إن مسودة مشروع القانون التنظيمي للجماعات الترابية لا ترقى إلى المعالجة الشمولية للشأن المحلي، حيث عمدت الوزارة الوصية إلى تجزيء القوانين المتعلقة بها، ويجب إذن أن تعرض جميع القوانين دفعة واحدة، من أجل امتلاك رؤية شمولية. كما تفيد الإشارة في ذات السياق إلى أن هذه المسودة قد أشارت في إطار الباب المتعلق بالمقتضيات الانتقالية والختامية (المادة 250) إلى أنه تحل مؤسسة التعاون بين الجماعات بحكم القانون محل مجموعة التجمعات الحضرية المحدثة، وتحل مجموعة الجماعات الترابية محل مجموعة الجماعات المحلية المحدثة،وتحل عبارة الجماعة محل الجماعة الحضرية والجماعة القروية في النصوص الصادرة قبل دخول هذا القانون التنظيمي حيز التطبيق. بيد أن واضع هذه المسودة قد أغفل الإشارة إلى أنه يحل المدير محل الكاتب العام الشيء الذي يجعلنا نؤكد على أن هذه المسودة تشوبها عدة عيوب ونقائص. استمرارية العمل بالأنظمة الخاصة : تشكل الأنظمة الخاصة الواردة في الميثاق الجماعي الحالي وفي مسودة مشروع القانون التنظيمي و المتعلقة بجماعات المشور أو الخاصة بالجماعة الحضرية للرباط (المواد 75-76-77-78 و79 ) شذوذا عن القاعدة لا مبرر له، لهذا يتعين إلغاء هذا الاستثناء الذي يخرج عن روح الممارسة الديمقراطية. وتأسيسا على ما سبق، يبقى واردا بأن نقول بأنه إذا كانت مسودة مشروع القانون التنظيمي للجماعات الترابية قد أتت بمستجدات متقدمة نسبيا ، فإنها تشتمل للأسف الشديد على نقائص و ثغرات وعيوب دقيقة وعميقة ما زالت تعتري مواد كثيرة نأمل أن يتم تداركها أثناء تقديم مقترحات من طر ف الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني وأيضا أثناء جلسات المناقشة داخل اللجان المختصة بالبرلمان ، ومن هذا المنطلق واعتبارا بأن الأحزاب السياسية وبجميع أطيافها اليسارية والمعتدلة، مدعوة إلى أن تمحص مختلف أقسام وأبواب وفصول هذه المسودة، وذلك من خلال تقديمها لوجهات نظرها التي من اللازم أن تنبثق من النقاشات العمومية التي يجب أن تفتحها مع المواطنات و المواطنين ، وذلك في أفق تقديمها لمذكرات يتقاسم مضمون بنودها المتحزب وغير المتحزب.كما ندعو منظمات المجتمع المدني إلى تحمل مسؤولياتها كاملة، وذلك من خلال مشاركتها الفاعلة والمسؤولة في مناقشة مضامين هاته المسودة، وتقديم البدائل الكفيلة بتعزيز دور المجتمع المدني في صناعة القرار التنموي للجماعات الترابية . إن التغاضي عن التعاطي مع هاته النقائص و المقتضيات السلبية المبينة أعلاه، سيشكل حتما عا ئقا حقيقيا أمام مسألة مباشرة الجماعات الترابية لاختصاصاتها الدستورية وعبرها التنموية ، فهذه الثغرات والعيوب ، تتنافي ومبادئ الحكامة الجيدة ، وبالتالي تفرغ نظام اللامركزية برمته من معناه الحقيقي كما أننا نعتبر في ذات السياق أن بلادنا لا يمكن لها أن تنطلق على أسس جديدة، وتبلور بدائل ناجعة في ميدان التنمية المحلية، إلا إذا استلهمت اختياراتها من النجاحات والإخفاقات التي ميزت ما يقارب خمسة عقود من التجربة على مستوى اللامركزية والتدبير الإداري للتراب .وفي هذا الإطار بات من المفروض على الجميع التحرك قصد الضغط بكل الوسائل السلمية من أجل إزالة الألغام القانونية المزروعة بعناية فائقة في مواد الميثاق الجماعي الحالي وفي مسودة مشروع القانون التنظيمي الأنف الذكر، لأن التدبير الجديد للشأن المحلي يقتضي تمكين الجماعات الترابية كإطار ملائم ومناسب للمساهمة في صياغة استراتيجيات جديدة للتنمية،الشئ الذي يستلزم أن ينتقل دور الإدارة المحلية من المساهم إلى الشريك الفعلي والمنشط الحقيقي للتنمية، وكذلك المنسق الأمثل لتدخلات مختلف الشركاء الاقتصاديين على عكس ما جاءت به المسودة حيث نزلت بالجماعات الحضرية و القروية من جماعات ترابية ذات اختصاصات نص عليها الدستور إلى جماعات إدارية يتحكم الوالي والعامل في كل دواليب عملية تدبيرها و تسييرها وهو ما يشكل ردة ديمقراطية بامتياز وخطوة إلى الوراء .