لقد صاحب قرار تخفيض ثمن الأدوية، الذي دخل حيّز التنفيذ يوم الإثنين 9 يونيو2014، حملةً إعلامية مدروسة من طرف وزارة الصحة (دامت شهوراً معدودة) على أساس أنّ القرارَ "إشارةٌ قوية من الحكومة للتخفيف عن المواطنين" ؛ و بلغت الحملة ذروتها عندما صرّح وزير الصحة الحسين الوردي أن التاسع من يونيو هو "يوم تاريخي بكلّ ما للكلمة من معنى". وبعيداً عن منطق الجدل العقيم، فإن أيَّ دراسةٍ تستنِد إلى الدليل العلمي و الحجة الموثَّقة لا يمكن إلا أن تؤكد على أن تلك الحملة الدعائية اتّسمت بالتضخيم في الأرقام أحياناً و بالتدليس في المعطيات أحياناً أخرى.و على كل حال، فقد أثار قرار تخفيض ثمن الأدوية الكثير من اللَّغَط بين مُنَوِّه به على اعتبار أنه قرار جريء و مسؤول للدولة و بين منتقد على اعتبار أنه جعجعة بلا طحين لأن أكثر من ٪50 من قيمة الأدوية تذهب إلى جيب الدولة. إلا أن المفارقة الكبرى هي حصول إجماع بين ''الحكومة'' و ''المعارضة'' حول تأييد هذا المشروع على غرار باقي الملفات التي تتعلق بالصحة. فقد استوعب الجميع أن هذه الأخيرة أضحت من مجالات اهتمام السلطات العليا في البلد. و ما فتح رأسمال المصحات الخاصة لصالح ذوي المال و النفوذ إلا مؤشر على دخول الصحة عهدَ المقاربة الافتراسية. الإطار القانوني إلى عهد قريب، كان مقرَّر 1969 هو المرجعية الأولى و الأخيرة في تحديد ثمن الدواء بالمغرب. و كان يقتصر هذا المقرَّر ، الذي يعود إلى قرابة نصف قرن، على آليتين مختلفتين لتحديد ثمن الأدوية: الأولى خاصة بالأدوية مَحَلِّية الصنع و الثانية خاصة بالأدوية المستوردة، و كان لا يولي اهتماماً لخصوصية الأدوية الجنيسة[1]. و نظراً لأنه لم تتم قَطُّ مراجعته، أصبح المقرَّر متخلِّفاً عن القوانين المعتمَدة في العالم، مما انعكس سلباً على أسعار بيع العديد من الأدوية في المغرب. ففي ظل الغموض و الضبابية اللَّذَيْن كانا يكتنفان عمليةَ تحديد الدولة لأسعار البيع ، رَاكَمَت الشركات المصنِّعة أرباحاً طائلة. و تجدر الإشارة إلى أنّ المذكرة ، التي قَدَّمت بها وزارة الصحة مشروع المرسوم الجديد ، حَوَت اعترافاً ضمنيّاً بمسؤولية الدولة حيث ألقت باللائمة في ارتفاع الأسعار على ''المساطر الإدارية'' بالإضافة إلى ''بعض المصنِّعين''. و لقد صادق المجلس الحكومي، الذي انعقد يوم الجمعة 13 دجنبر 2013، على المرسوم الذي تقدّم به وزير الصحة الحسين الوردي و الذي يتعلق بآليات تحديد سعر بيع الأدوية. و جاء هذا المرسوم تتويجاً لعمل وزيرة الصحة السابقة ياسمينة بادو و الذي استند أساساً إلى الدراسة التي أَوْكَلَتها الوزيرةُ ذاتُها إلى ''مجموعة بوسطن للاستشارة''. و يتفق تقريرُ هذه الأخيرة مع المرسوم الجديد من حيث المبادئُ الكبرى إلا أنهما يختلفان من حيث التوصياتُ النهائية. المرسوم الجديد لتحديد سعر بيع الادوية حسب المرسوم رقم 2.13.852، المكوَّن من 5 أبواب و 23 مادة، يُحدَّد سعر بيع الأدوية للعموم لكل دواء مصنَّعٍ محلياً أو مستورَدٍ استناداً إلى العناصر الآتية: - سعر المُصنِّع دون احتساب الرسوم ؛ - هوامش الربح لفائدة ''المؤسسة الصيدلية الموزِّعة بالجملة'' وَ ''الصيدلاني'' ؛ - الضريبة على القيمة المضافة عند الاقتضاء [2]. و يتمثل "سعر المُصنِّع دون احتساب الرسوم" لدواء أصلي يُعرَض في السوق لأوّل مرة، سواء كان محلياً أو مستورَداً، في أدنى سعر من "أسعارِ المُصنِّع دون احتساب الرسوم" لنفس الدواء المحدَّدةِ أو المصادَقِ عليها من قبل السلطات المختصة في البلدان التالية: المملكة العربية السعودية و بلجيكا و اسبانيا و فرنسا و تركيا و البرتغال و في بلد المنشإ إذا كان سعرُه مختلفاً عن هذه الأخيرة [3]. بينما يُحدَّد سِعر كل دواء جنيس مصنَّعٍ محلياً أو مستوردٍ ، على أساس "السعر المرجعي الأقصى" . و يحسب هذا الأخيرُ انطلاقاً من ''النسبة الدنيا للتخفيض'' من "سعر المصنِّع دون احتساب الرسوم" الأولي عند ولوج الدواء الأصلي المعني: [4] و تتم مراجعة إذن العَرض في السوق كل 5 سنوات. ففيما يخص الأدوية الأصلية، يُطبَّق متوسطُ "أسعار المصنِّع دون احتساب الرسوم" الجاري بها العملُ في البلدان المذكورة آنِفاً. و فيما يخص الأدوية الجنيسة ، فيتمثل "السعر المرجعي الأقصى" في وسط أسعار الأدوية المُسوَّقة[5] . المقاربة التشاركية ! لقد أثار إعلان المرسوم الوزاري جدلاً واسعاً لا سيما في صفوف الصيادلة و ذلك لأنه أسقط شعارَ "المقاربة التشاركية" الذي ما فتئ الوزير ينادي به. و كانت الاتصالات بين الوزير و الصيادلة قد انقطعت منذ شهر يوليوز2012 إثر الاتفاق الذي عَقَده الحسين الوردي مع مصنِّعي الأدوية؛ و عَرف الاتفاقُ المذكور إقصاءَ فئة الصيادلة. [6] الشيء الذي دفع المجلسَ الجهوي لصيادلة الشمال إلى إصدار بيانٍ يطالب من خلاله بالدراسة التي قامت بها الوزارة المعنية حول المرسوم و انعكاساته على التوازن الاقتصادي للصيدلاني حتى يتَسَنّى له إبداءُ رأيه في الموضوع كما يخوِّل له الفصلان 2 و 32 من الظهير المُحدِث لهيأة الصيادلة. بدوره، دعا المجلسُ الجهوي لصيادلة الجنوب وزير الصحة إلى عدمِ الاستعجال و فتحِ حوار مع مختلف ممثلي القطاع الصيدلي بهدف إعداد مرسوم متوافَق عليه وفق مقاربة تشاركية و يخدم في آخر المطاف مصلحة المواطنين و يصون شرف المهنة و حقوق العاملين بها . و في خِضَمّ هذا الجدل و بالموازاة مع المرسوم الجديد، تقدم الوزير الحسين الوردي بمشروع قانون (رقم 115.13) يقضي بحَلّ المجلسين الجهويين لصيادلة الشمال و الجنوب و إحداث لجنة خاصة على رأسها ممثلٌ للإدارة و مكوَّنة من 10 صيادلة و 10 ممثلين عن الإدارة و يُعيَّنون جميعاً بمرسوم. و عِلَّة الوزير في ذلك أنّ وضعيةَ المجلسين الجهويين لهيأة الصيادلة غيرُ قانونية. بعبارة أخرى، ستتحكّم الدولة مستقبلاً في هذه الأخيرة مباشرةً و دون الحاجة إلى وسائط (إلى حين إجراء الانتخابات في يوم من الأيام). بالإضافة إلى توقيت الحلّ، يحق للجميع أن يتساءل عن سبب قبول الوزير بالهيأةِ ذاتِها طرفاً في المشاورات طيلة شهور إذا كانت فعلاً فاقدة للمصداقية القانونية ! تحليل عملية التخفيض على هامش انعقاد المجلس الحكومي يوم الجمعة 13 دجنبر2013 ، صرّح وزير الصحة أنّه، تطبيقاً للمرسوم الجديد، سيتم تخفيض 800 دواء (بعدما خُفِّض في مرحلة أولى ثمن 320 دواءاً ، أي بمجموع 1120 دواءاً). بعد مرور أربعة أشهر، يصرِّح نفس الوزير أن عدد الأدوية المخفَّضة بقدرة قادر هو 1258 دواءاً (أي بمجموع 1578 دواءاً) دون أي شرح أو تفصيل لهذا التغيير في الأرقام المصرَّح بها. مما يدلّ، بادئ ذي بدء، أنّ عدم الوضوح لا زال شعار الوزارة الخالد. لقد صرَّح الوزيرغيرَ ما مرّة أن التخفيض سيتراوح بين٪30 و ٪70 [7] ، بينما في الواقع الغالبية الساحقة للأدوية المخفّضَة و الواردة في الجريدة الرسمية لا تتجاوز نسبة التخفيض فيها ٪30 ! و هذا تضليل للرأي العام [8]. كما أنه يَستدِّل في هذا الباب بالدواء الذي يزعم أنه عرف أكبر تخفيض (أَمْلُورْ 10 ملغ علبة 7 أقراص) [9] على أساس أن ثمنه انتقل من 139 درهماً إلى 29٫70 درهماً، لكن المتأمِّل في لائحة الجريدة الرسمية يلاحظ أن ثمن علبة 14 قرصاً من نفس الدواء كان يساوي 99 درهماً ! فكيف يُعقل أن العلبة الصغرى أغلى ثمناً من الكبرى؟! و لكن المشكل أكبر من أن يكون مجرد تناقض لأنه لا توجد أصلاً علبة من 7 أقراص لهذا الدواء و لم تُبَعْ يوماً في الصيدليات ! فهذا تدليسٌ محض. و تجدر الإشارة إلى أن الأدوية التي تتجاوز نسبة ٪ 60 من التخفيض تقتصرعلى 17 دواءاً وتشكل فقط ٪ 1 من مجموع الأدوية المخفَّضة. ناهيك عن أنها لا تعرف طلباً كبيراً من طرف المرضى باستثناء (نِيُوفُورْتَانْ 80 ملغ). و هذا الاستثناء يُثبِت القاعدة: قاعدة العبث و اللامنطق. كيف يُعقَل أن دواءاً جَنِيساً (نِيُوفُورْتَانْ 80 ملغ) كان يباع بثمن يفوق الدواء الأصلي (سْبَاسْفُونْ80 ملغ) 3 مرات ؟! [10] كيف يُعقَل أن النسخة أغلى ثمناً من الأصل 3 مرات ؟! فإذن، لا يمكن بأيّ حالٍ أن يُعَدَّ هذا تخفيضا.ً ناهيكم عن الأدوية الكثيرة التي حُشِيَت بها اللائحةُ والتي لا يبلغ التخفيض فيها درهماً واحداً ! أما فيما يخص الأدوية ذات الكلفة العالية مثل أدوية السرطان، فلا يخفى على أحد أنها تظلّ باهِظة الثمن رغم التخفيض؛ وهنا بيت القصيد. فبدون تغطية صحية (لا تزال هزيلة في المغرب و لا تتجاوز ثلث السكان)، يبقى الدواء بصفة عامة بعيداً عن متناول المواطن الذي لا يكاد يُنفِق في هذا الباب أكثر من 400 درهمٍ في السنة. خلاصة نخلص إلى أن عملية تخفيض ثمن الأدوية لم تَخْلُ من تضخيم للأرقام وتدليس في المعطيات و تضليل للرأي العام. و فصلُ الخطاب أنّه طالما تعتبر الدولةُ الدواءَ سلعةً تجاريةً تمتصّ نصفَ قيمتها عبر الرسوم و الضرائب، و طالما لا توجد إرادةٌ لدعم القدرة الشرائية الهزيلة للمواطن، و طالما أنّ ٪70 من المغاربة محرومون من التغطية الصحية، سيظل أيُّ قرار في مجال السياسة الدوائية لا يأخذ بعين الاعتبار هذه الركائزَ الأساسية مجرّدَ زوبعةٍ في فنجان. هوامش [1] نسخة لدواء أصلي تحمل اسماً تجارياً مختلفاً و تحتوي على نفس المادة الفعّالة و لكن قد تختلف من حيث السُّواغ (المادة أو المواد التي تضاف في الدواء حتى يصبح سائغاً) ولم تظهر في المغرب إلا في السبعينيات من القرن الماضي. [2] المادة 2 من المرسوم رقم 2.13.852 [3] المادة 3 من المرسوم رقم 2.13.852 [4] المادة 5 من المرسوم رقم 2.13.852 [5] المادة 14 من المرسوم رقم 2.13.852 [6] استعان الوزير بعد ذلك في المشاورات ب"الفيدرالية الوطنية لنقابات صيادلة المغرب" فقط و التي اعترفت في مؤتمرها الاستثنائي، الذي عُقِد يوم 26 نونبر 2013 بالبيضاء، أن غايتَها كانت محاولةَ إنقاذ ما أمكن إنقاذه، لا غير. [7] انظر على سبيل المثال جريدة "بيان اليوم" الناطقة باسم حزب وزير الصحة: www.bayanealyaoume.press.ma/index.php?option=com_content&view=article&id=40162 و قد استمرّ الوزير في تخبّطاته في الأرقام إذ صرّح يوم الخميس 17 ابريل 2014 في ندوة صحفية بالرباط، تلت صدور لائحة الأدوية في الجريدة الرسمية، أنّ التخفيض سيتراوح بين٪20 و ٪80 : http://www.attajdid.ma/info.php?info=11515#.U5ghz3J5PT1 [8] قرابة ٪80 من الأدوية خُفِّض ثمنها بنسب تقل عن ٪30 [9] بنسبة ٪78٫6 [10] (نِيُوفُورْتَانْ 80 ملغ) كان يساوي 72٫80 درهماً أي أغلى من الدواء الأصلي (سْبَاسْفُونْ80 ملغ) الذي كان يساوي 27٫50 درهماً.