سلسلة حفريات في الفكر السلفي بداية لا بد من تعريف هذا المفهوم لغة و اصطلاحا ، فبالنسبة إلى مدلوله اللغوي فهو يحيل على كل ما مضى و انقضى ، أي إنه يعد في سياق الزمن الماضي ، و لا يمت بأي صلة إلى الزمن الحاضر . أما اصطلاحا فهذا المفهوم يدور على ما كان عليه صحابة رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و التابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين ، و أتباعهم ممن شُهد لهم بالإمامة وعُرفَ عظم شأنهم في الدين، وتلقى الناس كلامهم خلفا عن سلف ، كالأئمة الأربعة ، وسفيان الثوري ، و الليث بن سعد ، و ابن المبارك ، و النخعي ، و البخاري ، و مسلم ... وسائر أصحاب السنن . وبخلاف ذلك ، فكل من خرج على هذا السياق فقد وصف بالمبتدع الذي جاء بالضلالة ، أو تم التشهير به بلقب نشاز ، مثل : الروافض ، أو الخوارج أو المعتزلة أو المرجئة ... . لذلك فلسان حال المدرسة السلفية يقول : إن كل من التزم بعقائد و فقه هؤلاء الأئمة كان منسوبا إليهم ، و إن باعدت بينه و بينهم الأزمنة و الأمكنة ، و كل من خالفهم فليس منهم و إن عاش بين أظهرهم ، و جمع بهم نفس المكان والزمان . بتفحص هذه الرؤية التي تتبناها المدرسة السلفية يتضح أنها تلزم جميع أتباعها باقتضاء طريقها ، وعدم الحيدة عنه قيد أنملة ، و في مقابل ذلك ، فهي لا تتوانى في تخوين أو معايرة أي حاد عن منهجها ، هذا إذا أخذنا بالاعتبار مجموعة من أصواتها التي ترفض الرأي الآخر ، وتستهجنه ، وتصفه بالبدعة . في حين فهناك أصوات سلفية أخرى مجددة حاولت المفاصمة عن هذه الرؤية ، بسنها مبدأ التجديد و الانفتاح و قبول الآراء و الأفكار الأخرى . إن الفكر السلفي في أصوله و مبادئه ، يقوم إذن على المحافظة على الأصول ، والتشبث بها ، وهي الكتاب و السنة ، و بحسب ما فهمه السلف الصالح منهما ، أو على حد تعبير أحد منظري المدرسة السلفية في القرن العشرين الشيخ ناصر الدين الألباني : فهم الكتاب و السنة و على منهج السلف الصالح من الذين عاشوا في القرون المشهود لها بالخيرية و الأفضلية ، بمعنى آخر فالسلف قرؤوا هذين الأصلين ، و استبطنوا مراميهما ، فما على الخلف سوى اتباع قراءتهم لهما و إقفال العقل و الفكر في كثير من الأحيان على التجرؤ على هذا الفهم الذي وصف بأنه مقدس لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه . انسداد باب العقل ، و الاجتهاد ، و طغيان التفكير المطلق في الفكر السلفي جعله في كثير من الأحيان متحجرا ، لا يلقى الاستمرارية في البنية الفكرية للإنسان المسلم ، فقد يخاطب هذا الفكر وجدان الإنسان المسلم ، و يدغدغ مشاعره كونه يدعو إلى استنهاض الهمم الإسلامية التليدة ، و إحياء التراث النبوي المجيد ، و الاستبشار ببركات الله تعالى و آلائه على كل محي لسنن النبي صلى الله عليه و سلم ، لكن ، و الواقع أن مآلاته في الأخير قد تنتهي إلى مزالق لا تحمد عقباها ، فإما أن ينتكس الإنسان السلفي ، و يتقهقر ، و تحصل له رجة جراء اصطدامه بواقع بعيد جدا عما قرأه و استوحاه ، أو ينتهي في أتون مأساوي ، و لعل ما حدث في سوريا و قبله العراق واضح و صريح في هذا الجانب . إن شبابنا تصورا الفكر السلفي في ظاهره الشكلي أكثر من استيضاحه ، و فهم تصوراته ، فكان استيعابهم له في الشكل ، فليس غريبا أن نرى شلة كثيرة من شبابنا تبرع في قص اللحية وفق مقاس محدد ، و تتفنن في تسربلها بجلابيب وصفت في الجرائد بالجلابيب الأفغانية ، ثم الانعزال عن الواقع ، فهو فاسد ، و به أدران كثيرة ، فوجب هجره و طلب الخلوة منه ، حتى إن بعض مدارس الفكر السلفي وصلت من التنطع إلى تبني مبدأ الهجرة و التكفير ، فكل من خالف هذه الأفكار ، يلزم هجره ، و تكفيره ، و بالتالي استحلال دمه و ماله و عرضه ... إلى غير ذلك من السفسطة الفكرية ، و الهراء الساذج الذي إن دل على شيء فإنما يدل على قصر الرؤية ، و انعدام العمق في قراءة معنى السلفية الحقيقي ، التي لا تعدو أن تكون تفسيرا للإسلام ، قد يخدمه و يقدم له خدمات جليلة ، كما قد يصيبه عوار و قصور عن تقديم قراءة صائبة و صحيحة لديننا الإسلامي ، و هذا ما سنعى إلى تبيينه في الحلقات المقبلة إن شاء الله .