كثر الحديث عن التنوع الذي تعرفه شهادة البكالوريا ، فقد كانت في السابق تنشطر إلى شطرين ، سواء في البكالوريا الأدبية أو البكالوريا العلمية مع تفرع كل واحدة منهما إلى توجهات معينة كشعبة الآداب العصرية و شعبة الآداب العتيقة ، أو شعبة العلوم التجريبية سواء منها الرياضية أو الفيزيائية ... و ما يميز كل هذه التخصصات أن لغتها الرسمية هي العربية مع الانفتاح على اللغات الأخرى خاصة الفرنسية و الإنجليزية . اليوم هناك بكالوريا جديدة أحدثت لغطا كبيرا في أوساط شرائح المجتمع ، فقد أصبحت بكالوريا فرنسية و بكالوريا انجليزية و أيضا هناك بكالوريا اسبانية تخطو خطوات حثيثة لإرساء ثوابتها في المشهد التعليمي في بلادنا ، و ميزة هذه الشهادات أن برامجها التربوية لا تفوه بغير اللغة الفرنسية أو الإنجليزية أو الإسبانية حسب تنوع كل شهادة ، بمعنى أن جميع مواد أي منها تدرس باللغات المذكورة بشكل صرف . لم نسمع أن أولي القرار على الشأن التربوي فكروا يوما في بكالوريا عربية ، تدرس جميع موادها بلغة عربية سليمة و فصيحة تجعل طلابها قادرين على بلورة مشاريع كبيرة بعد البكالوريا لخدمة لغتهم ، و جعلها تتموقع بين الأمم الأخري المعتزة بلغتها على نحو مكنها من أن تصدرها لنا . حتى اللغة العربية المقررة في البكالوريا العادية عربية ركيكة ، تحط منها أكثر مما ترفعها ، و لا تلبي حاجيات المتعلم في مرحلة التعليم العالي ، و بخاصة في الشعب العلمية . قل أن يجد المواطن طبيبا يكتب شهادة طبية ، أو وصفة دواء باللغة العربية ، و إن وُجد فصنيعه غريب من لدن أفراد كثيرين من مجتمعنا ، على نحو جعل الرأي العام يقف موقف استغراب و دهشة إزاء ما فعله طبيب في شمال المغرب حين كتب وصفة دواء باللغة العربية . لا أجد سندا علميا حقيقيا في أن اللغة العربية غير قادرة على أن تدرس بها العلوم الحديثة ، فجهود علمائها كثيرة خاصة في المجامع اللغوية لخدمتها سواء بإنتاج المصطلحات العربية الحديثة أو ترجمتها عن اللغات الأخرى على نحو يحافظ على هوية الإنسان العربي المسلم و يحفظ للغته مكانتها العظيمة باعتبارها لغة القرآن الكريم ، و لغة التعبير عن الأغراض الإنسانية بشكل بارع و عميق . لا شك أننا قد نصل إلى نتيجة حتمية إزاء هذا الابتخاس الذي يطول اللغة العربية مفادها أن اللغة العربية مهمشة ، و يتم إقصاؤها بشكل مضمر ، و في مقابل ذلك فهناك إعلاء من شأن اللغات الأخرى ، خاصة لغة الدول المتحكمة إلى درجة التجبر في العالم ، و ليس لأن لغاتها تمتاز بالخطاب العلمي كما قد يتم توهمه . في المشرق هناك صحوة محمودة للحفاظ على هيبة اللغة العربية ، فكثير من ثانوياتها و جامعاتها تدرس باللغة العربية الفصيحة ، و مثال ذلك ببعض كليات الطب في سوريا التي تدرس مقرراتها باللغة العربية كلغة اختيارية إلى جانب اللغة الإنجليزية ، لذلك تجد أن كتب العلوم الحديثة كالطب و الفيزياء و الرياضيات و علوم التربية ... تكتب باللغة العربية الفصيحة في هذه البلدان ، و تصدر لنا عكس ما يحدث هنا بحيث يبرع بعض المتخصصين فقط في ترجمة هذه الكتب عن مؤلفيها الغربيين ، و غالبا ما يصعب على القارئ فك شفرات ترجماتهم لها . يجب تفعيل مقتضيات الدستور على الأقل لإرجاع الهيبة للغة العربية بلدنا ، كما يجب أيضا تفعيل و تشجيع جميع المؤسسات التي تدعم اللغة العربية ، مثل مؤسسة محمد السادس للغة العربية و الجمعيات الخاصة بالدفاع عن اللغة العربية ، و المؤتمرات و الحلقات الخاصة بتعريف المواطنين بلغتهم ، فهذا من شأنه أن يقلص هذه الهوة بين الإنسان العربي و لغته المظلومة . * باحث في اللسانيات