قبل أشهر كنت قد كتبت تعليقا مطولا على كلام ورد أكثر من مرة في أكثر من مناسبة، على لسان الدكتور مصطفى بوهندي حول موضوع عصمة الأنبياء، لكنني تراجعت عن نشره في آخر لحظة، حتى لا أكون شريكا في "بوليميك" يشغل به البعض فراغهم وعجزهم عن تقديم الجديد المفيد، خاصة بعدما أصبح المجال مفتوحا ليدلي كل برأيه حتى لو تعلق الأمر بمسائل حساسة ودقيقة. غير أن المقال الأخير لنفس الأستاذ، المنشور تحت عنوان "أماني" والذي تطرق فيه بشكل ما إلى مفهوم "المغضوب عليهم" و"الضالين"، جعلني أمام "منهجية" غريبة وعجيبة تتكرر ليس مع أستاذنا فقط، بل مع كثير من الذين تخصصوا في نوع من الكتابة المستفزة التي تتخفى خلف ستائر العلمية والحال أن بينهما ما بين السماء والأرض. وليسمح لي الأستاذ الفاضل ومن يسير على نهجه في الكتابة، بتسجيل بعض الملاحظات العابرة. ** من حيث الشكل: - الفرق بين البحث العلمي والسعي إلى الإثارة يكمن في "مراعاة حال المخاطب"، فما يقال في درس أمام الطلبة، ليس هو ما يقال في محاضرة في ندوة علمية، ولا هو ما يقال في حشد من "العوام".. ولا هو ما يمكن أن يقال في جلسة مع نخبة من الباحثين المختصين.. - لتفكيك رأي فقهي ما، لابد من قراءة حجه ومناقشتها ونقضها أو إبطالها، للبرهنة على مجانبته للصواب، وهذه منهجية علمية دقيقة لا تختص بها العلوم الإسلامية وحدها، بل تعتمدها مختلف فروع العلم. ألم يكن حريا بالدكتور بوهندي أن يُخرج الأحاديث التي اعتمدها بعض المفسرين في تفسير "المغضوب عليهم " باليهود، والضالين" بالنصارى، وإثبات مدى حجيتها وفق قواعد الجرح والتعديل وغير ذلك من آليات التمحيص المعروفة حتى للطلبة المبتدئين في دراسة علوم الحديث؟ - من المؤكد أنه لم يغب عن الأستاذ أن "القرآن يفسر بعضه بعضا"، وبالتالي كان عليه بذل جهد فعلي لفك الارتباط بين الآية الأخيرة في الفاتحة، والآية 60 من سورة المائدة: "قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ 0للَّهِ مَن لَّعَنَهُ 0للَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ 0لْقِرَدَةَ وَ0لْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ 0لطَّاغُوتَ أُوْلَٰئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ 0لسَّبِيلِ"، والآية 77 من نفس السورة "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ".. فالخطيب "المتهم" -حسب الدكتور بوهندي - بترديد "مقولة اليهود هم المغضوب عليهم والنصارى هم الضالون.." والتي "..يترتب عليها أن "المسلمين" هم المنعم عليهم أصحاب الصراط المستقيم، وهي حالة اطمئنان خادع وغرور كاذب يصرفنا إليها خطباء مساجدنا. إنهم بفعلهم هذا يهدمون منظومة القيم الدينية الكونية من أساسها، وعلى رأسها العدل والإحسان والتعارف والتعاون والأخوة والعمل الصالح والرحمة والمساواة والإنسانية ويحلّون محلها قيم الظلم والبخل والصراع والفرقة والطائفية والاستبداد.."... -الخطيب- لم يأت بدعا من القول، بما أن اليهود إن لم يكونوا وحدهم "المغضوب عليهم" فهم جزء منه، والنصارى إن لم يكونوا وحدهم "الضالين" فهم على الأقل جزء منهم.. بالمقابل خلط الدكتور مفاهيم وضرب بعضها ببعض : العدل والإحسان والتعارف والتعاون والأخوة والعمل الصالح والرحمة والمساواة والإنسانية.. فهل تفرض هذه العناوين التصديق بما يعتقده الآخرون والتسليم به ومجاراتهم فيه؟ وهل يرى فضيلة الأستاذ أن هذه المبادئ التي أقرها الإسلام، لا تستقيم إلا إذا قلنا إن اليهود والنصارى حتى بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، سيحاسبون يوم القيامة وفق معتقداتهم هم لأن رسالة الإسلام لا تخاطبهم؟؟؟؟؟ - يعتمد الدكتور طريقة غريبة في تناول آيات قرآنية، واجتزائها وفصل بعضها عن سياقها، ليخلص إلى نتائج لا تقف على رجلين، كما فعل مع الآيات 111 إلى 113 من سورة البقرة :"وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ، بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ، وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ".. ولا أدري كيف استنبط من هذا النص في نفس الوقت (أنه يرد على الخطاب الطائفي والعنصري في اليهودية والنصرانية، وإنه يعترف لهم بدخول الجنة، "بلى"، و بأن الله لا يضيع أجورهم يوم العرض عليه، إذا كانوا ممن أسلموا وجوههم لله وكانوا من المحسنين فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون)... الكلام بين قوسين منقول حرفي من المقال وأعتذر لأنني لم أفهم منه شيئا؟ إن تذوق اللغة العربية شرط ضروري لفهم النصوص الشرعية.. والركاكة لا يمكن أن تجلس على نفس الطاولة مع الفصاحة.. - هناك "تقنية" يعتمدها البعض عند الكتابة في المسائل الدينية، تقوم على إثارة الغبار، وزرع آيات أو أجزاء منها في خلطة من التراكيب والجمل غير المفيدة لجعل المتلقي تائها عاجزا عن الإمساك برأس الخيط .. يقول الدكتور بوهندي مثلا في نفس السياق السابق :("ثم قدّم لنا هذا البيان القرآني حسما في مسألة الخلاف بين اليهود والنصارى والذين لا يعلمون لكنهم يقولون مثل مقولات اليهود والنصارى المستخفة بالمخالفين، جاء فيه: "فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ." وحسب هذا البيان فعلى أهل الأديان أن يكلوا الحكم إلى الله في أمر "أصحاب الجنة وأصحاب النار" و"الذين هم على شيء والذين ليسوا على شيء"، فالأمر لا ينبني على الرغبات والأماني: "ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا"..وليس بالادعاءات والمقولات").. ولا أدري كيف يمكن الجمع بين هذا الكلام، وكون القرآن الكريم خصص جزءا كبيرا من آياته لإبطال معتقدات اليهود والنصارى تحديدا.. وتوعدهم بالعقاب والعذاب ما لم يؤمنوا بالنبي الخاتم عليه السلام..إشكالية.. أليس كذلك؟ - تقتضي الأمانة العلمية حتى من طلبة الجامعات والمبتدئين في مجال البحث نسبة كل قول إلى صاحبه والامتناع عن "السطو" على جهود الآخرين.. لكن هذه الخاصية تغيب تماما في كتابات كثيرين، ممن يطلقون بين الفينة والأخرى قنابل صوتية مستغلين جهل المتلقي في الغالب، فيقدمون أفكارا وأطروحات على أنها من بنات أفكارهم، والحال أن من يتصفح مصادر ومراجع عمرها قرون وليس عقود، يفاجأ بأن تلك الفكرة أو الأطروحة أثيرت بتوسع من طرف الأقدمين وقتلت بحثا، وانتصر لها البعض وعارضها البعض الآخر..وانتهى الأمر.. إن العلاقة الجدلية بين الإثارة والجهل لن تنقطع تماما مثل التلازم بين الهرطقة والتطرف، وبين التجذيف والتكفير. - نحن في حاجة فعلا إلى حوار حقيقي مبني على أسس علمية وليس إلى افتعال معارك إعلامية، ومحاولة إظهار "المؤسسة" الدينية سواء كانت رسمية أو شعبية على أنها مجرد أداة لتعطيل العقل، ولتسخير الدين لخدمة الدولة أو السياسة أو التخلف والخرافة، لكن من شروط الحوار أن يكون على أسس علمية بعيدة عن الإثارة.. لخصها موقف الإمام مالك رحمه الله، حيث يروى أنه رد على من جاء يطلب مناظرته في موضوع ما بما معناه : أنا متيقن مما أنا عليه، وبالتالي فإضاعة الوقت في السجال حول شيء أوقن به عبث، وأنت إما أنك متيقن مما أنت عليه وبالتالي فنقاشك فيه عبث أيضا، وإما أنك متشكك في موقفك ومناظرتك ساعتها عبث أكبر .. - إن القضية التي أثارها الدكتور بوهندي في مقاله، تحيل إلى مسألة خطيرة بدأت في التبلور في السنوات الأخيرة، وهي التمييز بين طبقة ال"مفكرين" التي هي في حل من الخضوع للمنهجيات العلمية المقررة في العلوم الإسلامية، وطبقة "المقلدين" المتمسكين ب"التراث".. وهو وضع قد يتطور إلى المطالبة بمساجد مصنفة على طريقة الفنادق، حيث تخصص الدرجة الأولى للعوام، والثانية لخواص العوام، والثالثة للخواص، والرابعة لخواص الخواص والخامسة وما فوقها ل"العباقرة" الذين جمعوا العلم من كل أطرافه، وحصلوا ما غاب عن السابقين واللاحقين.. حتى بلغة درجة "مؤمنون بلا حدود".. ** من حيث الموضوع: خلص الأستاذ بوهندي في مقاله إلى القول : "لقد فوتت علينا بعض المقولات الدينية التي كثيرا ما تنسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كذبا وزورا فرصة التعارف مع الأمم الأخرى والتعامل السوي معها، بل حجبت عنا هداية الكتاب المنير..".. وهو بطبيعة الحال لم يناقش هذه المقولات الدينية المنسوبة إلى :"رسول الله صلى الله عليه وسلم كذبا وزورا"، لا رواية ولا دراية، مع أنه حصر الموضوع في تفسير جزء من آية، وبالتالي لا أدري ما هي الأسس العلمية التي أوصلته إلى هذه الخلاصة. وحتى أضع القارئ في الصورة، أقدم نموذجا -بتصرف- لتفسير الآية السابعة من سورة الفاتحة، من كتاب التحرير والتنوير (المجلد الأول من الصفحة 195 إلى 200 -الدار التونسية للنشر 1984).. وأترك للقارئ الكريم التعليق.. يقول الشيخ الطاهر بن عاشور رحمه الله: "ومن غرض وصف (الذين أنعمت عليهم) بأنهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين التعوذ مما عرض لأمم أنعم الله عليهم بالهداية إلى صراط الخير بحسب زمانهم بدعوة الرسل إلى الحق فتقلدوها ثم طرأ عليهم سوء الفهم فيها فغيروها وما رعوها حق رعايتها، والتبرؤ من أن يكونوا مثلهم في بطر النعمة، وسوء الامتثال، وفساد التأويل، وتغليب الشهوات الدنيوية على إقامة الدين حتى حق عليهم غضب الله تعالى، وكذا التبرؤ من حال الذين هدوا إلى صراط مستقيم، فما صرفوا عنايتهم للحفاظ على السير فيه باستقامة، فأصبحوا من الضالين بعد الهداية إذ أساءوا صفة العلم بالنعمة فانقلبت هدايتهم ضلالا، والظاهر أنهم لم يحق عليهم غضب الله قبل الإسلام لأنهم ضلوا عن غير تعمد فلم يسبق غضب الله عليهم قديما، واليهود من جملة الفريق الأول، والنصارى من جملة الفريق الثاني كما يعلم من الاطلاع على تاريخ ظهور الدينين فيهم . وليس يلزم اختصاص أول الوصفين باليهود والثاني بالنصارى فإن في الأمم أمثالهم، وهذا الوجه في التفسير هو الذي يستقيم معه مقام الدعاء بالهداية إلى الصراط المستقيم، ولو كان المراد دين اليهودية ودين النصرانية لكان الدعاء تحصيلا للحاصل فإن الإسلام جاء ناسخا لهما . ويشمل المغضوب عليهم والضالون فرق الكفر والفسوق والعصيان، فالمغضوب عليهم جنس للفرق التي تعمدت ذلك واستخفت بالديانة عن عمد أو عن تأويل بعيد جدا، والضالون جنس للفرق التي أخطأت الدين عن سوء فهم وقلة إصغاء; وكلا الفريقين مذموم لأننا مأمورون باتباع سبيل الحق وصرف الجهد إلى إصابته ، واليهود من الفريق الأول والنصارى من الفريق الثاني . وما ورد في الأثر مما ظاهره تفسير المغضوب عليهم باليهود والضالين بالنصارى فهو إشارة إلى أن في الآية تعريضا بهذين الفريقين اللذين حق عليهما هذان الوصفان؛ لأن كلا منهما صار علما فيما أريد التعريض به فيه . وقد تبين لك من هذا أن عطف ولا الضالين على غير المغضوب عليهم ارتقاء في التعوذ من شر سوء العاقبة لأن التعوذ من الضلال الذي جلب لأصحابه غضب الله لا يغني عن التعوذ من الضلال الذي لم يبلغ بأصحابه تلك الدركات، وذلك وجه تقديم المغضوب عليهم على ولا الضالين، لأن الدعاء كان بسؤال النفي، فالتدرج فيه يحصل بنفي الأضعف بعد نفي الأقوى، مع رعاية الفواصل..".. ٭خريج جامعة القرويين http://facebook.com/my.bahtat