كان رئيس الوزراء المنتهية ولايته، نوري المالكي، يمضي قدما للقبض على منصبه للمرة الثالثة على التوالي، بعد أن حصل على فوز ساحق في الانتخابات التي جرت في نهاية أبريل/نيسان الماضي. وحصل ائتلاف دولة القانون الذي يتزعمه المالكي على 95 مقعدا في البرلمان من أصل 328 وبفارق نحو 60 مقعدا عن أقرب منافسيه حتى أن المالكي حصل على أعلى عدد من الأصوات تجاوز 700 ألف صوت في العاصمة بغداد. وسارع ائتلافه إلى تقديم اسمه كمرشح وحيد لشغل رئاسة الحكومة بعد صدور النتائج مباشرة وحتى قبل مناقشة هذا الأمر في التحالف الوطني وهو مظلة القوى الشيعية العراقية مما أثار استياء الحلفاء الشيعة الذين طالبوا بسحب الترشيح لحين التوصل لتوافق على شخص يحظى بقبول كل قوى التحالف الوطني. رغم ذلك مضى المالكي قدما في مساعيه لتشكيل حكومة أغلبية سياسية خلافا لما جرت عليه العادة عندما كانت القوى الشيعية والسنية والكردية تتقاسم المناصب فيما بينها في الحكومات التي أعقبت إسقاط النظام العراقي السابق في 2003، وهو ما يعني بالمحصلة استبعاد خصومه السنة والأكراد وكذلك أطراف بارزة في التحالف الشيعي وعلى رأسها التيار الصدري بزعامة رجل الدين مقتدى الصدر. واستطاع المالكي في فترة قصيرة استقطاب كتل صغيرة لدعم ولايته الثالثة رفعت من رصيد مقاعده إلى 112 قبل البدء بالمفاوضات الرسمية لتشكيل التحالفات الممهدة لولادة الحكومة، وقال آنذاك إن الأغلبية التي يسعى إليها مضمونة الأمر الذي فسره البعض بأن كتلا سياسية تدعمه سرا. غير أن "الصدمة" التي لم يتوقعها المالكي والكثيرون في العراق كما عبر هو بذاته عما يحصل الآن كان في الهجوم الكاسح والسريع والمفاجئ لمسلحين سُنة يقودهم تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش" على شمال البلاد وسيطرتهم الأسبوع الماضي على مدينتا الموصل وتكريت (شمال) ومدن وبلدات أخرى في محافظتي كركوك (شمال) وديالى (شرق) والزحف قدما لقضم مدن وقرى أخرى في مسعى للوصول إلى العاصمة بغداد. وكان المالكي قبل ذلك قليل الظهور والكلام عندما قع الاختيار الأمريكي عليه بعد انتخابات يناير/ كانون الثاني 2005 لتولي رئاسة الوزراء خلفا لإبراهيم الجعفري الذي أغضب الرئيس الأمريكي آنذاك جورج بوش بتردده وعدم قدرته على اتخاذ القرارات الحاسمة في وقت تغرق فيه البلاد بدم العراقيين. ووصفه أحد المسؤولين الأمريكيين بأنه "أفضل ما كان متوفرا" في تلك المرحلة. وراهن الأمريكيون على الخلاف العقائدي بين حزب المالكي وإيران لتحجيم نفوذ طهران في العراق الذي بدأ يتعاظم بعد سقوط النظام السابق من جانب معارضة حزب الدعوة لمبدأ ولاية الفقيه الذي يقوم عليه النظام الإيراني. والمالكي المولود عام 1950، تدرج في صفوف حزب الدعوة الذي قاتل ضد نظام صدام حسين لخمسة عقود. وكان ينظر إليه على أنه القائد الفعلي للحزب وكان يقود الجناح العسكري. وجاءت انتخابات 2010 لتكون صفعة في وجه المالكي، فحصل العلماني إياد علاوي وائتلافه العراقية على أغلبية الأصوات، لكن تحالفات المالكي وائتلافه الشيعي حالت دون أن يكلف علاوي بالمنصب، وحصل المالكي على المنصب من جديد بدعم من إيران. لم يكن المالكي ضعيفا كما كانت تعتقد واشنطن، فقد همش خصومه السياسيين من السنة تحديدا وأبعدهم عن الساحة بالضغوط أو بالقوة. وعلى الصعيد العسكري والأمني، جعل المالكي الجيش منظومة عسكرية ضخمة تعمل بإمرته، فشكل مكتب القائد العام للقوات المسلحة. كما أبعد كبار القادة العسكريين من السنة وعين مكانهم ضباطا يدينون له بالولاء المطلق. ونخر الفساد المالي والإداري المؤسسة العسكرية ودوائر الدولة الأخرى على مدى 8 سنوات من حكم المالكي حتى بات البلد على رأس قوائم الدول الأكثر فسادا في العالم. وكثير ما اشتكى السنة من أفراد الأجهزة الامنية العراقية واتهموها بشن مداهمات على مناطقهم واعتقال المئات منهم وزجهم في السجون دون اتهامات ومحاكمات. وكذلك استغلال قوانين مكافحة الإرهاب والاجتثاث لاستهدافهم على نحو غير عادل. ويعتقد الكثيرون أن الانقسامات السياسية والطائفية العميقة في العراق كان وراءها سياسيات المالكي ومحاولاتها المستمر لحصر السلطات بيده وتحجيم خصومه وملاحقتهم وخاصة في ولايته الثانية عندما غادر الجيش الأمريكي بشكل نهائي في اواخر 2011. لكن ما قد يشكل ضربة قاصمة لجهود المالكي في الحصول على رئاسة الوزراء للمرة الثالثة على التوالي هو طريقة معالجته للأزمة الحالية واعتماده إلى درجة كبيرة على طائفته وعدم اعترافه بمسؤوليته عما يجري وإلقاء اللوم على ضباط الجيش الذين عينهم هو وكذلك اتهام السعودية ودول سنية أخرى في الضلوع بما سماه مؤامرة خارجية تنفذها جهات داخلية سياسية وغيرها. وكذلك تحدى المالكي الدعوات الغربية للتواصل مع السُنة لنزع فتيل الأزمة التي ينظر الكثير من السنة على أنها "ثورة" ضد ظلم حكومة بغداد. وأرادت واشنطن من رئيس الحكومة استيعاب السياسيين السُنة كشرط للدعم الأمريكي لمحاربة مسلحي "داعش" لكنه تحرك في الاتجاه المعاكس، وقال إن أطراف سياسية عراقية ضالعة في المؤامرة في إشارة على ما يبدو إلى السنة والأكراد. ووضعت خطوات المالكي وطريقة معالجته للأزمة الرئيس باراك أوباما تحت ضغط مشرعين أمريكيين، الأربعاء، لإقناع المالكي بالتنحي بسبب ما يرونه فشلا في القيادة في وجه هجوم "داعش". كما أن المالكي أقام المزيد من الحواجز بينه وبين شركائه السُنة والأكراد إثر توزيعه الاتهامات على كل من هب ودب بعد تراكم الخلافات المتفاقمة الممتدة على طول فترة ولايته الثانية وهو ما يهدد بتمزيق البلاد وإشعال حرب أهلية واسعة النطاق. ورغم أن السُنة والأكراد قد حذروا من عواقب "وخيمة" وتفتيت البلاد وتمزيقها فيما إذا تولى المالكي رئاسة الحكومة المقبلة إلا أن الأوضاع تفجرت حتى قبل أن يجلس رئيس الوزراء على كرسي الحكم مرة أخرى. كما أن تقارير تحدثت عن تضاؤل الدائرة المؤيدة للمالكي داخل البيت الشيعي بعد الأزمة الأخيرة حيث أن الكثيرين ممن كانوا ينظرون إلى المالكي بأنه المرشح الأقوى لشغل رئاسة الحكومة باتوا يراجعون حساباتهم. ومع وصول الاستياء من قيادة المالكي للبلاد إلى دائرة مؤيديه تقل حظوظه على نحو واسع لتولي الحكومة المقبلة إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار رفض قوتين شيعيتين بارزتين لهذا المسعى أساسا وقبل اندلاع الأزمة الأخيرة وهما التيار الصدري والمجلس الأعلى الإسلامي العراقي بقيادة عمار الحكيم. وتبقى الأعين تترقب هل سيشهد العراق قادم الأيام خروج المالكي من دائرة الأضواء بعد خسارة جيشه المدوية أمام داعش وفصائل سنية أخرى؟ *وكالة أنباء الأناضول