إذا كانت الدولة تستمد شرعية وجودها من خلال سياسات عمومية تعمل على تنزيلها، فإن هذه السياسات لا يمكن لها أن تتحقق على أرض الواقع إلا في ظل وجود مرافق عامة تباشر تنفيذها. بسبب هذه العلاقة المتينة، برز في الفقه القانوني من ربط الدولة وجودا و عدما بنظرية المرافق العامة، فلم ينظر إليها كسلطة آمرة، و إنما كمنظومة من المرافق العامة، يديرها موظفون مستأمنون عليها، يسهرون على تلبية حاجيات المواطنين... إنها نظرية المرافق العامة التي قابل بها أصحابها نظرية السلطة و السيادة. و سواء اصطف المرء ضمن صفوف النظرية الأولى أم الثانية، فإن الجميع يدرك الأهمية القصوى و البالغة التي تحظى بها المرافق العامة في دولة ما... فأينما حلت سياسات عمومية إلا و حلت معها مرافقُ عامة، و أينما اتجهت أهداف الدولة إلا و اتجهت معها مرافقٌ عامة... ذلك أن هذه الأخيرة، هي بمثابة الجهاز المنفذ لبرامج و استراتيجيات الدولة، فبدونها تنعدم هذه البرامج و الاستراتيجيات... و باختلالها تختل النتائج و تسوء ... و إذا أردنا أن نحدد موقع المرافق العامة في إطار مجتمع ما، سنجدها تتغلغل في سائر مناحي حياته السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية، فهي الحلقة المباشرة التي من خلالها تتعامل الدولة مع المواطن، فإما أن تثير غضبه أو أن تحصل على رضاه... و هي في صلب الاقتصاد، يتأثر بأدائها سلبيا أو إيجابيا... و هي مُنظِّمةٌ للاجتماع، بواسطتها تسمو العلاقات الاجتماعية و يتحقق الرفاه أو يحدث العكس. فموقع المرافق العامة داخل النسق الاجتماعي موقعٌ محوري و مؤثر، وبما أنه كذلك، فإن الدول على اختلاف مشاربها الإيديولوجية اهتمت به اهتماما بليغا. عملت فرنسا، في عهد نابليون بونابرت، على وضع الأسس و المبادئ الإدارية و المرفقية، فتم ربط الإدارة و شرعيتها و مصداقيتها بالمرفق العام المتصل بالمنفعة العامة، و أصبح بالتالي المعيار الذي بُنيت عليه النظرية العامة للقانون الإداري الحديث. سيترسخ بعد ذلك، دور المرفق العام بشكل مطلق، لاسيما مع الأزمة الاقتصادية لسنة 1929 و مع بروز العديد من النظريات الاقتصادية، من ضمنها، النظريات الكينزية الداعية إلى تفعيل دور الدولة في تحفيز و توجيه الاقتصاد، مما سيؤدي إلى أن تنظر الدول إلى المرفق العام كنواة أساسية داخل كل إصلاح. سيمشي المغرب بدوره في هذا المسار، متأثرا بالنموذج الفرنسي، غير أن ذلك لم يكن نتيجة اختيار إرادي، و إنما بفعل إملاءاتٍ فرضتها الحماية الفرنسية. و سيعتمد في تدبيره للمرافق العامة على عدة طرق، تراوحت بين طريقة "الاستغلال المباشر"، و تقنية "المؤسسة العامة"، و أسلوب "الشركات العامة أو الشركات ذات الاقتصاد المختلط"، فضلا عن أسلوب الهيئات و النقابات المهنية. و مع تطور وظائف الدولة، سيلجأ المغرب إلى إسناد إدارة مرافقه العامة إلى أشخاص القانون الخاص، تارة بأسلوب الامتياز الذي يعتبر من أقدم الأساليب في هذا المجال، و تارة بأسلوب "التدبير المفوض" باعتباره نظاما حديثا و بديلا لسياسة الخوصصة. و إذا كانت طرق التدبير هذه قد تبنتها عدة دول غربية بدرجات متفاوتة ، و أفرزت لها نتائج إيجابية على مستوى المردودية، فإن الوضع في المغرب يختلف إذا ما نظرنا إليه من زاوية الأداء المضطرب لمرافقه العامة، إذ باتت هذه الأخيرة تؤرق صناع القرار في هذا البلد، نظرا للاختلالات التي تعتريها. تمتص نفقات التسيير للميزانية العامة 59% من مجموع الموارد المقدرة لسنة 2014، تأتي في مقدمتها نفقات الموظفين بما يعادل 103 مليار و 700 مليون درهم، أي بنسبة 52% من مجموع نفقات التسيير و 28% من مجموع نفقات الدولة...يُثقل هذا الإنفاق كاهل الميزانية العامة، و يؤثر سلبيا على المشاريع الاستثمارية . و بالانتقال إلى ميزانيات الجماعات الترابية، نجد أن نفقات التسيير، و لاسيما نفقات الموظفين الذين يفوق عددهم 150 ألف موظف تستحوذ على أزيد من 50% من الموارد المرصودة لهذه الوحدات. أمام هذه المعطيات،يصبح من البديهي التساؤل حول مدى ملاءمة الكلفة للمردودية، و إن كان عطاء مرافقنا العامة يأتي على قدر التكاليف المخصصة لها. سيصدر الجواب، حتما، بصيغة النفي، و ربما قد يتعداه إلى صيغة النقد الشديد، ذلك أن العديد من المرافق العامة تحولت إلى مصدرٍ لعدم رضا المواطنين عن السياسات العمومية، و منها من تحول إلى عائق أمام المستثمرين أو إلى مُعطِّلٍ للمبادرات الاقتصادية و مساهمٍ في عدد لا يستهان به من أشكال الفوضى التي تعرفها بعض القطاعات الحيوية كالتعمير و التعليم و العدل و الصحة... ناهيك عن التسويق السلبي لصورة المغرب دوليا و احتلاله لمراتب متدنية عالميا على مستوى التنمية الاقتصادية و الاجتماعية... و بالتالي لم يعد يُنظَر إلى بعض المرافق العامة الوطنية و المحلية كمصدر للتنمية بقدر ما أصبح يُنظر إليها كمستنزفٍ لمالية الدولة و ممتصٍّ مفرط لأي نسبة من التقدم يحققه الناتج الخام الوطني. و إذا كان المغرب قد وضع لنفسه برامج طموحة و استراتيجيات للتنمية الاقتصادية و الاجتماعية منذ مطلع الألفية الثالثة، فإن حالة المرفق العام في وضعها الحالي تبدو غير قادرة على استيعاب هذا التطور و التكيف معه بشكل إيجابي...لذلك، أصبح لازما تغيير سلم الأولويات، و البدء ببرنامج استعجالي شاملٍ و كاملٍ للمنظومة المرفقية، حيث أن إصلاحها أضحى مسألة مصيرية و استراتيجية يجب تقديمها كأولوية قصوى قبل أي إصلاح آخر. صحيحٌ أن المشرع الدستوري قد أفرد بابا كاملا لمبادئ الحكامة الجيدة،أكد من خلاله على معايير الجودة و الشفافية و المحاسبة و القيم الديمقراطية التي يجب أن تخضع لها المرافق العمومية، كما أكد على وضع ميثاق لها يحدد قواعد الحكامة الجيدة المتعلقة بتسييرها... غير أن هذه التوجيهات، تظل في حاجة إلى تنزيل عملي لمقتضياتها، ينقلها من حالة السكون إلى حالة الحركية و التأثير... و هذا ما يتطلب إرادة سياسية قوية. فمن غير المتصور إذن، تفعيل و إنجاز برامج وطنية على نحو سليم إذا كانت اليد المنفذة تعاني من علل تعيق حركيتها، كما أن التوجهات التي رسمها قانون المالية لسنة 2014، تبقى قاصرة إذا لم تسبقها إصلاحات مرفقية تهدف إلى إعادة و تشكيل الخريطة الإدارية و دمج بعض المرافق العامة و تحديد الاختصاصات بشكل عقلاني يتفادى تداخلها و يساعد على تحديد المسؤوليات، إذ حان الوقت لكي يضطلع كل قطاع وزاري بمهام تتناسب مع طبيعته، لتظل الأنشطة ذات الصلة بالسياسات العمومية ، موزعة بصورة تنبني على أساس منطق التعاون و التكامل و ليس على سياسة التداخل. إن إصلاح المرفق العام المغربي، يتطلب التركيز على الجودة و الكفاءة و على نهج سياسة صحيحة للتوظيف و التعاقد و الانفتاح على التجارب الأجنبية و عقد شراكات معها لتبادل الخبرات... كما يتطلب التركيز المستمر على ملاءمة الكلفة مع الأهداف المراد تحقيقها و الاعتماد على علم الإدارة و التقنيات الحديثة في مجال التسيير... و قد يتطلب بالأساس، لاسيما في الوقت الراهن، العمل على تفعيل مبدأ تقديم المصلحة العامة على مصالح مقدمي هذه الخدمات. من جانب آخر، تبقى الرقابة الداخلية و السياسية و القضائية على مالية المرافق العمومية و على أوجه تسييرها، أمرا في غاية الأهمية لتحسين أدائها، لاسيما رقابة المحاكم المالية التي يجب توسيعها و توسيع صلاحياتها و مدها بالوسائل المادية و البشرية اللازمة للقيام بعملها... غير أن هذه الرقابة، تظل جزئية إذا لم تُرافق برقابة أخرى يمارسها المجتمع المدني الذي يُعد حلقة أساسية في أي عمل رقابي. فرقابة المجتمع المدني تتواجد في صلب الديمقراطية، و هي تعتمد على توفر المعلومة التي على أساسها تشتغل الهيئات و المنظمات المدنية. و قد رأى الأوربيون بأن إشراك المجتمع المدني في المعلومة، من شأنه أن يعيد ثقة الناس في السياسات العمومية و أن ينعكس ذلك إيجابا على الميدان الاقتصادي الذي يوجد في حالة ركود ... لذلك، بادر المجلس الأوربي إلى سن الاتفاقية رقم 205 سنة 2009 المتعلقة بحق الاطلاع على الوثائق العامة، كما بادرت العديد من الدول الأوربية إلى تكييف قوانينها الداخلية مع هذا المعطى الجديد... و نستحضر في هذا الصدد، المثال الإسباني الذي صادق برلمانه على القانون 19/2013 المتعلق بالشفافية، كمحاولة منه لتصحيح الحياة العامة و إعادة الثقة في الاقتصاد و تحفيز المبادرات المقاولاتية و الاستثمارية و ترسيخ مبدأ المساءلة و تقديم الحسابات ... و لم يقتصر الأمر على الكورتيس الإسباني، بل تعداه ليصل إلى بعض البرلمانات المحلية التي سنت بدورها قوانين خاصة بها حول الشفافية و الحكامة الجيدة، آخِرها صدر عن البرلمان المحلي الأندلسي ... فهل بإمكاننا في المغرب أن نسلك هذا الاتجاه الرامي إلى تخليق الحياة العامة، أم أننا سنظل حريصين على استمرار المشهد. إن عملية إصلاح المرافق العامة تؤطرها العديد من النظريات و الرؤى يصعب حصرها في هذا المقام، غير أنه من الواضح أن كل المعالجات التي يمكن اتخاذها في هكذا إصلاح، ستظل قاصرة و لن تؤتي أكلها إذا لم تكن مدعمة بإرادة سياسية صادقة و هادفة إلى الإصلاح الجدري و ليس إلى مجرد تغيير سطحي في إطار الاستمرارية. [email protected]