يميز العلاقات المغربية الاسبانية، تعقد استثنائي . لأنها ، تطوي في جوانبها أهم المفارقات و التناقضات، التي تضع المجال الممكن بين دولة وثانية على أوتار السيكوسوسيولوجيا قياسا لما تفترضه الديبلوماسية المألوفة. أولا، يحضر عامل الاستعمار، مادامت إسبانيا قد هيمنت لفترات تاريخية طويلة على أجزاء من التراب المغربي. ثانيا، الجوار لكن مع انكفاء كلي لميزان القوى لصالح إسبانيا، وبالتالي كل أشكال العنجهية والتطاول على الحقوق التي تصدر في المعتاد عن الطرف الغالب. ثالثا، تباين الهويات الحضارية. رابعا، التأسس الطبيعي لمنظورات علاقة عمودية بين بلد كإسبانيا أضحى منذ سنوات قوة عالمية كبرى، اقتصاديا و عسكريا ثم على المقربة منه بلد صغير كالمغرب، لازال يعاني من ويلات التخلف ، بل يتمثله المخيال الإسباني ومن خلاله الأوروبي إجمالا باعتباره منتميا لتلك المجموعة البشرية التي تضمر بالفعل أو الاحتمال كل الشرور المحدقة بالتحضر الأوربي ، من تصدير للإرهاب إلى شتى منظومات الفقر و العطالة.... مما يدعو أحيانا وبتهكم ، استحضار مشروع مارشال جديد لصالح هذه العوالم المنكوبة، كنوع من الوقائية كي تحصن أوربا نفسها، وربما ستعوض نسبيا الخسارات الاقتصادية و الاجتماعية التي تكبدتها مناطق العوز الحالية جراء الاستنزاف الاستعماري لها. مع ذلك، نتائج الوضع الحالي، لا يمكن فصلها عن النهج السياسي للمغرب منذ الإقرار باستقلال غير مكتمل، دشنته مفاوضات "إكس ليبان" مع الفرنسيين ، ثم الأفق السياسي المترسخ بعدها أي مغرب الرجعية ، فانهارت العلل المفصلية بين المشروع المجتمعي و الوطنية و الديمقراطية و التحرير...، تحرير الأرض و الانسان. الحصيلة، تراكمت الأخطاء بشكل كبير وبقيت الملفات الحاسمة عالقة و مؤجلة إلى موعد غير مسمى ، ما دام الحكم المغربي قد رسم لنفسه هدفا لا غير ، تحويل كل المنظومة المجتمعية إلى بنية متوحدة حول الولاء المطلق لتصوراته . بشيئ، من الانفتاح السياسي الجاد، كان سيقود إلى استعادة جميع الثغور وإنهاء مشكل الصحراء منذ زمان، فتروم ملايير حربها نحو حرب طويلة الأمد على الفقر و الأمية و بنيات التأخر وتهيئ فيالق عسكرية متأهبة لأوراش الإقلاع الاقتصادي. لو سارت الأمور إذن وفق الوجهة الصحيحة، لكان المغرب اليوم، قوة دولية يحسب لها حسابها تتعامل مع إسبانيا وغيرها بندّية الكبار...، بيد أن قواميس التاريخ لا تعرف معنى لكلمة " لو" . بالتالي، فليقعد الضعفاء حيث هم قاعدون. إن، تجبّر الحرس الإسباني الحدودي على المواطنين المغاربة ، ما هو في حقيقة الأمر إلا تمظهرا بسيطا يخلخل نسبيا عش الزنابير، ويزيل بين الفينة و الأخرى، ورق التوت عن شعور دفين بالاحتقار تكنّه دولة إسبانيا للمغرب. لقد اقتضى باستمرار سياق الغبطة، أن تظل المياه المغربية مستباحة للصيادين الاسبان، ينهبون ما طاب لهم من الخيرات البحرية واختراق لكل الاتفاقيات و المواثيق . في المقابل ، محرم كليا على المنتوجات الفلاحية المغربية الموجهة إلى الأسواق الأوروبية منافسة نظيرتها الاسبانية وإلا فالإتلاف الهمجي مصيرها. بحيث كلما اشتد الحبل بين البلدين، سنضطر كي نتابع بمرارة على القنوات التلفزية ، مشاهد هستيريا الفلاحين و المزارعين الاسبان، حين اعتراضهم سبيل الشاحنات المغربية و الإلقاء بحمولاتها أرضا. ويتهامس الناس عندنا، ماذا لو حدث نفس الأمر مثلا مع الفرنسيين أو الإنجليز؟ كيف ستكون ردود الفعل. ستبلغ الإثارة الاسبانية أوجها، لما طفا إلى السطح فجأة ما سمي بحادثة جزيرة ليلى سنة 2002،بحيث استنفرت قواتها المسلحة، وتدخلت بعض وحداتها على وجه السرعة، كي تطرد بشكل مهين للكرامة حفنة جنود مغاربة لا يتعدى عددهم أصابع اليد الواحدة، وكاد الأمر أن يتخذ منحى خطيرا لولا الكبح الأمريكي و الفرنسي . كان للملك الحسن الثاني، رأيا خاص يحسم من خلاله موضوع المطالبة باسترجاع سبتة ومليلية ، مفاده أنه حينما تعيد بريطانيا صخرة جبل طارق لاسبانيا، ستكون هذه الأخيرة مجبرة كي تتنازل عن المدينيتين السليبتين. أيضا، أدبيات الأحزاب المغربية لم تكشف بهذا الخصوص عن استراتيجية واضحة وموصولة ، بل بقيت الإشارات ظرفية مغلفة بتعبيرات إنشائية وصيغ روتينية من باب " ونطالب" "وندعو" "ونؤكد"...، بينما تتأتى فاعلية ديبلوماسية الأمم و الأوطان من قواعد لوجيستيكية مضبوطة ، لا تأبه ببدائية طقوس الثمر و الحليب أو استمالة بكؤوس الشاي على الطريقة المحلية. بناء عليه، تكلست بعض الوقائع وتحولت مع مرور الوقت إلى بداهات ثلاث : ثبات علاقات الود والحميمية بين العائلة الملكية في المغرب واسبانيا، ثم انسيابية الأمور مع الاشتراكيين الاسبان، وأخيرا ضرورة تغييب الحواس حين يصعد اليمين بزعامة الحزب الشعبي حيث تشتد حينئد النعرات العنصرية. تحديدات واهية، بنى عليها الموقف المغربي انتظاراته ، من الطبقة السياسية الاسبانية. لسبب بسيط، يتجلى في أن سلب المغرب حقوقه يحظى بإجماع رسمي وشعبي لدى الاسبان ، بل الملك خوان كارلوس نفسه الذي نقارب سلطته بنوع من الرمزية ، فقد جسد بزيارته سنة 2007 لمدينة سبتة و مليلية ، وجهة نظرشخصية غير قابلة للرد. إسبانيا ، التي تتباهى وتتبجح أمام جحافل فقراء المغرب ، بضيعاتها و حقولها ، فأصبحوا ينازلون في معارك حربية جبابرة أسماك القرش قصد الظفر بهذا "الإلدورادو" المتواجد على بعد كيلومترات من أحزمة البؤس، لم تكن شيئا يذكر سنوات الستينات و السبعينات، حقيقة تضمنتهاحتى قياسات التصورات الشعبية وهي تربط بين الاسباني و الفاقة ، كما أن ذاكرة الأجيال السابقة تحتفظ حتى الآن بصور عن الاسباني وهو يتجول بين دروب وأحياء المدن العتيقة المغربية ، ممارسا مهنا بسيطة تكسبه بالكاد قوت يومه. لكن هذا البلد المتوسطي، وبعد انتهاء فترة ديكتاتورية فرانكو، وانتقاله إلى العهد الديمقراطي ، بنظام ملكي غير سيادي ولا مركزية جهوية مؤسسة و بناءة سيحقق قفزات اقتصادية نوعية، ابتدأت مع الأوراش التي دشنها تنظيم دورة كأس العالم لسنة 1982، ثم بلغت أوجها مع امتيازات حصول إسبانيا سنة 1986 على عضوية السوق الأوروبية المشتركة. و في الجانب الآخر، بقي المغرب في قلب دوامة الاخفاقات المتوالية . لذا، إن تبلورت حقا لدى النظام المغربي استراتيجية تتوخى مخاطبة إسباينا فيما يتعلق بجلائها عن المدينتين ، فيجب حتما استلهام مقوماتها من رؤية شاملة تتأسس على جدليات هيكلية لا مناص منها: التحرير ، الديمقراطية. التحرير، العدالة الاجتماعية. التحرير بناء الإنسان المغربي . التحرير تمليك هذا الوطن للجميع ... . إن الاختلال الأنطولوجي الفظيع، الذي ينم عنه سلوك رفع بعض المغاربة لأعلام إسبانية و التلويح بها، فرحا وابتهاجا ، يقتضي من كل المسؤولين و الهيئات الاشتغال بدون كلل من أجل تجذير بناءات نموذج مجتمعي متين ينهض بالمغاربة على جميع الواجهات ويعكس طموحاتهم قصد مجاراة المثال الاسباني ، وإلا فإن صيحات المطالبة لن تخرج عن إطار الموسمية و الاستهلاك الاعتباطي. كم !تتقطع أحشاء الواحد منا ألما، وهو يرى قوافل نساء مغربيات متعبات في عمر أمهاتنا، وهن يختبرن درجة خشونة أياديهن في القرن 21 تحت نظرات الاستعلاء و التسيّد لموظف إسباني بسيط طمعا في استجابة منه ، فيؤشر على عقد يخول لهن لأشهر الرحيل و الاشتغال في الضيعات الاسباينة مقابل "أوروات" مخضبة بعرق السّخرة و العبودية وقسوة الذل و المهانة ... . أولى خطوات تحرير سبتة ومليلية و الجزر الجعفرية، تنطلق إذن من هنا. [email protected]