بقلم: د. المهدي برّاي لقد صاحب مشروع تخفيض ثمن الأدوية الكثير من اللَّغَط بين مُنَوِّه به على اعتبار أنه قرار جريء ومسؤول للدولة وبين منتقد على اعتبار أنه جعجعة بلا طحين لأن أكثر من ٪50 من قيمة الأدوية تذهب إلى جيب الدولة، إلا أن المفارقة الكبرى هي حصول إجماع بين ''الحكومة'' و''المعارضة'' حول تأييد هذا المشروع على غرار باقي الملفات التي تتعلق بالصحة. فقد استوعب الجميع أن هذه الأخيرة أضحت من مجالات اهتمام السلطات العليا في البلد. وما فتح رأسمال المصحات الخاصة لصالح ذوي المال والنفوذ إلا مؤشر على دخول الصحة عهدَ المقاربة الافتراسية. الإطار القانوني إلى عهد قريب، كان مقرَّر 1969 هو المرجعية الأولى والأخيرة في تحديد ثمن الدواء بالمغرب. وكان يقتصر هذا المقرَّر، الذي يعود إلى قرابة نصف قرن، على آليتين مختلفتين لتحديد ثمن الأدوية: الأولى خاصة بالأدوية مَحَلِّية الصنع والثانية خاصة بالأدوية المستوردة، وكان لا يولي اهتماماً لخصوصية الأدوية الجنيسة [1]. ونظراً لأنه لم تتم قَطُّ مراجعته، أصبح المقرَّر متخلِّفاً عن القوانين المعتمَدة في العالم، مما انعكس سلباً على أسعار بيع العديد من الأدوية في المغرب. ففي ظل الغموض والضبابية اللَّذَيْن كانا يكتنفان عمليةَ تحديد الدولة لأسعار البيع، رَاكَمَت الشركات المصنِّعة أرباحاً طائلة. وتجدر الإشارة إلى أنّ المذكرة، التي قَدَّمت بها وزارة الصحة مشروع المرسوم الجديد، حَوَت اعترافاً ضمنيّاً بمسؤولية الدولة حيث ألقت باللائمة في ارتفاع الأسعار على ''المساطر الإدارية'' بالإضافة إلى ''بعض المصنِّعين''. ولقد صادق المجلس الحكومي، الذي انعقد يوم الجمعة 13 دجنبر 2013، على المرسوم الذي تقدّم به وزير الصحة الحسين الوردي والذي يتعلق بآليات تحديد سعر بيع الأدوية. وجاء هذا المرسوم تتويجاً لعمل وزيرة الصحة السابقة ياسمينة بادو والذي استند أساساً إلى الدراسة التي أَوْكَلَتها الوزيرةُ ذاتُها إلى ''مجموعة بوسطن للاستشارة''. ويتفق تقريرُ هذه الأخيرة مع المرسوم الجديد من حيث المبادئُ الكبرى إلا أنهما يختلفان من حيث التوصياتُ النهائية. المرسوم الجديد لتحديد سعر بيع الأدوية حسب المرسوم رقم 2.13.852، المكوَّن من 5 أبواب و23 مادة، يُحدَّد سعر بيع الأدوية للعموم لكل دواء مصنَّعٍ محلياً أو مستورَدٍ استناداً إلى العناصر الآتية: - سعر المُصنِّع دون احتساب الرسوم. - هوامش الربح لفائدة ''المؤسسة الصيدلية الموزِّعة بالجملة'' وَ''الصيدلاني''. - الضريبة على القيمة المضافة عند الاقتضاء [2]. ويتمثل "سعر المُصنِّع دون احتساب الرسوم" لدواء أصلي يُعرَض في السوق لأوّل مرة، سواء كان محلياً أو مستورَداً، في أدنى سعر من "أسعارِ المُصنِّع دون احتساب الرسوم" لنفس الدواء المحدَّدةِ أو المصادَقِ عليها من قبل السلطات المختصة في البلدان التالية: المملكة العربية السعودية وبلجيكا واسبانيا وفرنسا وتركيا والبرتغال وفي بلد المنشإ إذا كان سعرُه مختلفاً عن هذه الأخيرة [3]. بينما يُحدَّد سِعر كل دواء جنيس مصنَّعٍ محلياً أو مستوردٍ ، على أساس "السعر المرجعي الأقصى". ويحسب هذا الأخيرُ انطلاقاً من ''النسبة الدنيا للتخفيض'' من "سعر المصنِّع دون احتساب الرسوم" الأولي عند ولوج الدواء الأصلي المعني:[4] وتتم مراجعة إذن العَرض في السوق كل 5 سنوات. ففيما يخص الأدوية الأصلية، يُطبَّق متوسطُ "أسعار المصنِّع دون احتساب الرسوم" الجاري بها العملُ في البلدان المذكورة آنِفاً. وفيما يخص الأدوية الجنيسة، فيتمثل "السعر المرجعي الأقصى" في وسط أسعار الأدوية المُسوَّقة [5]. المقاربة التشاركية! لقد أثار إعلان المرسوم الوزاري جدلاً واسعاً لا سيما في صفوف الصيادلة وذلك لأنه أسقط شعارَ "المقاربة التشاركية" الذي ما فتئ الوزير ينادي به. وكانت الاتصالات بين الوزير والصيادلة قد انقطعت منذ شهر يوليوز 2012 إثر الاتفاق الذي عَقَده الحسين الوردي مع مصنِّعي الأدوية؛ وعَرف الاتفاقُ المذكور إقصاءَ فئة الصيادلة. الشيء الذي دفع المجلسَ الجهوي لصيادلة الشمال إلى إصدار بيانٍ يطالب من خلاله بالدراسة التي قامت بها الوزارة المعنية حول المرسوم وانعكاساته على التوازن الاقتصادي للصيدلاني حتى يتَسَنّى له إبداءُ رأيه في الموضوع كما يخوِّل له الفصلان 2 و32 من الظهير المُحدِث لهيأة الصيادلة. بدوره، دعا المجلسُ الجهوي لصيادلة الجنوب وزير الصحة إلى عدمِ الاستعجال وفتحِ حوار مع مختلف ممثلي القطاع الصيدلي بهدف إعداد مرسوم متوافَق عليه -وفق مقاربة تشاركية- ويخدم في آخر المطاف مصلحة المواطنين ويصون شرف المهنة وحقوق العاملين بها. وفي خِضَمّ هذا الجدل وبالموازاة مع المرسوم الجديد، تقدم الوزير الحسين الوردي بمشروع قانون (رقم 115.13) يقضي بحَلّ المجلسين الجهويين لصيادلة الشمال والجنوب وإحداث لجنة خاصة على رأسها ممثلٌ للإدارة ومكوَّنة من 10 صيادلة و10 ممثلين عن الإدارة ويُعيَّنون جميعاً بمرسوم. وعِلَّة الوزير في ذلك أنّ وضعيةَ المجلسين الجهويين لهيأة الصيادلة غيرُ قانونية. بعبارة أخرى، ستتحكّم الدولة مستقبلاً في هذه الأخيرة مباشرةً ودون الحاجة إلى وسائط (إلى حين إجراء الانتخابات في يوم من الأيام). بالإضافة إلى توقيت الحلّ، يحق للجميع أن يتساءل عن سبب قبول الوزير بالهيأةِ ذاتِها طرفاً في المشاورات طيلة شهور إذا كانت فعلاً فاقدة للمصداقية القانونية! تحليل عملية التخفيض على هامش انعقاد المجلس الحكومي يوم الجمعة 13 دجنبر2013، صرّح وزير الصحة أنّه، تطبيقاً للمرسوم الجديد، سيتم تخفيض 800 دواء (بعدما خُفِّض في مرحلة أولى ثمن 320 دواء، أي بمجموع 1120 دواءً). بعد مرور أربعة أشهر، يصرِّح نفس الوزير أن عدد الأدوية المخفَّضة بقدرة قادر هو 1258 دواءً (أي بمجموع 1578 دواءً) دون أي شرح أو تفصيل لهذا التغيير في الأعداد المصرَّح بها. مما يدلّ، بادئ ذي بدء، أنّ عدم الوضوح لا زال شعار الوزارة الخالد. لقد صرَّح الوزير غير ما مرّة أن التخفيض سيتراوح بين ٪30 و٪70 [6]، بينما في الواقع الغالبية الساحقة [7] للأدوية المخفّضَة لا تتجاوز ٪30! وهذا تضليل للرأي العام. كما أنه يَستدِّل في هذا الباب بالدواء الذي يزعم أنه عرف أكبر تخفيض (أَمْلُورْ 10 ملغ علبة 7 أقراص) [8] على أساس أن ثمنه انتقل من 139 درهماً إلى 29٫70 درهماً، لكن المتأمِّل في لائحة الجريدة الرسمية يلاحظ أن ثمن علبة 14 قرصاً من نفس الدواء يساوي 99 درهماً! فكيف يُعقل أن العلبة الصغرى أغلى ثمناً من الكبرى؟! ولكن المشكل أكبر من أن يكون مجرد تناقض لأنه لا توجد أصلاً علبة من 7 أقراص لهذا الدواء ولم تُبَعْ يوماً في الصيدليات! فهذا تدليسٌ محض. وتجدر الإشارة إلى أن الأدوية التي تتجاوز نسبة ٪ 60 من التخفيض تقتصر على 17 دواءً وتشكل فقط ٪ 1 من مجموع الأدوية المخفَّضة. ناهيك عن أنها لا تعرف طلباً كبيراً من طرف المرضى باستثناء (نِيُوفُورْتَانْ 80 ملغ). وهذا الاستثناء يُثبِت القاعدة: قاعدة العبث واللامنطق. كيف يُعقَل أن دواءً جَنِيساً (نِيُوفُورْتَانْ 80 ملغ) يباع بثمن يفوق الدواء الأصلي (سْبَاسْفُونْ 80 ملغ) 3 مرات؟! [9] كيف يُعقَل أن النسخة أغلى ثمناً من الأصل 3 مرات؟! فإذن، لا يمكن بأيّ حالٍ أن يُعَدَّ هذا تخفيضاً. أما فيما يخص الأدوية ذات الكلفة العالية مثل أدوية السرطان، فلا يخفى على أحد أنها تظلّ باهِظة الثمن رغم التخفيض؛ وهنا بيت القصيد. فبدون تغطية صحية (لا تزال هزيلة في المغرب ولا تتجاوز ثلث السكان)، يبقى الدواء بصفة عامة بعيداً عن متناول المواطن الذي لا يكاد يُنفِق في هذا الباب أكثر من 400 درهمٍ في السنة. خلاصة نخلص إلى أن عملية تخفيض ثمن الأدوية لم تَخْلُ من تضخيم للأرقام وتدليس في المعطيات وتضليل للرأي العام. وفصلُ الخطاب أنّه طالما تعتبر الدولةُ الدواءَ سلعةً تجاريةً تمتصّ نصفَ قيمتها عبر الرسوم والضرائب، وطالما لا توجد إرادةٌ لدعم القدرة الشرائية الهزيلة للمواطن، وطالما أنّ ٪70 من المغاربة محرومون من التغطية الصحية، سيظل أيُّ قرار في مجال السياسة الدوائية لا يأخذ بعين الاعتبار هذه الركائزَ الأساسية مجرّدَ زوبعةٍ في فنجان. ---------------------راجع -------------------- 1- نسخة لدواء أصلي تحمل اسماً تجارياً مختلفاً وتحتوي على نفس المادة الفعّالة ولكن قد تختلف من حيث السُّواغ (المادة أو المواد التي تضاف في الدواء حتى يصبح سائغاً) ولم تظهر في المغرب إلا في السبعينيات من القرن الماضي. 2- المادة 2 من المرسوم رقم 2.13.852. 3- المادة 3 من المرسوم رقم 2.13.852. 4- المادة 5 من المرسوم رقم 2.13.852. 5- المادة 14 من المرسوم رقم 2.13.852. 6- انظر على سبيل المثال جريدة "بيان اليوم" الناطقة باسم حزب وزير الصحة : www.bayanealyaoume.press.ma/index.php?option=com_content&view=article&id=40162 7- قرابة ٪80 من الأدوية خُفِّض ثمنها بنسب تقل عن 30٪ 8- بنسبة ٪78٫6 9- (نِيُوفُورْتَانْ 80 ملغ) يساوي 72٫80 درهماً أي أغلى من الدواء الأصلي (سْبَاسْفُونْ 80 ملغ) الذي يساوي 27٫50 درهماً.