توقف الدكتور مصطفى بوهندي، مدير مركز أديان للبحث والترجمة بالمحمدية، عند فهم الوعاظ وخطباء المساجد لسورة الفاتحة، واعتبار أن المغضوب عليهم الواردة فيها هم اليهود، وأن النصارى هم الضالون"، مبرزا خطأ هذه المقولة لكونها تفضي إلى "حالة اطمئنان خادع وغرور كاذب". ويشرح بوهندي، في مقال خص به هسبريس وسمه بعنوان "أماني"، أن حديث القرآن عن المغضوب عليهم والضالين شمل اليهود والنصارى والمسلمين وغيرهم، وحديثه عن المنعم عليهم شملهم جميعا كذلك"، مشيرا إلى أن "كثيرا من المنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين المذكورين في القرآن إنما كانوا من اليهود والنصارى". وهذا نص مقال بوهندي كما ورد إلى الجريدة: أماني حدثنا الإمام في المسجد الجامع عن فاتحة القرآن وأهميتها في القرآن والديانة الإسلامية، حتى إن الصلاة لا تجوز من غير قراءتها، وذكر من فضائلها ما شاء الله أن يذكر، معتبرا، بناء على أحاديث معروفة أوردها، أنها تقسم إلى ثلاث أقسم، الأول لله تعالى وهو تعظيم وتمجيد له، والثاني هو بين العبد وربه، والثالث هو للعبد وحده وللعبد ما سأل. ثم أفاض في شرح القسم الثالث، مبينا أصناف الناس المنعم عليهم والمغضوب عليهم والضالين، وبيّن بناء على بعض الأحاديث أيضا، أن المغضوب عليهم هم اليهود وأن الضالين هم النصارى. لم تكن هذه الخطبة بصيغتها المذكورة أمرا جديدا عند خطباء المساجد ووعاظها، ولا في كتب المسلمين وتراثهم، لكنني رغم ذلك انزعجت من حالة التطمين الخادع التي يقوم بها هؤلاء الأئمة، وهم يخبرون الناس أن أمرهم في الدنيا والآخرة قد حسم، فاليهود والنصارى هم المغضوب عليهم وهم الضالون، وأما "المسلمون" فهم من أمة المنعم عليهم، المهديون أصحاب الصراط المستقيم؛ وما فاتحتهم التي يقرأون، و لا دعاؤهم الذي يدعون إلا تحصيل حاصل، فهم يقولون اهدنا وهم مهديون، ويقولون "إلى الصراط المستقيم" وهم على الصراط المستقيم؛ ويقولون "غير المغضوب عليهم" واليهود هم المغضوب عليهم؛ ويقولون "ولا الضالين" والنصارى هم الضالون. حالة الاطمئنان التي يسعى الخطباء إلى تبليغ الناس إليها، هي أمنية كاذبة لا يقوم عليها برهان من عقل ولا دليل من قرآن؛ بل إن القرآن الكريم وهو يقوم بمراجعته النقدية للفكر السالف في اليهودية والنصرانية، كان يصحح حالة الوهم هذه، مبينا أنها أماني زائفة تتمسك بها جهات دينية، قال تعالى: "وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ، بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ، وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ . البقرة 111-113. لقد رد هذا النص على الأمنية اليهودية والنصرانية بدخول الجنة لطوائفهم دون غيرهم من العالمين، على أساس عنصري، لكونهم يهود أو نصارى، مبينا أن ذلك مجرد وهم وأمنية زائفة يتمسك بها الذين لا يعلمون. لكن هذا النص كما أنه يرد على الخطاب الطائفي والعنصري في اليهودية والنصرانية، فإنه يعترف لهم بدخول الجنة، "بلى"، و بأن الله لا يضيع أجورهم يوم العرض عليه، إذا كانوا ممن أسلموا وجوههم لله وكانوا من المحسنين فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. يتضمن هذا الرد القرآني بيانا آخر في غاية الأهمية، يتعلق ب "الاستخفاف" الذي يقوم به الخطاب الديني في مواجهة المخالفين، فهم ليسوا على شيء. يقول اليهود إن النصارى ليسوا على شيء. ويقول النصارى إن اليهود على شيء، مع أن كتاب النصارى المقدس، يحتوي في الجزء الأساسي منه على كتاب اليهود، الذي يطلقون عليه أسفار العهد القديم، وهو المعتمد عندهم في الدين، يؤمنون به، ويتلونه في صلواتهم وطقوسهم ويعملون بتعاليمه. هناك صنف ثالث من الناس ورد في هذا الرد موصوفا ب "الذين لا يعلمون": " قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ". إن السبب الرئيسي في الاستخفاف بأديان الناس وثقافاتهم وأشيائهم هو الجهل وعدم العلم؛ فالذين لا يعلمون في أمور الأديان شيئا هم الذين يستخفون بها، ويقولون عن أهلها "ليسوا على شيء". ثم قدّم لنا هذا البيان القرآني حسما في مسألة الخلاف بين اليهود والنصارى والذين لا يعلمون لكنهم يقولون مثل مقولات اليهود والنصارى المستخفة بالمخالفين، جاء فيه: " فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ." وحسب هذا البيان فعلى أهل الأديان أن يكلوا الحكم إلى الله في أمر "أصحاب الجنة وأصحاب النار" و"الذين هم على شيء والذين ليسوا على شيء"، فالأمر لا ينبني على الرغبات والأماني: " ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا. النساء 123. وليس بالادعاءات والمقولات: "وقالت اليهود والنصارى نحن ابناء الله واحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل انتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السماوات والارض وما بينهما واليه المصير. المائدة 18. لم يكن القرآن الكريم دعوة إلى الطائفية والعنصرية والتفاضل بين الناس بسبب الانتماءات المختلفة، وإنما كانت غايته استعادة المباديء الدينية التي تركها أهل الأديان وراء ظهورهم وأضاعوها، واتبعوا بدلها أوهاما وآماني ما أنزل الله بها من سلطان؛ ولذلك كان يبين لهم أن إقامة ما عندهم من الكتاب هو الذي يجعلهم على الصراط المستقيم، قال تعالى: قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والانجيل وما انزل اليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم ما انزل اليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تاس على القوم الكافرين. النساء 68. إن مقولة اليهود هم المغضوب عليهم والنصارى هم الضالون يترتب عليها أن "المسلمين" هم المنعم عليهم أصحاب الصراط المستقيم، وهي حالة اطمئنان خادع وغرور كاذب يصرفنا إليها خطباء مساجدنا. إنهم بفعلهم هذا يهدمون منظومة القيم الدينية الكونية من أساسها، وعلى رأسها العدل والإحسان والتعارف والتعاون والأخوة والعمل الصالح والرحمة والمساواة والإنسانية ويحلّون محلها قيم الظلم والبخل والصراع والفرقة والطائفية والاستبداد... حديث القرآن عن المغضوب عليهم والضالين شمل اليهود والنصارى والمسلمين وغيرهم، وحديثه عن المنعم عليهم شملهم جميعا كذلك، ومنه التذكير الكبير بنعمته على بني إسرائيل؛ بل إن كثيرا من المنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين المذكورين في القرآن إنما كانوا من اليهود والنصارى، قال تعالى: "ومن يطع الله والرسول فاولئك مع الذين انعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن اولئك رفيقا." النساء 69. لقد فوتت علينا بعض المقولات الدينية التي كثيرا ما تنسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كذبا وزورا فرصة التعارف مع الأمم الأخرى والتعامل السوي معها، بل حجبت عنا هداية الكتاب المنير.